السودان….إلى أين المصير ؟ (12)
الضلع الثاني: التحول الديمقراطي وتقرير المصير
بقلم :د. منصور خالد
التسامح بين أهل الديانات المختلفة في وطن تتقاطع تنوعاته ذات الصنوف هو الأساس المكين لنمو الديمقراطية، كما هو الركن الحصين للوحدة الوطنية. ولو لم يتم حسم أمر العلاقة بين الدين والسياسة في ماشاكوس، لما كان هناك اتفاق. من وجوه ذلك الحسم النص على احترام الدولة لما يلي: لعبادة والتجمع وفقاً لشعائر أي دين أو معتقد ـ كتابة وإصدار وتوزيع المطبوعات الدينية ـ تدريس الدين أو المعتقد في الأماكن المناسبة لهذا الغرض (المادة 6 من الدستور)
كما نص الدستور في المادة 3/39، وفي لغة واضحة وضوح الشمس: «تلتزم كافة وسائل الإعلام بأخلاق المهنة وبعدم إثارة الكراهية الدينية أو العرقية أو العنصرية أو الثقافية أو الدعوة للعنف أو الحرب». ألزم الدستور أيضاً كل المواطنين «ب» نبذ العنف والعمل على تحقيق التوافق والإخاء والتسامح بين أهل السودان كافة تجاوزاً للفوارق الدينية واللغوية والطائفية» المادة ( 32 «2» ب). رغم كل هذه الالتزامات الدستورية برزت بعد توقيع الاتفاقية وإقرار الدستور بعض المطبوعات والفتاوى المنسوبة لجماعات دينية تحض على، أو تثير، الكراهية ضد أهل الديانات الأخرى، تارة في المساجد، وطوراً في الصحف، وتارات أخرى في الشرائط المسجلة التي تذاع داخل الحافلات. من تلك المطبوعات التحذير الذي أصدرته الرابطة الشرعية للدعوة في فتوى مؤرخة 25/6/2005 وجهته للمسلمين السودانيين لكيلا ينضموا «لأحزاب الكفر» كالحركة الشعبية، أي الحركة التي يقودها النائب الأول لرئيس الدولة، وهي الدولة التي ترفد بالمال تلك الهيئة الدعوية. ولحقت تلك الفتوى أخرى رمت الحزب الشيوعي بالكفر عقب افتتاح داره بالجريف غرب في أغسطس 2009م.
ومهما اختلف الناس سياسياً مع الشيوعيين فالرمي بالكفر حيلة رمزية قديمة ظل يتوسل بها البعض لأبلسة الآخر المخالف. ذهب نفس العلماء في صبيحة السابع من ديسمبر إلى إطلاق سهامهم الصدئة على ما أسموه «تحالف الشيوعيين ومن يواليهم ممن ينتسب إلى الإسلام مع الحركة الشعبية لمحاولة نشر الفتنة». فإن كانت الحركة الشعبية والشيوعيين هما مبعث الشرور أو لم يكن الأجدر بهؤلاء العلماء أن يوالوا إصدار فتواهم هذه كلما اجتمعت قيادات المؤتمر الوطني مع قيادات الحركة للتقرير في أمر حكم البلاد، وكلما التقى رئيس الدولة الإسلامية بقيادة الشيوعيين، أو ليس الدين هو النصيحة؟ الأمر، من أو له إلى آخره، هو سفاسف سياسية تسيئ إلى الدين والسياسة معاً ولا تستمد قوتها إلا من صفاقتها لسنا، على أية حال، في مجال المجادلة الفقهية مع أصحاب هذه الفتاوى لأن الجدل يستحيل مع من لم يمنحهم الله فضيلة التواضع المعرفي. ففقهاء الزمان السالف كانوا يصدرون الأحكام ثم يقولون «والله أعلم». ما نستهم به، إذن، هو دور الأجهزة المناط بها تنفيذ القانون.
والتي ظلت تتابع عن كثب الصحف والمطبوعات بغرض الرقابة على الأخبار التي من شأنها استهداف السلام العام. تلك الأجهزة لم تحرك ساكناً إزاء ذلك، ناهيك عن أن تحاسب، ناشري هذه المطبوعات الاستفزازية والمخالفة للدستور. لهذا فمن حق أي مواطن يلتزم جانب الدستور، مسلماً كان أم غير مسلم، أن يتساءل عن دواعي هذه اللامبالاة تجاه ممارسات تهزز أركان الدستور وتجعل من الوحدة خياراً غير جاذب للمواطن غير المسلم، إن كان هناك اكتراث أصلاً لنشر التسامح والإخاء بين أهل السودان أو لإرساء قواعد الوحدة، كما وجه الدستور.
