بسم الله الرحمن الرحيم
*مركز الجزيرة للدراسات “منتدى الجزيرة” *
*(منتدى الجزيرة الحادي عشر)*
* الفترة من 15- 16 إبريل 2017م العاصمة القطرية – الدوحة*
*أزمة الدولة ومستقبل النظام** الإقليمي في الشرق الأوسط*
*الإمام الصادق المهدي*
11/4/2017م
أخي الرئيس
أخواني وأخواتي
الحاضرين والمحاضرين
والمحضرين لهذا المنتدى المهم في ظروفنا الراهنة
أثمن غالياً موضوع هذا المنتدى وأثمن غالياً اختيار التوقيت المناسب له كما
أثمن غالياً إقدام إدارة منبر الجز
يرة للدراسات الورقة التأطيرية والقضايا
التي سيناقشها المنتدى في تباين تام مع نهج مؤتمر القمة العربي الذي خاطبناه
بضرورة التصدي لعشر قضايا مفصلية فخيب أملنا في حصره دوره في حصر نفسه في
علاقات عامة لا تسمن ولا تغني من جوع بينما المنطقة المعنية في حالة احتضار
يتطلب وعياً وإرادة وإقدام لكي يقلب هذا الاحتضار مخاضاً لفجر جديد. ما فات
القادة أرجو أن يتصدى له رواد الفكر ومعلوم أن كل إنجاز تاريخي أوله كلام
إليكم كلامي في هذه المهمة التاريخية:
1. الدولة القومية نظام حديث انتهت إليه التجربة الغربية بعد أن تفككت
الإمبراطورية الرومانية وآلت الولاية لمقاطعات وبعد الصراعات والحروب التي
أحاطت بهم عقدوا صلح وستفاليا في 1648م وبموجبه ولدت الدولة القومية. وبعد
ثورات ضد الحق الإلهي للملوك نشأت النظم الديمقراطية التي حررت الشعوب من
وصاية الملوك فالملوك الذين تجاوبوا مع تطلعات الشعوب قبلوا نظم ملك دستورية
فيها الملك يتوج ولكن لا يحكم ولكن الملوك الذين قادموا حقوق الشعوب أطيح بهم
لتحل محلهم نظم جمهورية.
هذا التحول السياسي صحبه على الصعيد الاقتصادي نشأة نظام رأسمالي نظم علاقات
الإنتاج بصورة مجدية طوعت قوى الطبيعة لخدمة الاستثمار.
وإلى جانب الثورة السياسية والثورة الاقتصادية تحققت ثورة معرفية تكنولوجية
نتيجة لحرية البحث العلمي ورفع وصاية الكنيسة من عطاء الإنسان. هكذا نشأت
الحضارة الحديثة التي تمكنت بالقوة العسكرية الهائلة من السيطرة على كل العالم
المعمور.
دول هذه الحضارة تنافست فيما بينها على الموارد وعلى النفوذ واحتربت حرباً
عامة في الحرب الأطلسية الأولى (1914-1918م) بعدها كونوا عصبة الأمم ثم خاضوا
الحرب الأطلسية الثانية (1939-1945م) وبعدها كونوا الأمم المتحدة في ظل
الميثاق العالمي للأمم المتحدة.
2. دولنا في المنطقة العربية بعد أن انجلى عنها الاحتلال المباشر اتخذت
لنفسها نظم دولة قومية بلغت حتى الآن 22 دولة وهي جميعها أعضاء في نظام الأمم
المتحدة. وأقامت الدول العربية نظاماً إقليمياً هو الجامعة العربية.
في نظر الفكر الإسلامي التقليدي فإن نظام الحكم المشروع هو نظام الخلافة لدى
أهل السنة ونظام الإمامة لدى الشيعة فما هي مشروعية نظام الدولة القومية؟
والفكر التقليدي يتطلع لوحدة الأمة فما هي مشروعية النظام الإقليمي والنظام
الدولي المعاصر؟
وفي علم السياسة المعاصر فإن جدوى نظام الحكم تقاس بدرجة الرضا بين الحكام
والمحكومين. وقدرة الحكومات على توفير سبل المعيشة للناس. وعلى عدالة توزيع
تلك السبل. وعلى قدرتها على توفير الأمن لهم والدفاع عنهم من العدوان الخارجي.
إن نظم الحكم الحالية بمقياس التطلع للخلافة تفقد الشرعية. وبمقياس الجدوى
العصرية قاصرة عن تحقيق الشروط المطلوبة. هذا النقض في الشرعية والجدوى يفقدها
المناعة ويجعلها لذلك عرضة لثورات رجعية تريد العودة لماض مثالي مطلوب ولثورات
تقدمية تريد اللحاق بالعصر. ولتدخلات أجنبية تخشى على مصالحها في المنطقة من
هذه الثورات وتخشى على أمنها من التطرف والعنف الذي تسببه أزمات المنطقة.
