الصرعات القبلية في السودان الاسباب والحلول

بقلم : حسن ابراهيم فضل

[email protected]

تعتبر القبيلة او المجموعة القبلية المعينة, هي تلك الجماعة التي تربطها علاقة نسب واحد وتجمعهم  الى حدما بقعة جغرافية محددة وتجمع بينهم  سمات ومبادئ ,ولديهم  مصالح مشتركة ومصيرا موحدا وعادات وموروثات خاصة يؤمنون بها ولغة مشتركة وثقافة متجانسة يدافعون عنها ضد كل ما يعتبرونه مهددا لثقافتهم , وبالتالي الدفاع عن هذه القيم  يعتبر حربا مقدسة, وجاءت القبيلة كنتاج طبيعي وفطري للبشرية ولحاجة الانسان البدائي للأمن والسلام  ولمحيط يشعر فيه الفرد من تلك المجموعة بالأمان, كحاجته للطعام والشراب وهي حاجات تطورت بتكاتف ذلك المجتمع وحل كل ما ينشأ بينها من نزاعات عن طريق الزعماء.

وعلى الرغم من ان  للقبيلة اهميتها  في تحقيق مصالح اعضائها غير انها اخذت في وتطورها اشكالا متعددة غير ان القاسم المشترك بينها انها عظمت من العشيرة وزعيمها ولو علي حساب الاخريين خاصة في الجاهلية حيث تبارى شعراءهم  مدحا لقبائلهم وذما للقبائل الاخرى ,ولعل  ابيات عمرو بن كلثوم , شاعر تغلب في  صراعها مع بني بكر غير شاهد :

وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً            وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا

أَلاَ أَبْلِـغْ بَنِي الطَّمَّـاحِ عَنَّـا                  وَدُعْمِيَّـا فَكَيْفَ وَجَدْتُمُوْنَـا

الى ان قال :

 إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ                  تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

ولما جاء الاسلام حث على تعظيم القيم النبيلة  للقبيلة ونظمها وجعل التمايز فيها بقدر العطاء وبقدر التقوى, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13],وان سنة الله في الكون ان جعل التباين سمة وسنة بين الناس والمخلوقات من حيث الجنس واللون والجغرافيا وهذا التنوع يعتبر ثراء ,بالتالي فان القبيلة امر محمود وكل شخص لديه انتمائه القبلي ويعتز بعشيرته, وللقبيلة دور مهم في ارساء قيم التعايش ,لكن يجب الا تكون هذه القبيلة مقدسا بمعنى الا تعلى شانها بحيث تكون على حساب وحدة البلد ومجتمعه.

 وللقبيلة  في السودان بطبيعة الحال ,دور رائد في تنظيم حياة افراد القبيلة والعلاقات بين القبائل الاخرى في التعايش وتبادل المنافع وحل النزاعات التي تنشأ بين افراد القبيلة الواحدة وتلك التي تنشأ بينها والقبائل الاخرى في اطار الزعامات الاهلية والادارية وهي واحدة من النظم التي ارتضتها المجتمعات السودانية قبل  تكوين الدولة السودانية العصرية , و ذلك من خلال السلطات والممالك السودانية , والتي ارتبطت بشكل كبير بزعامات القبيلة الدينية منها والعشائرية.

 وقد ابقي المستعمر على الادارات الاهلية بل واصدر المستعمر  الانجليزي قانونا  لتنظيم الإدارة الاهلية عام 1927 والذ الغي لاحقا بقانون العام 1928  والاخير يعتبر احد القوانين التي اعطت الادارة الاهلية سلطات اوسع, وحدد  لها مخصصات ,ورغم ان الامر في مجمله كان المقصود منه  تنظيم جمع الضرائب لكنه ساهم بشكل مباشر في تنظيم عمل الادارات الاهلية وتعزيز دورها في الحفاظ على التعايش بين مكوناتها المختلفة , واستمر عملية تنظيم و تطوير وتقنين الادارة الاهلية , بصدور قانون الحكم المحلي لعام 1951م  والذي تأسست بموجبه  المجالس المحلية والذي كان لرجال الادارة الاهلية  القدح المعلي فيها واستمر في دورها بعد الاستقلال حتى صدور قرار الرئيس جعفر نميري بحل الادارة الاهلية,  واصدار قانون الحكم الشعبي المحلي في العام1971 والذي سبقه حملة كبيرة  عقبان ثورة اكتوبر 1964 والتي نادت بتحجيم دور الادارة الاهلية او الغاءها بالكلية ,وهي الخطوة التي تعتبر بداية النهاية  لسلطات الادارة الاهلية واستقلاليتها النسبية عن الحكومات وفتح الباب واسعا امام الاستقطاب الحزبي للإدارات الاهلية, وذلك من خلال ما وصف بالانتقائية في تقليص نفوذ البيوتات والادارات الاهلية حيث اقتصر تقليص نفوذ بعض البيوتات في شكلها الاداري والقانوني ولكن استمرت  الاستحوازات الاقتصادية علي حساب ادارات اهلية اخرى.