نعم، المواطن لا تعنيه في شيء فتاوى أناس أستقر رأيهم على أن العالم ينقسم إلى فسطاطين: فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، لايبالي الواحد منهم أو يهتم بالنتائج التي تترتب على فتاواه. ولا تعنينا أخلاط الفتاوى التي يصدرها فريق «يكتمون الحق وهم يعلمون»، فحساب هؤلاء عند ربهم. الذي يعنينا، ويعني المواطن، هو الدولة التي تدبر الأمور في البلاد، ويضبط وقع خطوها دستور واضح المعالم يدعو للتسامح الديني والتعايش السلمي بين المواطنين، بل ويقول إن «التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني هو أساس التماسك القومي ولا يجوز استغلاله لإحداث الفرقة» المادة (4ج).
لقد ارتكبت جريدة الرأي العام جرماً خطيراً عندما نشرت خبراً عن اجتماع لمجلس الوزراء فاقتيدت للمحكمة. ونشرت جريدة الأيام خبراً حول انفجار في وزارة الدفاع قيل إنه يهدد السلامة الوطنية فاقتيدت هي الأخرى لدور العدالة. واجترأ ياسر عرمان بالحديث عن بوليس النظام العام مما حُسب تشهيراً بتلك المؤسسة فقامت الدنيا ولم تقعد بعد إزاء ذلك الجرم الخطير. ويبدو لنا أن كل هؤلاء قد جَرُموا في رأي الأجهزة العدلية جرامة أعظم بكثير من تلك التي أحدثها مثيرو الفتن بين أهل الأديان.
وعلى كل، يستفز المرء أنه كلما ارتفع صوتُ مسؤولٍ من الحركة الشعبية ليُذَكِر من شاء أن يتذكر بتلك الخروقات للمستحقات الدستورية والتي نبهت إليها الرئاسة في قرارها الجمهوري في نهاية عام 2007م، إلا واندفع بعض المعلقين لوصم الحركة بأنها تتصرف كحزب معارض، لا كحزب شريك في الحكم.
وكأنا بهؤلاء يظنون أن الشراكة هي شراكة في المظاهر الصورية للحكم، لا في مقاصده وثباته عندما دعا إليه، وبشر به ثم وأقسم قسماً غليظاً على الالتزام بدستوره. ولأن يغمط المرء الحق وهو يعلمه فذلك زوغان عن القصد، ولئن كان لا يعلمه فتلك مصيبة. فالتحول الديمقراطي لا يعني أو ينفع حزباً بعينه وإنما تعم فيوضه على الجميع، ومنهم وسائل الإعلام.
الوحدة الوطنية
نصت اتفاقية السلام الشامل والدستور (المادة 21) على ما يلي: «تبتدر الدولة عملية شاملة للمصالحة الوطنية وتضميد الجراح من أجل تحقيق التوافق الوطني والتعايش السلمي بين جميع السودانيي» من جانب آخر، أوكلت مصفوفة التنفيذ (وسائل تنفيذ بروتوكولي ماشاكوس واقتسام السلطة) للرئاسة إجراء عملية «المصالحة الوطنية وتضميد الجراح» بعد اعتماد الدستور الانتقالي. ورغم أن هذا النص هو شرط وجوب لكي ما يكون السلام شاملاً، لم تتم حتى اللحظة تلك المبادرة أي بعد انصرام خمس سنوات من الفترة الانتقالية.
المصالحة الوطنية ذات أهمية قصوى لأمرين: الأول هو توطيد أركان السلام بإجماع كل القوى السياسية على مستلزماته ومستحقاته، والثاني هو تحقيق وفاق شامل يمتد أثره لما بعد الفترة الانتقالية. الوفاق الذي نتحدث عنه لايقتصر على الاتفاق بين الأحزاب السياسية على برنامج عمل، أو مبادئ هادية للحكم، أو مشاركة فيه. فرغم أهمية هذه القضايا للوحدة الوطنية، لابد من أن يمتد ذلك الوفاق ليشمل المجتمع كله.