3. الخلافة كما مورست في العهود التاريخية العهد الأموي والعهد العباسي
والعهد العثماني لا علاقة لها بالخلافة كما مورست في الصدر الأول للإسلام.
والحقيقة أنه ليس في الإسلام نظام دولة معين بل مبادئ في السياسة ومكارم
الأخلاق وتجربة الخلافة التاريخية فيها الحقائق الآتية:
لدى وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار وهم أهل الدار في
المدينة في سقيفة بني ساعدة لولاية الأمر بعد وفاة النبي. وبعد جدل طويل حول
الأمر حسم عمر (رض) الأمر بحكم الأمر الواقع بمبايعة أبي بكر (رض) لم ترد حجة
في الجدل أن هذه الولاية أمر إلهي. ولم يحسم الأمر بحجة أن النبي أمر. بل ظل
بعض الأنصار معارضين لهذه البيعة. وكذلك لم يباع علي بن أبي طالب (رض) إلا بعد
ستة أشهر من اجتماع السقيفة.
كانت الولاية بشرية والخلافات كذلك بشرية دون أية إشارة لتوجيه رباني. وصاحب
البيعة نفسه أي أبو بكر (رض) بعد مبايعته أعتبر الإجراء بشرياً إذ قال:
• “وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ” (ولاية بشرية).
• “الصَّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ” (الشفافية).
• “فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي؛ وَإِنْ أَسَأْتُ
فَقَوِّمُونِي” (المساءلة).
• “وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُرِيحَ
عَلَيْهِ حَقَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي
حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ” (سيادة حكم القانون).
ولكن بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان (رض) ومبايعة علي (رض) في المدينة وعصيان
أهل الشام ما أدى للحرب فإن قوماً رفضوا التحكيم بين الطرفين بحجة (إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) .
هذا يشير للتشريع ولكن الخلاف كان حول الإمرة. والإمرة شأن بشري ولكن
المعارضين الذين سموا بالخوارج إنما توهموا أن الإمرة لله وبموجب ذلك كفروا
الآخرين واغتالوا الإمام علي (رض).
منذ تلك الفتنة تأسس حكم بني أمية ثم حكم بني العباس. وكانت هذه الولايات تقوم
بموجب التغلب. ولكن ولاة الأمر أرادوا أن يعطوا سلطانهم قدسية مصنوعة فقال
مؤسس الدولة الأموية: “لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإياه”. ولو
كره ما نحن فيه لغيره”. وعلى نفس هذه الوتيرة قال مؤسس الدولة العباسية: “أنا
ظل الله في الأرض أسوسكم بإرادته”.
كل تلك الولايات بشرية ووسيلتها النزاع المسلح ما جعل الشهرستاني صاحب كتاب
“الملل والنحل” يقول: “ما سل سيف في الإسلام على قدر ما سل في أمر الإمامة”.
لذلك أفتى جمهور الفقهاء بطاعة المتغلب درءاً للفتنة. قال ابن حجر العسقلاني:
“اجمع الفقهاء على طاعة المتغلب والقتال معه”. إدعاءات الولاة المتغلبون
وفتاوي الفقهاء أعطت قدسية لولايات بشرية ما أعطى التغلب والاستبداد المصاحب
له قدسية غريبة على منهاج الإسلام.
أمتنا الآن في حالة مأزومة تفوق في خطرها كل ما تعرضت له في ماضيها.
وعلينا أن نعيد قراءة تاريخنا بصورة موضوعية لا مكان فيها لقدسية تاريخ أمتنا
لكي نحيط بالايجابيات ونقتدي بها ونلم بالسلبيات ونتعلم منها.
وفيما يتعلق بولاية الأمر ندرك أنها شأن بشري نديره في ظل مبادئ الإسلام
السياسية ومقاصد الشريعة.
إما الإمامة لدى الشيعة، هذه قال بها مجتهدون فصلت في كتاب “الكافي” وفحواها
أن الإمامة كالنبوة من أركان العقيدة. وسندها تعيين الهي. وهذا الإمام معصوم
وعلى الأمة حتماً طاعته.
والإمامة بهذه الصفة للإمام علي ثم لابنيه الحسن والحسين ثم لتسعة أئمة من
حفدة الإمام الحسين وآخرهم هو محمد الحسن العسكري الذي غاب منذ أكثر من ألف
عام وسوف يعود هو ذاته مهدياً. وفي غيابه يقود الناس مراجع التقليد.