ولما جاءت الانقاذ وانشاء الحكم الاتحادي ,صدر قانون الادارة الاهلية للعام 1991م  ورغم ان القانون في ظاهره  حدد سمات ومرتكزات لاختيار رجل الادارة الاهلية ودوره وعلاقته بالسلطات الولائية الا ان الغرض الخفي هو ان جعل رجل الادارة الاهلية عضوا بالضرورة في الحزب الحاكم وبالتالي  ما يقوم به من انشطة يجب ان تكون متسقة مع هوى الحزب والحكومة والذي سببت كثير من الاشكالات واصبح ذلك جليا بعد صدور قانون 1998 والذي اصبح محل انتقاد حتى من رجالات الادارة الاهلية ., والذي  كان ابرز الانتقادات التي وجهت للقانون هو التدخل السافر للحكومة في تغيير زعامات القبائل  وجعل الولاء  للحزب الحاكم شرط  العبور الى قمة زعامة القبيلة  ضاربا بقيم  وموروثات أرستها تلك القبائل في تداول شئون ادارتها.

هذا التدخل اضعف نفوذ الادارة الاهلية وبدلا ان كان رجل الادارة الاهلية وصوته هو الصوت المطلق ورايه مسموع دون تردد او نقاش, اصبح في محل نقد دائم فضلا عن تقاطعات السياسة مع كثير من مصالح القبائل واداراتها.

تقليص نفوذ رجل الادارة الاهلية واختلال ميزان القوى

في خضم هذه التحولات  ولما كانت المشاكل و الصراعات بين القبائل كانت تحسم وبشكل كبير بين زعامات الادارات الاهلية وان رجل الادارة الاهلية بإشارة منه سيكون الجاني بين يديه في ساعات او ايام قليلة, وكا

ن الفزع ينتهي بدخول الاثر الى  مشيخة او عمودية او حاكورة  العمدة او الناظر فلان, تغير الامر بان وجد رجل الادارة الاهلية نفسه أحيانا مضطراُ لان يتستر على الجاني  بحكم توازنات واعتبارات احدثت نتيجة لوجود اشخاص من افراد القبيلة لديهم فيتو على زعيم القبيلة ,فقط لانهم  قادة او اعضاء في الحزب الحاكم فضلا عن تعيين زعماء قبائل من الشباب عديمي الخبرة والدراية بعلاقات الأعراق والاعراف وبالتالي اصبح دور الادارة الاهلية تتقذم بصور ملفتة ,بل ان الادارات الاهلية الكبيرة بعضها انقسمت ودبت الخلافات بين زعامات الادارة الاهلية الواحدة وتكونت ادارات في حواكير دون مراعاة للمعايير والاعراف التي كانت سائدة في وقت سابق والتي كانت تؤكد على مبدأ التعايش و الاستضافة  فى الدار عند النزوح أو اللجوء شريطة التقييد بضوابط وقيم الدار والتي  تؤكد على :

1-    الاحترام و الخضوع لسلطة الدار فى كل المسائل الإدارية والمالية والسياسية.

2-     الانتفاع  بالأرض او امتلاكه لا يتم  إلا بإذن وموافقة سلطة الحاكورة .

3-     لا يجوز خلق إدارة موازية داخل الإدارة تحت أي ذرائع او مبررات.

4-     التقييد بحفظ الأمن والنظام العام.

5-     التعامل والتضامن والمشاركة مع أهل الدار عند النفير أو الفزع.

