بسم الله الرحمن الرحيم
أظرف ظرفائها
الفاشر تُودع خليــل شُقَّة ..حبيبو
فُجعت مدينة الفاشر برحيل أهم رموزها وشخوصها الإجتماعية السيد/ إبراهيم الخليل أحمد فضل الله الشهير بخليل شقة، ظريف المدينة وفاكهة مجالسها وملماتها .. لقد كان خليل نسيجاً فريداً فى مجتمع فريدٍ هو مجتمع مدينة الفاشر .. هذا المجتمع المدهش الذى وحتى عهدٍ قريب لا يحرص أهله على معرفة أسماء قبائل بعضهم البعض ولو عرفوا لا يأبهون و لذلك تراهم يتدافعون زُمراً، فرحاً وكرهاً، لايكترثون إلا لحسن المعشر وسلامة السريرة ، ولذا كان القسم الأعظم لإكتراثهم كان من نصيب خليل شقة ، وهو ظاهرة إجتماعية تستحق أن يُفرد لها مساحات لدراستها ،والوقوف على طاقاتها الإجتماعية وقدرتها الفذة على التغلغل فى وجدان الناس.
نشأ خليل فى مدينة الفاشر، درس فى خلاويها ومدارسها .. لم يواصل تعليمه .. ولكن محبة أهل الفاشر له.. كانت أرفع شهادة علمية تُطوق عنقه .. ولج باب كسب العيش عن طريق مهنة الحلاقة .. وخلال رحلته فى هذه المهنة عمل حلاقاً للمعتقلين السياسيين بسجن شالا الذى كان يضم فى قلاعه العديد منهم.. خاصة خصوم حقبة ثورة مايو ، فكان منهم أبو القاسم محمد إبراهيم و الشاعر فضيلى جماع ، ومن طرائفه فى مهنته هذه ، صادف أن غضب الرئيس الراحل النميرى من أحد الضباط بعد أن لاحظ كثافة شعره فأمره بالحلاقة ، فذهب إلى صالون الملتقى للأناقة وبعد الإنتهاء من حلق شعره أراد الضابط أن يدفع القيمة إلا أن خليل رفض إستلام المبلغ قائلاً للضابط أن حلاقته هذه جاءت بقرار جمهورى ولذا يجب أن تُسدد الدولة الفاتورة.. وقام بالفعل بتقديم فاتورة الحلاقة إلى الإتحاد الإشتراكى وكان صديقه السيد يوسف بدين آنذاك أميناً للإتحاد الإشتراكى ..والذى بدوره أخبرالسيد الطيب المرضى الحاكم السابق لإقليم دارفور بهذه الطرفة فضحك ووجه بتسديدها.
بدأ يأخذ مكانه فى مجتمع مدينة الفاشر الذى كان يضم فيمن يضم أناس من كل أنحاء السودان بل وحتى من خارجه .. فأصبح من أهم أفراده، فلقد أسر الناس بطيب معشره وحسن مؤاساته ولطيف مجاملاته لهم فى السراء والضراء، ومما زاد فى ألقه أن حباه الله سرعةً فى البديهة وقدرةً على الظرف وإبتداع المُلح والنكات فتخرج من فمه بسهولةٍ بالغة، فأحبه الناس ودخل وجدانهم من أوسع الأبواب إذ تضافرت كل خصاله هذه ليحتل مكانةً سامقةً فى قلوبهم وأفئدتهم بدرجةٍ يصعب وصفها، بل صار أحد أهم ظرفاء المدينة ، فما أن يأتى ذكره أو يقابله أحد إلا ويعلو محيا ملتقيه ومُتذكريه البشر والإبتسام .. أيضاً من سماته التى جعلته “يتحكر” فى الأفئدة هى مشاركتة الجادة للناس همومهم .. فما أن يصيب أحد من أفراد مجتمع الفاشر ، نازلة أو مصيبة ، إلا وكان خليل شُقة من أول المُواسين وما أن تحل الأفراح بدار أحد إلا وكان هو أول المهنئين بل يصل به الأمر أن يتصدر مشاركة الناس قولاً وعملاً حتى تحسب أنه هو صاحب المناسبة فتراه يذهب جيئةً وذهاباً يخدم الضيوف وهو يوزع طُرفه وإبتساماته وضحكاته الودودة المجلجلة وهو ينادى الجميع بإسم الحبيب أو حبيبو ولو قُدِّر له أن يعيش عمراً أطول لطغى عليه لقب حبيبو بدلاً من لقب شُقّه من كثرة مناداته للناس بها.