الأئمة المذكرون لم يمارسوا ولاية عامة ما عدا الإمام علي (رض) وابنه الحسن
(رض) الذي خلفه بعد مقتله تنازل للخليفة الأموي على أن يخلفه.
هذا معناه أن إمامة الشيعة كخلافة السنة أمنيات بعيدة عن الواقع.
آية الله الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” نادى في غيبة الإمام بولاية
الفقيه. وبعد وفاته اختير آية الله خامنئي مرشداً. بعض آيات الله يرون أن
ولاية الفقيه ينبغي ألا تتعدى الأمور الشعائرية. الحقيقة أن المعارف تطورت
بصورة لا يمكن أن يحيط بها الفقيه.
ولاية الفقيه كالحاكمية لدى مفكري السنة تؤسسان لنظام حكومة إلهية ولكن
الحكومة في المرجعية الإسلامية مسألة بشرية ولاية ومساءلة ومحاسبة.
النتيجة أن نظام الحكم شأن بشري ما يعني إمكانية استصحاب نظام الدولة الوطنية
إذا أرادت الشعوب ذلك.
ينبغي أن يواجه الطعن في مشروعية الدولة القومية بهذه الحجج الدامغة .
4. الدول العربية الآن يحكمها نوعان من النظم: نظم وراثية ذات صلاحيات مطلقة
. ونظم جمهورية كونتها انقلابات عسكرية. ومعلوم أن ما تأسس بالقوة يحتاج للقوة
لاستمراره فادى ذلك إلى تحويل القوات المسلحة إلى أحزاب سياسية.
لذلك جاءت تقديرات قاسية علي البلاد العربية: قال رالف بيترز: “ينبغي أن نعتبر
البلدان العربية من سكان العالم الإسلامي شعوباً عاجزة عن التحول البناء”.
وتناول البرنامج التنموي للأمم المتحدة (UNDP) مسألة التنمية البشرية في
العالم العربي. وأصدر تقارير أهمها تقاريره للأعوام: 2002، 2003، 2004م.
• التقرير الأول أشار إلى أن ثلاثة عيوب تعيق التنمية البشرية في
العالم العربي هي: نقص الحرية، والمعرفة، وتمكين المرأة.
• التقرير الثاني ركز على نقص المعرفة.
• التقرير الثالث ركز على قضايا الإصلاح السياسي وانتقد الواقع
القائم وحدد شروط الإصلاح السياسي المنشود.
5. إن التصدي لإشكالية الدولة والحكم تتطلب 12 خطوة لتجاوز التردي الذي
يحيط بأمتنا:
*الخطوة الأولى هي*: صحوة فكرية تقرأ تاريخ أمتنا قراءة غير أسطورية وتبين أن
الإنسان كائن فريد في الكون يملك خصالاً تفسر تكريمه هي: العقل، والقبس
الروحي، وحرية الاختيار. إن الاعتقادات التي هيمنت على تراثنا ونفت عنه
القدرات العقلية والإلهامية الروحية وجعلته مجرد مستقبل لنصوص نقلية،
والممارسات التي نفت عن مجتمعاتنا الحرية وجعلتها مجرد مطية لأوامر الولاة
المتغلبين هي العوامل التي قعدت بأمتنا وجعلتها قابلة للاحتلال الأجنبي وحتى
بعد جلاء الاحتلال فإن الفكر الراكد والفقه اليابس وحكومات الاستبداد هي التي
قعدت بأمتنا. لا بد من صحوة فكرية ثقافية تزيل هذا التخلف.
استصحاب المعارف الحديثة والتكنولوجيا مهمة ضرورية. المطلوب تنقيتها من أية
علائق أيديولوجية ذاتية.
التعليم في بلداننا حالياً إنما ينقل محمولات المأزق للأجيال القادمة ما يتطلب
التخطيط لإصلاح تعليمي جذري ملتزم بمطالب المخرج من المأزق كما سوف نفصلها هنا
وملتزم بمهمة نقل وتوطين التكنولوجيا الحديثة لبلداننا ولأجيال المستقبل.
*الخطوة الثانية:* الخلافة شأن بشري وفي أبهى صورها في الصدر الأول فإن خلوها
من مؤسسات جعلها سبب فتنة أدت لاغتيال ثلاثة من الخلفاء وقيل الأربعة. وصارت
بعد ذلك سبب احتكام مستمر للسيف ولاغتيال ولاة الأمر بحيث اغتيل خمسة من خلفاء
بني أمية واغتيل 12 من خلفاء بني العباس. ومع أن بعضهم كان ممتازاً فأن كثيراً
منهم كان مقصراً. حالة وصفها شاعر بقوله:
أَنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ يرث الخِلافة فاسقٌ عن فاسقِ
ليس في تجربة الخلافة وهي اجتهاد بشري وما فيها من دمج السلطات واشتراط
الأنساب والركون للتغلب ما يدفع لإحيائها. نعم في الإسلام مبادئ سياسية يمكن
في زماننا هذا تحقيقها عن طريق الدولة الوطنية الملتزمة بتلك المبادئ في
دستورها.