 يضاف الى ذلك , افرازات الحكم الاتحادي وتقسيم الاقاليم الى ولايات ومحليات في كثير من انحاء السودان على اساس قبلي  مما  اثار درجة من الاحتقان والمنافسة بين القبائل سواء تلك التي تقطن ذات المحلية او الولاية اوتلك التي لم تحظى بهذا الامتياز, وحفز الاخرين لان يحظوا على ذلك الامتياز والقبيلة بطبيعتها السلطوية و بحبها للزعامة وجدت في  الحكم الاتحادي  فرصة لاشباع رغباتها السلطوية ولتؤكد امثالها الشعبية الاكثر تعبيرا عن هذا الحب للسلطة والزعامة(سلطة للساق ولا مال للخناق) وبالتالي هذا النهم  افرز واقعا معقدا ملئه التنافس  الاحتقان في كثير من الاحيان, بل بذلت الاموال ودفعت الرشاوى في بعض الاحيان لنقل محلية من ادارة او منطقة الى اخرى, بل كان شرط احتفاظ أي منطقة بادارتها المحلية مرهون بقدرتها على الجباية وتوفير الاموال اللازمة لتسيير دولاب عمل المحلية رغم  قلة الموارد , بمعنى ان بعض المحليات  انشئت لكنها  لا تستطيع توفير حتى راتب المعتمد دعك من رواتب الموظفين والمعلمين فضلا عن التنمية التي تاتي في اخر اهتمامات القائمين على هذه المحليات والتي تزداد بشكل يومي وبمتوالية هندسية لا متناهية وكما وصفه  احد الرافضين للتجربة ( حكومة علي الحاج اللي بتلد زي الارانب دي )في اشارة الى المحليات التي كانت تنشأ بشكل مضطرد.

 هذا الوضع الشائه ,زاد من قتامة المشهد القبلي في السودان والذي يعتبر الصراع القبلي فيه ظاهرة متكررة غير ان الادارات الاهلية كانت تملك ادوات وموروثات تستطيع اخماد أي صراع في مهده, ولها من الاليات التي تضمد بها الجراح وذلك من خلال الجويديات والمصالحات وجبر الضرر وما يسمى بالدمالج والرواكيب على مختلف مسمياتها في ارجاء السودان لكن تظل الية المحاسبة الاهلية واحدة من سبل ردع الجاني وارجاع الحقوق.

كل تلك المعطيات ساهمت بشكل كبير في زيادة وتيرة الخلافات القبلية واصبح السمة البارزة  لازمات الوطن , بل وان الخلافات الحزبية احيانا تلقي بظلالها على القبيلة والعشيرة واصبحت الاحزاب توظف القبيلة في كثير من انشطتها بدلا عن البرامج  وهذا واضحا في الاحزاب التي تتكيء على ماضيها ولو علي حساب التطور والوعي الذي اكتسبته تلك المجتمعات بالاضافة الى ان معظم الحركات الثورية التي تقاتل النظم الدكتاتورية المتعاقبة جعلت من القبيلة حاضنة  ومن عناصر القبيلة مرتكزا وقاعدة  اساسية  لعملها وهذا مفهوم بطبيعة الحال خاصة في ظل تجييش  لبعض القبائل سواء كان في الحرب في الجنوب القديم او شرق السودان اودارفور, وهذه ايضا واحدة من صور استغلال هذه المكونات ورميها في اتون حروب ليس لهم فيها الا لانهم وجدوا في تلك المناطق الامر الذي اوغر صدور المكونات الاخرى فاشتعلت كثير من النزاعات كنتاج طبيعي لذلك .

أخلص الى ان الصراعات والنزاعات القبلية في السودان ,أصبحت واحدة من الازمات المدمرة والمنهكة والتي خلفت المئات من الضحايا بين الاطراف المتناحرة ولم تقتصر على قبيلتين بل احيانا تنشأ حتى بين بطون القبيلة الواحدة وهي من الامور المقلقة جدا خاصة وان هذه الصراعات بعضها  تغذيها جهات  بدرجة كبيرة من الوعي او يفترض كذلك.

وهي صراعات رغم  انها لم تكن حديثة حيث شهدت مناطق مختلفة من السودان وعلى مر العصور منذ الحكم التركي صراعات وحروب قبلية لكن تطور الادوات وسلاح الحرب المستخدم جعل  نتائجها كارثية وضحاياها بالمئات وسط تزايد واتساع رقعة الحرب,لأسباب جوهرية تكمن في شح الموارد التي تتقاسمها تلك المجموعات فضلا عن الاهمال والتهميش التنموي وتدهور الاقتصاد كنتاج طبيعي  للحروب التي تشعلها الدولة السودانية مع نفسها بسبب فشلها في ارساء قواعد التنمية المتوازنة فاصبح معظم اطراف القطر مشتعلة, بل واصبح من مهددات استقرار البلد وتماسك ووحدة ترابه, باعتبار ان استمرار هذه          الصراعات في بعض المناطق أخذت منحا اخر اكثر خطورة باستدعاء العنصر الخارجي , بمعنى  بعض المكونات في الشرق والغرب والجنوب قد استقوت بشكل او باخر بامتداداتها الاثنية في دول الجوار وفي اقاليم السودان الاخرى وهذا ينطبق على جميع المكونات على حد سواء.