إفتتح صالون الملتقى للأناقة فى سوق الفاشر الكبير.. وكان صالوناً أدبياً وإجتماعياً وثقافياً ورياضياً ، يلتقى فيه كبار الموظفين وقادة الجيش والشرطة والشعراء والفنانون والرياضيون وكان صديقاً لكل الحكام والقيادات السياسية و لواءات الجيش والشرطة الذين تعاقبوا على قيادة القوات النظامية فى إقليم دارفور.أصدقاء خليل الكثر تخطوا حاجز مدينة الفاشر فكان منهم الموظفين الذين يأتون إلى المدينة من شتى بقاع السودان فيكونون فى أول الأمر غرباء ولكنهم سرعان ما يندمجون فى المجتمع عندما يتحسسون طريقهم إلى صالونه الأنيق الذى سرعان مايصبح قبلتهم ووجهتهم الدائمة ومكاناً يلتقون فيه بوجهاء المدينة وظرفائها وينسجون العلاقات الإجتماعية الطيبة والتى تظل قائمة حتى بعد أن يُغادرون ويعودون إلى ديارهم.
الكلمة الطيبة والطرفة الذكية هى هداياه اليومية لكل من يلتقيه منذ الصباح وهو متوجهاً إلى مكان عمله ، فيسرى بين الناس كما النسيم العليل وهو فى طريقه إلى صالونه الأنيق الذى تُزيِّن جدرانه صور العديد من زعماء السودان وقادته من السياسيين .. وله مع كل صورة معلقة فى جدار صالونه قصة تحكى عن عظمة هذا الرجل وبساطته الآسرة تلك البساطة التى لوَّن بها مجتمعات المدينة ليتمترس فى ذاكرتها .. فكان صالونه بمثابة معرض لصور الزعماء السودانيين والزعماء العرب إسماعيل الأزهرى ، السيد مبارك زروق وزير الخارجية الأسبق ، وصديق عبد الرحمن المهدى و الفريق إبراهيم عبود ، و سر الختم خليفة رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية بعد أكتوبر ،والسيد على الميرغنى والصادق المهدى وجعفر النميرى وأبو القاسم محمد إبراهيم وخالد حسن عباس والمشير سوار الذهب والدكتورالجزولى دفع الله و جمال عبد الناصر ومعمر القذافى والملك فيصل العاهل السعودى الأسبق والرئيس أنور السادات والرئيس حافظ الأسد وبعض شخصيات مدينة الفاشر التى إشتهرت بالظرف مثل حسن كولمى وأب قرشين وعز الدين وهم والذى لقب بوهم نسبة لتعليقه على الإستفتاء الذى أجراه النميرى بعد إنقلاب هاشم العطا حيث أصبح يردد بعد ظهور نتيجة الإستفتاء وفوز النميرى بنسبة 99% قائلاً “قلناها نعم .. وعشناها وهم ” عزيزى هل دخلت يوماً مكاناً ما فى السودان ووجدت فيه مثل هذا المزيج من صور الزعماء والشخصيات ؟ ماذا كان يدور بخلد خليل هو فى غاية الحرص على الحفاظ على هذه التوليفة العجيبة من الصور النادرة للزعماء ؟، ومن عاشروه يعلمون جيداً إعتزازه بهذه الصورالتى جعل من جدران صالونه معرضاً لها .