إن اتحاد المسلمين في كيان سياسي واحد لم يستمر إلا حتى 150هـ أي 10% من عمر
الأمة والعلاقة الخاصة بين الدول الوطنية يمكن تحقيقها عن طريق تعاهدي.
*الخطوة الثالثة:* مهمة تطبيق الشريعة: تتضمن الشريعة أحكاماً جنائية لمعاقبة
المجرمين. وأحكاماً مدنية للوفاء بالعهود والعقود. وإحكاماً اجتماعية للكفاية
والعدل وأحكاماً للأحوال الشخصية لتنظيم أحوال الأسرة.
هذه الأحكام ليست منبتة بل مهندسة لتحقيق مقاصد. وهي تراعي عوامل اجتهادية
وعوامل واقعية على نحو مقولة ابن القيم: “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
والحال”. وعلى هدى المقاصد يمكن أن تتغير الأحكام. بموجب المقاصد يمكن تجاوز
نصوص – مثلاً- إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وإلغاء الرق، وإلغاء ملك اليمين.
ومنع صاحب الدم من الانتقام الفردي أي (*وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ
جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِۖ*)[1]. بل
تحقيقاً لمقاصد يمكن اتخاذ أحكام جديدة على نحو مقولة ابن القيم: “كل شيء تحقق
به العدل هو من شرع الله وأن لم يرد به نص”.
إن نصوص الوحي في مجال تحديد الواجب لا تؤخذ دون تدبر (*وَالَّذِينَ إِذَا
ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)*
[2] . بل يدخل في أمرها تمكين بشري التدبر، والتعقل، والحكمة، والمصلحة،
والاستطاعة، والتدرج، والأولويات. باب لهندسة تشريعية لاجتهاد مستمر.
إن تطبيق الشريعة في هذا العصر يتطلب حواراً مثمراً بين المقاصد والمستجدات.
وفي عصرنا تحت شعار “الحاكمية” أي إدعاء التحدث باسم الله وتحت شعار تطبيق
الشريعة بصورة خالية من الضوابط المطلوبة أدت إلى تجارب مسيئة لديباجة الإسلام
مثلاً:
(أ) تجربة سودانية في ظل حكم استبدادي في ثمانينيات القرن الماضي
جعلت أحكام الشريعة ذريعة لدعم الاستبداد.
(ب) وفي باكستان التمس ضياء الحق لسلطانه دعماً من إدعاء الأسلمة.
(ج) وفي السودان مرة أخرى رفع شعار الإسلام لتبرير الانقلاب العسكري
ولإقامة حكم إقصائي.
(د) وفي أفغانستان طبقت طالبان برنامجاً منسوباً للإسلام مقلداً
لأحكام ماضوية غريباً على التطور العقلي والاجتماعي.
تحت شعاري “الحاكمية لله، وتطبيق الشريعة” ارتكبت تجاوزات مهما دعمتها من
نوايا طيبة أدت لمفاسد دعمت حجة من يقولون بضرورة إبعاد الإسلام عن الشأن
العام حجة لم تزدها تجربة داعش إلا مزيداً من القوة.
المطلوب أن نقدم دليلاً اجتهادياً واقعياً لهدف تطبيق الشريعة واعتبار التخبط
العشوائي باسم الشريعة تعديات ممنوعة.
*الخطوة الرابعة:* قسوة النظم الوضعية على دعاة الإسلام أدت إلى إفراز فكرة
الحاكمية وبالتالي تفسير قوله تعالى: (*إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ*) [3]
بمعنى أن الأمر لله وشعور الشيخ أبو الأعلى المودودي بخطر الغلبة الهندوسية
على المسلمين جعله يقول: “إن الإلوهية والسلطة يستلزمان بعضهما بعضا. وكلمة
الدين في القرآن تعني إن الحاكمية والسلطة العليا لله وتوجب الطاعة لتلك
الحاكمية”.
هذا الفهم ترافع به الأستاذ سيد قطب إذ قال: “الدين في المفهوم الإسلامي هو
المرادف لكلمة النظام في المصطلحات الحديثة”. هذه الآراء نقلت واجبات الدين
لتصير أيدلوجية للسلطة السياسية. لقد نقلت الإمارة من كونها أمراً بشرياً إلى
الربوبية. مع أن ولاية الأمر مسؤولية بشرية اختياراً ومساءلة وإعفاء. وظروف
الأزمة هي التي جعلت الخوارج وهم فئة متحمسة أخطأوا في تفسير (*إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ*) [4] . وبموجب ذلك كفروا إمام المتقين على بن أبي طالب
وأهدروا دمه.
*الخطوة الخامسة:* ليس في الإسلام نظام حكم معين لأن نظام الحكم ليس من
الثوابت كالتوحيد والنبوة والمعاد والأركان الخمسة بل قابل للحركة الاجتهادية
ضمن مبادئ ومقاصد سياسية. الدول التي حكمت المسلمين كانت في غالب فترات
التاريخ دولاً استبدادية مهدرة لمبادئ ومقاصد الإسلام السياسية كالشورى
والعدالة.
ممارسات هؤلاء الحكام كانت في الغالب أشبه بممارسات الكسروية والقيصرية منها
بمبادئ الإسلام السياسية.
وعلى البعد من الممارسة الفعلية نشأت نظريتان لنظام الحكم سنية وشيعية.
النظرية السنية فصلها مجتهدون هم الشافعي، وابن قتيبة، والماوردي، وغيرهم في
كتبهم. ومع اختلاف التفاصيل قيل أن الدولة يقودها خليفة للنبي في حراسة الدين
وسياسية الدنيا. وينبغي أن يكون عالماً ومجتهداً وشجاعاً، وقرشي النسب، وسليم
البدن والحواس، وأن يختاره للخلافة أهل الحل والعقد من الرجال العدول.
هذه الرؤية النظرية لم تطبق عملياً أي أنها كانت أمنية لم تنزل إلى الواقع
الذي حكمه التغلب والتوارث.
النظرية الشيعية: هذه قال بها مجتهدون فصلت في كتاب “الكافي” وفحواها أن
الإمامة كالنبوة من أركان العقيدة. وسندها تعيين الهي. وهذا الإمام معصوم وعلى
الأمة حتماً طاعته.
والإمامة بهذه الصفة للإمام علي ثم لابنيه الحسن والحسين ثم لتسعة أئمة من
حفدة الإمام الحسين وآخرهم هو محمد الحسن العسكري الذي غاب منذ أكثر من ألف
عام وسوف يعود هو ذاته مهدياً. وفي غيابه يقود الناس مراجع التقليد.
الأئمة المذكرون لم يمارسوا ولاية عامة ما عدا الإمام علي (رض) وابنه الحسن
(رض) الذي خلفه بعد مقتله تنازل للخليفة الأموي على أن يخلفه.
هذا معناه أن إمامة الشيعة كخلافة السنة أمنيات بعيدة عن الواقع.
آية الله الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” نادى في غيبة الإمام بولاية
الفقيه. وبعد وفاته اختير آية الله خامنئي مرشداً. بعض آيات الله يرون أن
ولاية الفقيه ينبغي ألا تتعدى الأمور الشعائرية. الحقيقة أن المعارف تطورت
بصورة لا يمكن أن يحيط بها الفقيه.
ولاية الفقيه كالحاكمية لدى مفكري السنة تؤسسان لنظام حكومة إلهية ولكن
الحكومة في المرجعية الإسلامية مسألة بشرية ولاية ومساءلة ومحاسبة.
الدولة الوطنية شكل سياسي جديد اتخذه الأوربيون بعد أن تخلصوا من كيان موحد هو
الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
عرف الإسلام رابطة الأسرة والقبيلة وفي صحيفة المدينة كيان سياسي قام على
التناصر والأمن المشترك مع احتفاظ المجموعات الدينية بكياناتها تحت مظلمة
التناصر المشترك. وفي العهد الإسلامي الأول إلى نهاية العهد الأموي ضم
المسلمين كيان سياسي واحد.
ولكن بعد الانقلاب العباسي في 150هـ بدأ انقسام المسلمين لكيانات سياسية
متعددة. حدث هذا قبل التعرض للاحتلال الأجنبي ولكن الاحتلال عزز هذه الظاهرة.
الدولة الوطنية تقوم على أساس مشتركات معينة مرتبطة برقعة معينة من الأرض.
المواطنة عهد يجمع بين شرائح هذا الوطن في ظل سلطة سياسية واحدة هي الدولة
الوطنية.
الدولة الوطنية تطوير لخصوصيات معلومة اكتسبت وجوداً وظفت للقيام بدور مفيد في
تحقيق الأمن وسبل المعيشة وهي تضم وحدات قبلية وجهوية ودينية في نطاق وطني
وقابلة لضم أكثر من دولة وطنية في نظام تعاهدي.
لا توجد نصوص وحي قطعية تلزم بخليفة واحد جامع لكل السلطات وحاكم للأمة ولا
توجد نصوص وحي قطعية تلزم بإمام معصوم واحد حاكم للأمة. والتجارب التاريخية في
هذه المجالات لا تدفع للاقتداء بها.