حلول مقترحة

عقدت في السودان الكثير من الورش والندوات بل مؤتمرات للصلح , وحتى بحوث ودرجات علمية لبعض الباحثين  في هذه الظاهرة ,واعتقد ان الظاهرة نالت من  التشخيص  درجة  كبيرة , لكن من المهم جدا , ان نعرف  انه ما عادت الادوات القديمة وسائل ناجعة للحل في خضم التطورات التي اسلفت ولكن من الضروري مخاطبة الاسباب الاساسية التي تغذي الصراع القبلي وذلك بابتكار ادوات ومشاريع  عملية لمخاطبة هذه المشكلة , وهي مقترحات أوجزها في :

1-    ضرورة  ابتدار تنمية  شاملة للإنسان والحيوان في المناطق التي تشتعل فيها الحروب وذلك  بإنشاء مراكز الاهتمام بالحيوان و مشاريع خدمية وتشغيل وتعليم  لأبناء تلك المجتمعات وترشيد  العادات التي في كثير من الاحيان تعتبر وقود لإشعال الحرب كالحكامات  والميارم  والموقاوي (ارجو ان اكون قد كتبت الاسم بشكل صحيح )  والهداي وهؤلاء جميعهم  يعتبروا مفاتيح الحرب والسلم , حيث ان بأغنية  بسيطة  تتبعها زغرودة تصدر من احد هؤلاء قد يحرق المنطقة المعنية وما جاورها وقد تخمد لهيب ظن البعض انه سياتي على الاخضر واليابس.

2-    الامر الثاني العمل على توطيد اواصر التلاقي والتصاهر بين هذه المكونات تعضيدا لعلاقات التعايش التي استمرت بينهم لقرون.

3-     توطين الرحل والجماعات الرعوية  ولم ما للمدنية من اثر على تذويب الفوارق خاصة التي تميز بين افراد المجتمع للوعي الكبير الذي يتمتع به افراد مجتمع المدينة , فضلا ان لتوطين هؤلاء قيمة اقتصادية مضافة للاقتصاد القومي وذلك من خلال تحسين  والاعتناء بالثروة الحيوانية التي يمتلكونها وقبل ذلك ادخال قوى بشرية منتجة من خلال تعليم ابناء الرحل والذي يشكل الفاقد التربوي بينهم فوق 90% بالمائة.

4-    ايجاد مسارات معلومة للرعاة وبمقومات  تصلح  للعيش, بمعنى ان تكون ممرات يوجد بها المنافع وموارد المياه دون عوائق , وذلك من خلال ايجاد صيغة توائم ما بين الزراعة والرعي وتبادل المنافع حتى اذا دعي الامر الى انتزاع بعض المساحات مع التعويض لأصحابها من اجل ارساء قيم التعايش , وتبادل المنافع حيث لا غنى لاي من المزارعين او الرحل عن الاخر.

 

5-    ايجاد درجة من التوافق الوطني وارساء قيم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة , وتجريم أي سلوك من شانه ان يزكي النعرة القبلية او العنصرية , وتعزيز ثقافة قبول الاخر بأدوات عملية وسن قوانين يجعل من الكفاءة والكفاءة فقط هي جواز العبور للخدمة المدنية او أي وظيفة عامة .

 

6-    سن قوانين رادعة لحسم أي عمل من شانه ازكاء نار الفتنة بين المكونات , حاصة في المناطق  التي اتسمت بدرجة عالية من التعايش وهي الان تتقاتل في شرق السودان وجنوب كردفان وغيرها من المناطق وهو مؤشر خطير لاستغلال البعض للقبيلة لتصفية حسابات حزبية وسياسية.

 

7-    تجريم الاحزاب ذات الصبغة  المناطقية والجهوية  والطائفية, وان تنشأ لجنة مستقلة قومية مهمتها فقط فحص هذه الاحزاب واصدار شهادات الممارسة والتي لا يمكن لأي حزب التسجيل الا عبر هذه اللجنة .

 

هذا مع خالص الدعوات لوطننا واهلنا في ربوع الوطن العزيز بدوام الاستقرار والسلام.

      حسن ابراهيم فضل

[email protected]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *