د. سعاد الحاج موسي
5 سبتمبر 2020
الى أهل الحكم وصناع الثورة في بلادي في أي موقعٍ تكونوا
في البدء نهنئ بناتنا وأولادنا التلميذات والتلاميذ، في عمر الأربعة عشر ربيعاً، على تفوقهم في امتحانات مرحلة الأساس التي اقيمت في يوليو الماضي في ظل ظروف مشحونة بالمعضلات والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليس باقلها فظاظة جائحة كوفيد – 19، والأمطار والسيول في مناطق الريف، والاعتصامات والغلاء الطاحن وأزمة الرغيف والوقود والمواصلات الخ.
ولا عجب، فقد تصدرت المدارس الخاصة التي انتظمت البلاد طولا وعرضاً قائمة التفوق، طلابا ومدارس، فكانوا العشرة والمئة والألف الأوائل! كيف لا وهذه المدارس يصرف فيها أولياء الأمور الغالي والرخيص لضمان حصول أبنائهم على النتائج الباهرة وليس لمجرد النجاح، فالدروس الخصوصية شاعت وسادت وصارت مصدر الرزق الأساسي للمعلمين والمعلمات، واجتهدت الاسر في توفير احتياجات أطفالهم الأخرى، خاصة أوقات الامتحانات، من تغذية جيدة ومواصلات وقبلها توفير القلم والكراس والكتاب مشفوعاً بمتابعة دقيقة ومنتظمة في المنزل وتهيئة معدات وأجواء الاستذكار المادية والنفسية، لهم. أما من لا يملك ولا يمتلك أهله أي غالٍ أو رخيص، فقد تذيلوا قائمة النتائج بهدوء ودون نزاع!
هذه النتيجة الأولية قسّمت الأطفال واسرهم الي قسمين: أهل اليمين وتعلو وجوههم غبطة ويغمر الانشراح أفئدتهم، وأهل الشمال وتعلو وجوههم غبرة الحزن وترهقها قترة الاحباط، فقد اعتادت الأقدار العبس في وجوههم قبل وبعد الامتحانات، ورمت إليهم بنتيجة حمراء الخطوط يبتئس لها الناظرون – فلا مدارس مؤهلة ولا كتاب ولا دروس خصوصية ولا وجبة تسد الجوع؛ ويُمْني الكثيرين منهم تمسك جل الوقت بمِقْوَد اسرهم وتتحين الفرص للامساك بالقلم. وهنالك الآلاف من أبناء الريف ممن تخلف عن حضور الامتحانات ولا يبالي أحد، وهؤلاء قُدِّرت أعدادُهم بنحو ال 1366 بشمال دارفور، و536 بغرب دارفور، و499 بجنوب دارفور و149 بوسط دارفور، أي يكاد ينحصر الغياب في ولايات دارفور، في أريافه. والموانع تتمحور حول الفقر، المرض، الضعف الجسدي، الأمطار والسيول التي قفلت الطرق المؤدية الي مراكز الامتحانات، والخوف من عدم النجاح، والتشاؤم بفعل عدم وجود مدارس ثانوية قريبة أو داخليات، خاصة للبنات، الخ، تتعدد الأسباب وموت الأمل واحد!
وهذه ليست نهاية القصة والتوتر! فمصير النجاح المؤكد لم يحسم بعد! فبعد قليل سيقرر التوزيع من سيتألق ومن سيندثر من فئة الناجحين. فالمتألقون هم السابقون المقربون لمنارة المستقبل ومسيرة التأهيل والنضج لخوض سباق الطموحات والتطلعات للتفوق في دوري الجامعة الممتاز. بينما هناك في ركن قصي سيجلس الآلاف القرفصاء منهكين نفسياً حاملين أوراقهم بيسراهم ينعون حظوظهم التي ساقت إليهم هذه القسمة الضيزى، وتَشْرُد أرواحهم وعقولهم في تيه سرمدي قد لا يتعافون منه كاملاً، ويمزق الحزن أفئدة والديهم الأحياء بينما الدولة تعلن اندثارهم بدمغهم بوصمة “الفاقد التربوي”! وصفٌ تكثر من استخدامه الدولة ومؤسساتها التعليمية في منصاتها ومناهجها وكأنها تتشفي في حال الفقراء والمحرومين ولا تُسائل نفسها عما اقترفت من جرم بوأد حق هؤلاء الأطفال بآلة سياساتها الظالمة منذ الاستعمار والتي تبنتها نخبنا المركزية الحاكمة بلؤمٍ وسوء نية. فالتوزيع يعتمد على عدد المدارس الثانوية المتوفرة وليس علي حق كل ناجح في الالتحاق بالمرحلة، أي انه يرتبط بنزعات الحكام وليس بحقوق الانسان!
مهمتنا في عهد الثورة أن نغير هذا الواقع الجائر والمتعَسِّف، ونقومه لمصلحة المواطن والوطن. فمنذ الاستعمار وما بعده لم تكن خدمات التعليم ما قبل الجامعي متوازنة لا كماً ولا نوعاً في مراحلها الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ولم تألو النخبة المركزية الحاكمة بأقسامها الطائفية والايدولوجية والتي حصلت بنفسها على التعليم بذات النهج النخبوي الذي وسم سياسات المستعمر في التعليم، لم تألو جهداً وما حرصت يوماً لقرابة سبعة عقود يباب، علي صياغة خطة وطنية لإتاحة فرص التعليم لجميع أطفال السودان، بل تحوصلت داخل دوافعها الاستعلائية والانتهازية للحكم، وعملت علي ترسيخ وإعادة انتاج الفراغ العريض في الوعي والادراك بالحقوق وممارستها.
فلو ألقينا نظرةً خاطفة الي عدد المدارس الثانوية الحكومية في معظم أقاليم السودان نلاحظ انها أقل من ربع المدارس الابتدائية ولا تسع لأكثر من سدس الجالسين للامتحانات في المرحلتين الابتدائيتين السابقتين (ابتدائي ومتوسط)، أي أن الدولة في بنيتها التعليمية قد حرمت، مع الإصرار وسبق الترصد، آلاف الأطفال من تكملة مشوار تعليمهم الأساسي وقذفت بهم الي اتون الضياع، وأنها حافظت على انتاج الجهل والتجهيل، خاصة في الهامش السوداني باتجاهاته الأربعة. فعدد السكان في تزايد مضطرد وكذا أعداد التلاميذ والتلميذات في تزايد كل عام ولكن لم تشهد المدارس الابتدائية والثانوية أي تطور كمي موازٍ، دع عنك النوعي، بل استمرت في التدهور بانتظام. أما المجتمع فصار يرزح تحت ثقل الحرمان وتراكمات المعاناة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال، خاصة بفعل تسكعهم نهاراً وليلاً خارج حدود رقابة المجتمع ورعايته التقليدية، ولمكوثهم داخل المنازل دون رعاية بسبب حرمانهم من دخول الفصول.
تنبهنا نتائج شهادة الأساس للعام الحالي 2019/2020 (أمثلة لنسب النجاح المرصودة للولايات: غرب دارفور %39، شمال دارفور %43، وسط دارفور %54.09، جنوب دافور %55.46، الجزيرة %69.2، شمال كردفان %77.6، الخرطوم %86.1)، تنبهنا بشدة الي أن العملية التعليمية في مرحلة الأساس لا تزال تعاني الكثير من التكلس ولم تفلح في اجتثاث الامية الأبجدية لأعداد هائلة من الأطفال الذين هم بذور مستقبل السودان. فلا جدال أن رسوب الراسبين قد تم بفعل سلوكيات الدولة السودانية المركزية ونزعاتها التي لا ناقة للأطفال فيها ولا جمل، واليقين أن ثورة العدالة، والسلام والحرية جاءت لمواجهة مثل هذه التوجهات السالبة التي أفرزت هذا الواقع الجائر، جاءت لسحقها واسدال الستار عليها. فكيف تسمح دولة الثورة والعدالة الناشئة في أولي عتباتها نحو إرساء السلام والعدالة، بأن يُقذف بهؤلاء الأطفال، رموز الثورة وقلبها النابض، يقذف بهم الي أحضان المجهول بكل ما يحوي من معاول الهدم لإنسانية الصغار وكرامتهم، أي استمرار معاقبتهم بجريرة فشل دولة النخبة وسوء تخطيطها واهمالها المتعمد، واستمرار تقديمهم وجبة سائغة للمعتوهين ومن في قلوبهم مرض من صقور المجتمع وذئابه، وهم في مرحلة أكثر ما يكونوا حاجة للرعاية والدعم والتوجيه وتقويم الطريق وتمهيده.