مثال ذلك الوئام بين القبائل التي تصطرع حول الموارد الطبيعية، (في الشمال والجنوب)، التصالح والتعافي بين الجيشين المتحاربين، تعميق روح التسامح بين أهل الديانات المختلفة، التعليم بحيث يتربى طلاب المدارس والجامعات على ثقافة السلام، أجهزة الإعلام بحسبانها أهم أدوات التبشير بهذه الأفكار والمعاني.
هذا هو ما عنته مصفوفة التنفيذ بالحرف، وما أمن عليه القرار الرئاسي (341) وحدد موعداً لتنفيذه (مايو2008م) ولعلنا لو التزمنا بما جاءت به الاتفاقية والدستور، وما أمر به القرار الرئاسي لمَلَكنا الاتفاقية للشعب السوداني كله ولتجاوزنا الجفاء السياسي المضطرد بين الحزبين الشريكين من جهة، وبين حزب المؤتمر والأحزاب المعارضة من جهة أخرى.
الوحدة الوطنية على أعينهم
في سبتمبر الماضي سنحت للمؤتمر الوطني فرصة للاستجابة للدعوة التي وجهتها الحركة الشعبية لكل القوى السياسية السودانية، بما فيها المؤتمر الوطني، للتفاكر حول موضوع الوحدة الوطنية.
السؤال الذي يدور في الخاطر: لماذا امتنع، بل أبي مستكبراً، حزب المؤتمر المشاركة في ذلك المنتدى، بالرغم من أن الداعي إليه ظل يقول إن العقد لن يصبح نضيداً إلا عندما ينضم إليه شريكه في الحكم. لنكن صرحاء مع بعضنا البعض، «فالذي يفرق بين الناس ليس هو الذي يقال بل الذي لا يقال». ذلك تعبير أنشأه صانع كلام يحسن انتقاء الكلمات: فرانسيس دينق.
المؤتمر الوطني لا يعادي الوحدة الوطنية بدليل أنه يؤكد في كل محفل حِرصَه على الشراكة مع الحركة الشعبية، ولا يكل عن السعي للتصالح مع حزب الأمة، ويداوم على لقاء الميرغني بهدف توافق سياسي معه ومع حزبه، ولا يجد حَرجاً في الحوار مع الحزب الشيوعي، ثم لا يني في الجهد لاستئلاف الأحزاب كلها صغيرها وكبيرها حتى تنخرط في مبادراته العديدة، وآخرها مبادرة أهل السودان حول دارفور، وتلك التي سعى عبرها لحشد كل القوى السياسية السودانية وراء موقف السودان من المحكمة الجنائية الدولية.
فلماذا إذن ينفر عن محفل قد يكون في مداولاته ما يفضي بالسودان إلى «الوحدة الوطنية» التي دعت لها الاتفاقية في 9 يناير 2005م، وأمر بها الدستور في (المادة 21)، وأستذكرها القرار الرئاسي في ديسمبر 2007م؟ تفسيرنا لهذه الأغلوطة هو أن حزب المؤتمر يريد وحدة وطنية على عينه. وحدة وطنية لايدفع فيها الا أقل الأثمان، تماماً كما يريد سلاماً بلا ثمن.
فهو يريد شراكة مع الحركة الشعبية وفق شروطه، لا الشروط التي نصت عليها الاتفاقية، وما وضعت الشروط في العهود إلا ليلتزم بها من تشارطوا عليها. فمع حرصه على الشراكة مع الحركة إلا إنه لا يسعده كثيراً انصراف الحركة بمفردها للتشاور أو التوافق مع القوى الأخرى حتى ولو كان ذلك التوافق على إنفاذ اتفاقية هو واحد من صانعيها. بالطبع، من حق أي حزب أن يشتهي ما يريد، ولكن الطماعية في غير مطمع تقود دوماً للتنافر ولن تحقق أبداً وحدة وطنية صادقة.
خياران لا ثالث لهما
في المقالات الأولى من هذه السلسلة أبانت الظروف التي تداعت بنا إلى مطالبة الجنوب بحق تقرير المصير ثم إجماع كل القوى السياسية على الاعتراف بذلك الحق. في تلك المقالات أوضحنا أيضاً ما تعنيه دعوة الحركة الشعبية لوحدة السودان على أسس جديدة والظروف التي دفعت بها لذلك الخيار.