النهج الصحيح هو عدم النظر للرابطة الوطنية بارتياب وعدم وضعها في مقابل
الولاء للأمة الأكبر. بل تعتبر الرابطة الوطنية صالحة في حدودها قابلة للتوسع
بالتراضي.
مؤسسات الحكم الديمقراطي وهي المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون
وسائل مؤسسية لتحقيق مبادئ سياسية تحقق مبادئاً مطلوبة في نصوص الإسلام. ولا
يصح أن توضع الديمقراطية في مقابل الشورى ففيهما مبدأ المشاركة وعدم الانفراد
بالسلطة. صحيح الشورى تمارس ضمن سقوف. كذلك الديمقراطية. إذ لا توجد ديمقراطية
بلا سقوف ينص عليها الدستور.
وعلى الصعيد النظري فيما يتعلق بحقوق الإنسان فإن حقوق الإنسان الحديثة متفرعة
من خمسة أصول هي الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والسلام، وفي الحضارة
الحديثة تطورت منظومة حقوق الإنسان حتى بلغت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في
عام 1948م ثم ملحقاته فيما بعد. بعض الناس أشاروا إلى أن هناك نقطة في مقدمة
الميثاق وخمس نقاط في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان هي المواد (4،5،16،18،19)
تتعارض مع الأصول الإسلامية. في كتابي بعنوان “نحو مرجعية إسلامية متجددة
متحررة من التعامل الانكفائي مع الماضي والتعامل الاستلابي مع الوافد” تعرضت
لهذه التحفظات لأنفي وجود تعارض مع الفهم الصحيح للنصوص الإسلامية.
ونتيجة ما سقت من أدلة هي: “أن المسلم المعاصر يمكنه أن يؤيد جوهر الإعلان
العالمي لحقوق الإنسان. إن لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرابط
إسلامية تمنحها جذوراً خلقية وروحية وتجعلها أعصى على الإهدار”.
وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بنود لا توافق الدول الاستبدادية عليها
لأنها تحمي حقوق المواطنين ويحتجون بالخصوصية الثقافية والدينية لرفضها تلك
البنود.
البند (9) ويقول: لا يجوز القبض على إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفياً.
البند (10) يقول: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن
تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه،
والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.
البند (11) يقول: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته
قانونياً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
وهكذا البنود “12،13،17،19،20،21،23”. هذه البنود في الميثاق العالمي لحقوق
الإنسان تحمي حقوق المواطنين وتحفظ النظم الاستبدادية على الميثاق العالمي
لحقوق الإنسان بحجة التناقض مع القيم الدينية والثقافية حجة الهدف منها الدفاع
عن أجهزة القهر باسم الخصوصية الدينية والثقافية.
هذه القضايا الآن تشكل تناقضاً بين الحكومات والشعوب في كثير من البلدان لا
سيما العربية.
أكثر الدول العربية الآن تقوم على استقرار منحته الظروف الريعية أو هي
جمهوريات أسستها الانقلابات العسكرية.
قام استقرار الدول المنتجة للنفط لا سيما في منطقة الخليج على أساس عقد
اجتماعي غير مكتوب يوفر الحكام بموجبه الرفاهية الاجتماعية دون اهتمام مناسب
بالمشاركة السياسية.
لكن في العقود الثلاثة الماضية حدثت تطورات أهمها:
• نمو طبقة مثقفة وذات تواصل قوي بالعالم الحديث وتواصل بينهم عبر
الوسائط الالكترونية ما جعل منهم قاعدة قوية مهتمة بالمشاركة السياسية.
• شعارات الربيع العربي حملت تطلعات شدت إليها قوى اجتماعية ذات وزن.
• تدني أسعار البترول حجم القدرات الريعية.
هذه التطورات تتطلب عقداً اجتماعياً جديداً. الغلاة يدعون لنظم جديدة مشتقة من
صورة مثالية ماضوية. ولكن هذه الدعوات وما تجد من تأييد في أوساط تنشد التغيير
فإنه وفاء بلا مستقبل. الخيار الآخر المجدي هو التراضي عبر حوار بين الحكام
والشعوب على عقد اجتماعي جديد يحقق توفيقاً بين التأصيل والتحديث ويكفل نظاماً
ديمقراطياً وعدالة اجتماعية. أي أن يحل محل النظم الأبوية ملكيات دستورية.
نظم الحكم في البلدان الجمهورية أسستها انقلابات عسكرية. انقلابات رفعت شعارات
قومية، اشتراكية، وإسلامية، ولكنها تطلبت القهر للمحافظة على سلطانها.