إنها صلات تحكى عظمة تلك المدينة التى صمدت فى وجه الظلم والإهمال .. تُجابه كل الضوائق والبوائق بصدرها العارى زادها فى الصمود تلك النموذجية الإجتماعية الفريدة لأهلها الذين يمثلهم خليل ورصفاؤه ومن دار فى فلكهم بالحسنى والحرص على إشاعة السلام الإجتماعى فى حياتهم ، والذين ساقتهم أقدارهم للعمل فى مدينة الفاشر من مختلف أنحاء السودان يدركون جيداً هذه الخصال الإجتماعية ويذكرون المدينة وأهلها بالخير وخليل له القدح المُعلى ضمن من أسهموا فى خلق هذه السمعة الطيبة لمدينة الفاشر ومجتمعها .
ومن نوادره عندما جاء أحد شيوخ الطرق الصوفية فى زيارة إلى مدينة الفاشر ولما كان موكب الشيخ الزائر قادماً من مطار الفاشر ماراً أمام صالونه وقف ومعه حشد من الناس يردد الشيخ سيروه ،وكانت أُغنية الشيخ سيروه لأبن البادية تحتل ساحة الأغنية ، ومن أقواله أيضاً تبكى بس وتقش دموعك بالدس فى إنتقاده للوضع السياسى وسوء الأحوال الإقتصادية . ويردد دوماً بيت الشعر الذى يقول :- إذا قل مالى فلا خلٌ يصاحبنى ….وفى إزدياد مالى كل الناس خلانى …ثم يتبع بيت الشعر قائلاً من أقوال الحلاق ، تم إختياره عضواًً بالمجلس التشريعى لمحلية الواحة وكان عازفاً بفرقة فنون دارفور وإشتهر بأغنية خليل يا خليل.. خليلك وين.. أنا ما بنوم بالليل ولا يخفى على القارئ طرفة إختياره للأغنية.
هكذا رحل نجم نجوم مدينة الفاشر وسيد ظرفائها ووجهائها و أهم معالمها فى رتل السابقين أمثال عز الدين وهم .. وإساغا جداد .. وعمك التهامى .. وعلى بدين .. ومطعم بكراوى .. وفرن أُستراتى .. ومنجيلى.. ومماكوس.. وباسكالى..وباخوم توما .. وحسن كولمى “حسن أولاد الريف” .. ودمغة ..وآخرين لم تُسعفنا الذاكرة لذكرهم .. أين هم الآن؟ نجومٌ من مختلف أركان الدنيا ! إنهم نجومٌ لمعت فى سماء مدينة الفاشر ثم خبأ ضوؤها لتختفى فى الأفق البعيد مثل الشُهُب والنيازك أو كالنوارس العابرة التى تنزل بأرضٍ لتحسو عدة حسواتٍ من الماء ثم تستأنف طيرانها المُرهق لتغيب فى الأقاصى البعيدة ويطويها غبش الزمان.
أخى خليل وأنت فى عليائك أسمح لى اليوم أن أُناديك .. حبيبو .. مثلما كنت تسمى كل أحدٍ من أهلك أهل مدينة الفاشر ، أخى مما ضاعف حزننا على فراقك هو أننا لم نستطع أن نستنطقك عن ذكرياتك مع الحياة لنقف على سر ألقك الطاغى ونجاحك فى أسر الناس حتى تهدى الأجيال القادمة نموذجاً يُحتذى به فى الحب واتقاء الشرور ، أسأل الله العلى القدير أن يُجزيك عنا خير الجزاء بعدد خلقه وأن يضع فى ميزان حسناتك أجر كل بسمةٍ أنت كنت سببها وثواب كل فرحةٍ أدخلتها إلى قلوب من عاشرت وعرفت وأن يتغمدك برعايته يوم تزل الأقدام ويوم لاينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ونشهد أن قلبك كان سليماً وأن ينزل عليك شآبيب رحمته و أن يجعل الجنة مثواك .