إضافة إلى ذلك، وبقدر ما سمحت به المساحة في الصحف، شَرَّحنا اتفاقية السلام الشامل، خاصة ما حققته من إعادة لهياكل الدولة السودانية على نحو جذري، وما أرسته، أو دعت لإرسائه، من مؤسسات وهياكل دستورية، تضمن استدامة السلام وتهيئ البلاد للوحدة.
على أن الوحدة التي نصت عليها الاتفاقية ليست مثلاً مساوياً لتلك التي ظلت الحركة الشعبية تصفها بالوحدة «على أسس جديدة». مع ذلك، تمثل الاتفاقية أرضية صالحة لتحقيق ذلك الهدف عبر صراع ديمقراطي. فما الذي جاءت به الاتفاقية حول تلك الوحدة؟ تقول الاتفاقية:
(1) يُجري قبل ستة أشهر من نهاية الفترة الانتقالية استفتاء بإشراف دولي لمواطني جنوب السودان تنظمه مفوضية استفتاء جنوب السودان بالتعاون مع الحكومة القومية وحكومة جنوب السودان.
(2) يصوت مواطنو جنوب السودان إما:
(أ) لتأكيد وحدة السودان بالتصويت باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل وهذا الدستور، أو ….
(ب) اختيار الانفصال
بموجب ذلك النص أمامنا خياران لا ثالث لهما في إطار ما قررته اتفاقية السلام الشامل. رغم ذلك، أخذ الحديث يتواتر هذه الأيام، خاصة من جانب الحادبين على وحدة القطر، عن خيار ثالث هو الكونفدرالية. ذلك الخيار ليس بجديد إذ تم طرحه من جانب الحركة وقائدها الراحل في حالتين.
من ناحية، ما انفك القائد الراحل، في معرض تشريحه للحالة السودانية، يتحدث عن خمس احتمالات لمستقبل السودان أجلاها في رسم بياني وفق نموذج فين (Venn Diagram) (ابتدعه المنطقي البريطاني جون فين في القرن التاسع عشر ليعبر به في دوائر متشابكة عن العلاقة المنطقية بين أوضاع مختلفة وأكثر ما يستعمل في علمي المنطق والإحصاء). الحالة الثانية كانت عند طرح خيار الكونفدرالية في مرحلة من مراحل المفاوضات.
بين كل هذه النماذج النموذج الأمثل والذي تتحقق به وحدة السودان على أسس جديدة هو النموذج الأول. من تلك الأسس الفصل بين الدين والسياسة؛ الاعتراف بالتنوع على اختلاف وجوهه: الدينية، الثقافية، اللغوية؛ لا مركزية الحكم؛ الاقتسام العادل للثروة والتنمية المتوازية.
النموذج الاسوأ
أما النموذج الأسوأ (الخامس) والذي هو نتاج طبيعي للفشل في تحقيق النموذج المثالي، فهو قيام دولتين مستقلتين لكل منهما هويتها الخاصة التي تقصي على الهويات الأخرى أو على الأقل، لا تتيح لها فرصة لكي ما تثري بعضها البعض حتى تنصهر في هوية وطنية جامعة.
هذا الانصهار يستحيل إن ابتنيت «الهوية الوطنية» على الاعتبارات الذاتية التي تفرق بين الناس مثل الدين أو العرق، لا على قاسم مشترك موضوعي هو الانتماء للوطن (المواطنة) كما ليس من سبيل لتوحيد قطر تحتدم في داخله ثنائيات متضادة.
فيما بين النموذجين أشار قرنق إلى نموذج ثالث أسماه الحد الادنى للسودان الجديد أي الوضع الذي يقوم فيه كيانان (شمالي وجنوبي)، كل واحد منهما على درجة عالية من الاستقلالية الإدارية، ولكن تربط بينهما حكومة وطنية (حكومة الوحدة الوطنية).
هذا على وجه التحديد، هو الوضع الراهن الذي خلقته اتفاقية السلام الشامل وأُطلق عليه أسم: قطر واحد بنظامين للحكم مما يقارب الحكم الكونفدرالي. هذا الوضع، في نهاية عمره يُفضي إما إلى الحفاظ على الحد الأدنى من الوحدة عبر الالتزام بكل مقوماتها وضمان كل استحقاقاتها أو في حالة عدم تحقق هذا الحد الأدنى من الوحدة نتيجة إصرار كل جزء من السودان على هويته المتميزة التي لا تستوعب الآخر، ينتهي الأمر إلى قيام كيانين متنافرين داخل دولة واحدة.