إن تحويل المؤسسة العسكرية لحزب سياسي للسلطة محمل بأضرار كثيرة:
• أنه يودي بالانضباط النظامي ويفقد المؤسسة العسكرية قدراتها
المهنية. فالجيوش التي توظف حزبياً تفقد كفاءتها العسكرية حتماً.
• ممارسة العمل السياسي بذهنية الأمر والنهي والاعتماد على الأجهزة
الأمنية يجعل الطاعة مقياساً لكل الأمور وتتحول أجهزة الحكم حتماً لآلية أمنجية.
الحكومة الأمنجية تحقق استقراراً سطحياً وفي ظلها يتحلق المواطنون حول ولاءات
وراثية، طائفية، أو اثنية، أو يتخندقون في أنشطة دينية ويتعطل النمو السياسي.
في ظروف معينة يمكن للانقلاب العسكري أن يقوم بدور جراحي، استثنائي. ولكن أن
يتحول الانقلاب السياسي إلى ولاية سياسية تتخذ من القوات المسلحة حزبها
السياسي فسوف تفشل في أهم ملفات العمل العام: الإدارة السياسية، والإدارة
الاقتصادية، وإدارة العلاقات الدولية.
في العالم العربي خاصة الشباب في سن 15-29 يبلغ عددهم 105 مليون. ويعانون من
عطالة تبلغ 30% ويحيط بالمجتمعات درجة عالية من الفقر والحرمان وفجوة واسعة من
التفاوت الاجتماعي. هذه العوامل تحاصر الحكومات الأمنية التي تدفعها طبيعتها
للقمع. هذه العوامل سوف تؤدي لانفجارات اجتماعية حتماً.
هذه الانفجارات يحول دونها مشروع تسليم السلطة للشعب لإقامة نظم مشاركة
ديمقراطية ذات أهداف ديمقراطية اقتصادية اجتماعية. هذا التحول يمثل خطوة
تاريخية ضرورية وفي ظله تستأنف القوات المسلحة وظيفتها الطبيعية.
*الخطوة السادسة:* العدالة الاجتماعية: الملاحظة العامة هي أن البلاد
الإسلامية عامة والعربية خاصة تعاني شعوبها من استقطاب حاد بين فئة صغيرة ثرية
ثراءاً فاحشاً وأكثرية كبيرة فقيرة فقراً مدقعاً. هذا الحالة مع الوعي الكبير
بها قنابل موقوتة تحرضها أخلاقياً مقولة الإمام علي (رض): “َمَا جَاعَ فَقِيرٌ
إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ”.
وسائط التواصل الاجتماعي الالكترونية صارت أكبر وسائل للتوعية والتعبئة. مسألة
الظلم الاجتماعي في العالم الإسلامي صارت فضيحة كبرى لحملة دعوة قال عنها
ولفرد سميث: “الدعوة الإسلامية أكبر دعوة في التاريخ لإقامة العدالة الاجتماعية”.
عالمان في جامعة واشنطن هما شهرزاد رحمان وحسين عسكري اقترحا 12 مقياساً
للأسلمة الاجتماعية مثل: درجة النمو، مستوى توزيع الثروة، ضبط الإسراف،
الرعاية الاجتماعية للقطاعات الفقيرة وهلم جرا.
ثم أصّلا المقاييس المختارة بسند من النصوص الإسلامية. ثم طبقا هذه المقاييس
على 208 دولة في العالم تحت عنوان “مقاييس الأسلمة”. النتيجة أن أكثر البلدان
“أسلمة” بموجب هذه المقاييس ايرلندا ثم النرويج. أما الدول الإسلامية فكان
ترتيبها متدنياً أولها في الترتيب رقم 38 ماليزيا.
المطلوب إدراك هذه الحقائق الاجتماعية والتركيز قطرياً على تحقيق التنمية
والعدالة الاجتماعية والعمل على إقامة مشروع تضامن “مارشالي” للتعاون التنموي.
*الخطوة السابعة:* الفتنة الطائفية: نشأ التشيع في البداية انتصاراً لحق
الإمام علي وبنيه في ولاية الأمر. ولكن التنازع الهاشمي الأموي فتق جراحاً
عميقة منذ قبل الإسلام أشار إليها الشاعر:
*عبدُ شمسٍ قد أضرمت لبني ها* *شـمٍ حـرباً يشيب منها
الوليدُ*
*فابنُ حربٍ للمصطفى و ابنُ هندٍ* *لـعـليٍّ ولـلحسين يـزيدُ*
وبعد واقعة صفين استتب أمر الحكم لبني أمية فلقي الشيعة اضطهاداً أموياً ثم
عباسياً. وادعي قادة العهدين لأنفسهم أوصافاً قدسية. وفي المقابل تحلق الشيعة
حول فرق أهمها الاثني عشرية وفحواها أن الإمامة بعد النبي لعلي وبنيه بالتعيين
الإلهي وهم سلسلة أئمة معصومين وعلي الأمة طاعتهم. بعد الإمام علي وابنيه
يتوالي تسعة أئمة من حفدة الإمام الحسين وآخرهم محمد الحسن العسكري الذي اختفي
وسوف يعود مهدياً عندما يحل موعد ظهوره .