أيها السادة رعاة الدولة والثورة وقيمها الإنسانية: منذ رسو مركبة الثورة علي شاطئ بناء السودان الجديد، ظللتُ اناشدكم بين الحين والآخر للالتفات لبعض القضايا التي أجدها ملحة، ودأبتُ علي دعوتكم بإلحاح مدفوعة بروح وقيم الحرية والسلام والعدالة وايماني بالحقوق ولا أزال، لاعتقادي وايماني الراسخ بأن الحرية والسلام لا يقومان ولا يستقيمان دون ممارسة العدالة حقاً وواجباً ومسؤولية، وأن العدالة تبدأ بالاعتراف بالحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه لحماية المجتمع وتحقيق رفاهيته واستدامة سلامه، وهذه أراها تبدأ بحماية الأطفال وضمان حقوقهم وتأمين مسيرتهم ورعاية انطلاقتها نحو المستقبل لينشئوا علي قيم العدل والمساواة فيصيروا نساءً ورجالاً صالحين قادرين علي تولي شؤون المجتمع وتنميته وتسيير دفة حكم الدولة الراشدة والحفاظ علي الاستقرار. فالأطفال هم غرسة المستقبل فإن رعيناها ستنمو وتخضر وتُعطي وتزدهر، وان أهملناها سيرتد علينا تقصيرنا ولامبالاتنا بما لا نقبل ولا نأمل ولا نبغي.
السادة الاخوة والأخوات الأفاضل: عليكم واجب أخلاقي ووطني وانساني يحتم عليكم تصحيح هذا الخلل البنيوي في جسد الوطن واجتثاثه بإيقاف ماكينة صناعة وإعادة انتاج ما يسمي بالفاقد التربوي، والذي يُعد من الانتهاكات الشنيعة لحقوق الطفل المنصوص عليها في اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها دولة السودان في 1989 وأكد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك التزام الدولة بصون حقوق الطفل ورعاية الأطفال وتوفير الغذاء والصحة والتعليم لهم باعتبارهم المستقبل الواعد وذلك لدي لقائه المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف)، هنرييتا فور، كما أوردتها وكالة أنباء السودان الرسمية في أكتوبر 26، 2019. فمن واجبات الحكومة الانتقالية خلق الأجواء وتوفير المعينات للانتقال بالوطن والمواطن الي رحاب السلام والتنمية والديمقراطية كما شرعت الآن، وأري من أولويات هذا التوجه هو تعميم وتأمين حق تعليم الأطفال الي المرحلة الثانوية مما سيكون له وقعه الاستراتيجي والنفسي في إشاعة السلام وتقوية مبادئ الديمقراطية وممارستها وتحقيق التنمية المستدامة، وبلا شك ستكون من المنجزات التاريخية المضيئة للحكومة الانتقالية تميزها عن سابقاتها. وأوصيكم شاكرة بالآتي:
- استيعاب جميع الأطفال من مرحلة الأساس الي المرحلة الثانوية بكل الولايات
- أن يكون التعليم الابتدائي (أساس + الثانوي) اجبارياً وملزماً قانونيا على الاسر وأولياء الأمور
- تكوين وحدة متابعة بالمدارس والوزارات للتأكد من انتقال التلميذات والتلاميذ الي المرحلة الثانوية
- العمل على دعم التلاميذ والتلميذات الفقراء واسرهم لضمان استمرارهم في الدراسة
- تكوين لجنة مشتركة من المرحلتين مدعومة بمنظمات المجتمع المدني والدولي، وعقد مؤتمر جامع لمناقشة قضايا التعليم بالمرحلتين تسبقه مؤتمرات ولائية في ذات الشأن.
- أعادة صياغة الهدف من امتحان شهادة الأساس على ألاّ يتعارض مع حق الطفل في دراسة الثانوي دون شروط.
والا ّفإلى اين نُرسل هؤلاء الأطفال الذين بلغ تعدداهم أكثر من ثمانين ألف طفل في خمس ولايات فقط: شمال ووسط وغرب وجنوب دارفور والجزيرة وشمال كردفان من جملة أكثر الولايات هشاشة سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية، دعونا لا نرسلهم الي الجحيم ليحترقوا!
ولكم التقدير أجزله
د. سعاد الحاج موسي
[email protected]