وفي الحالة الأولى يهيمن على الدولة كيان عربي إسلامي غير مستقر في الشمال كما كان الحال قبل الاتفاقية، وفي الثانية، وهي حالة افتراضية، يسيطر كيان جنوبي إفريقي غير مستقر، هو الآخر، على الدولة (النموذج الرابع).
فلا دولة الشمال التي ستختار كهُوية لها عنصر واحد من عناصر تكوين الأمة (العربي الإسلامي) ستستقر في بلد يضم في أحشائه عناصر أثنية متنوعة ذات ألسنة شتى، ولا دولة الجنوب الافتراضية التي ستسلخ نفسها من كل مقومات الشعب الأخرى، أي غير الأفريقانية، ستنعم بالاستقرار.
تلك حالة عشناها قبل توقيع الاتفاقية ورأينا فيها كيف أن دولة الشمال التي اختارت لنفسها الهوية العربية الإسلامية دون اعتبار للرؤى المختلفة لتلك الهوية حتى في الشمال نفسه، ناهيك عن الهويات الأخرى، لم تترك الجنوب ينعم بأي استقرار. هذه المخاوف تزداد كلما كانت تلك الدولة ذات توجه رسالي كما أثبتت التجارب في فترة حكم الإنقاذ.
ولا شك في أن السودان من أقصاه إلى أقصاه يطمح اليوم، على الأقل، في استدامة الحد الأدنى من الوحدة عبر الالتزام بالإطار الوحيد الذي يمكن لتلك الوحدة أن تتحقق في داخله. بيد أن السعي المستمر من جانب القوى التي تعمل لتقويض تلك الاتفاقية، أو على الأقل إبطاء إنفاذها، يَنِم عن رغبة في العودة إلى المربع الأول، أو إن شئت إلى الدائرة الثالثة في رسم قرنق البياني.
الطريق للوحدة كان عند قرنق واضحاً ومنطقياً: حل نهائي بإعادة هيكلة السودان بناء على ما يجمع وإطراح كل ما يفرق، أو حد أدنى من الوحدة أسماه الحد الأدنى من السودان الجديد. بخلاف ذلك، البديل هو الانشطار، والذي يتمنى المرء أن لا يتصاعد ليكون انشطارا نووياً.
ولكي ما يتحقق ذلك الحد الأدنى، على الأقل، لابد من أن تلعب الحركة دورها في الحكم المركزي على الوجه الذي جاءت به الاتفاقية، فما كانت مطالبتها بمنح سلطات واسعة للنائب الأول عبثاً، أو كان إصرار قرنق على المشاركة في إدارة الشمال ومطالبته بأن تحصل الحركة على 10% من المقاعد في ولايات الشمال لهواً.
لم تتحقق تلك المشاركة على الوجه المطلوب وكان أول من نبه إلى ذلك الأمر هو روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي حالياً ونائب وزير الخارجية فيما قبل في محاضرة ألقاها بمعهد الدراسات الأفريقية الآسيوية بالخرطوم.
زوليك هو واحد من أكثر المسئولين الأمريكيين التصاقا بمفاوضات السلام في كينيا، ثم بمفاوضات درافور في ابوجا. وإن قال قائل إن تقوقع الحركة في الجنوب كان رد فعل على كل الممارسات التي بدرت من الحزب الشريك لتغيير مسار الحركة، أو تخذيلها في الجنوب، نقطة ارتكازها الأول فإن هذا وحده لايعفي الحركة من الالتزام بمسؤولياتها الدستورية والسياسية نحو القطر كله. فأسوأ السياسات هي تلك التي تأتي كردود أفعال.
من تلك المسئوليات الالتزام بالعمل مع شريكها لجعل الوحدة خياراً جاذباً حتى الشوط الأخير. مع ذلك من غير المنطقي حمل الحركة على قبول وحدة لا تحقق الحد الأدنى الذي نصت عليه المادة (222-2-(أ) من الدستور، أي استدامة النظام الذي أرسته اتفاقية السلام الشامل بأبعاده الثلاثة.
البيان الإماراتية