لا توجد نصوص قطعية تسند دعاوي العهدين الأموي والعباسي بل كان تأسيسهما علي
التغلب. ولا توجد نصوص قطعية لسلسلة أئمة الشيعة. نعم ذكرت كتب الحديث نصوصاً
عن المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً. وأنه من العترة النبوية. وهي نصوص مختلف
عليها وعلي تفسيرها.
نعم كل الثقافات الإنسانية تتطلع في وجه المعاناة لمخلص، خاصة في الثقافات
الإبراهيمية أن عودة شخص بعد 14 قرن وسوف يعود هو ذاته ضد طبيعة الأشياء. (*وَمَا
جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ
الْخَالِدُونَ* كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةًۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ*) [5] . وظهور مخلص في آخر
الزمان لا يجدي: (ي*َوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا
إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ*) [6] نعم سوف يعتقد قوم مذهبياً
عقائد حول الإمامة والمهدية. المهم أن تعتبر هذه عقائد مذهبية لا تصير أساساً
للإيمان والتكفير. بل يلتزم أهل القبلة بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، ومكارم
الأخلاق، والأركان الخمسة. وفيما عداها عقائد مذهبية يتعايش أصاحبها دون إلزام
غيرهم بها وتفوض لقوله تعالى: (*ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)* [7].
المختلف عليه من أحداث التاريخ ومن العقائد ترسخ في نفوس أصحابه ولا يمكن حسمه
بالإقناع ولا بالقوة وينبغي التعاهد بين الجميع علي أساس:
• الاعتراف المتبادل بان الجميع أهل قبلة .
• الكف عن التكفير المتبادل علي أساس مذهبي.
• حرية الحوار مع بعضنا بعضاً بالتي هي أحسن .
• التخلي التام عن لغة التراشق الأموي والصفوي بروافض ونواصب.
• كفالة حقوق إيمانية وحقوق مواطنة كاملة للشيعة في بلاد السنة. وكذلك
للسنة في بلاد الشيعة.
• مسالة المهدية مختلف عليها ولكل مذهبي أن يعتقد ما يشاء بشرط إلا يلزم
غيره باعتقاده.
ومع ذلك فان هدي النبوة مستمر في الأمة بموجب (*فَإِن يَكْفُرْ بِهَا
هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ*)
[8]. وقوله: (*اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْۚ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*) [9]. هذا معناه أن باب الإلهام مفتوح وأن واجب
إحياء الدين مستمر.
• الاتفاق علي موقف موحد من الاغتصاب الصهيوني.
هذه الأسس السبعة تصلح لرتق الفتق السني الشيعي وهو مطلوب بإلحاح أكثر من أية
فترة في التاريخ لأن هذه الفتنة تغذي اقتتالاً بأسلحة أكثر فتكاً في التاريخ.
ومهما استخدمت هذه الأسلحة في حروب طائفية فلن تتمكن من اجتثاث الطرف الآخر بل
تضر بكل المشتركين فيها وتفتح باباً واسعاً للتدخلات الأجنبية ولتمدد حركات
الغلاة. هذه الحروب لن تحقق لأطرافها نصراً بل سوف تفتح الأبواب أوسع للهيمنة
الدولية ولبرامج الغلاة.
*الخطوة الثامنة:* الاهتمام بفك الاشتباك الفكري بين التيارات المهمة في
الفضاء الإسلامي، التيارات الإسلامية، والعلمانية، والاشتراكية، والقومية،
والأفريقانية في أفريقيا.
هذه التيارات لها وجود فكري وسياسي تقف معها قوي اجتماعية والتعايش بينها جزء
من متطلبات المجتمع الحديث.
كل محاولة لإلغاء الآخر الفكري والسياسي ما دام سلمياً وملتزماً بالديمقراطية،
تؤدي للطغيان.
التنوع من طبيعة الوجود. والاختلاف من حتميات التجمع البشري. ما يحمي التنوع
قبول الآخر في التداول ونفي العصبية.
ما يعيب العلمانية هو إنكار الغيب ولكن لأصحابها حرية الرأي ما داموا لا
يفرضون رأيهم علي الآخرين لأن أكبر نظم الطغيان في التاريخ كانت علمانية سواء
الفاشستية أو الستالينية. هؤلاء فرضوا أصولية علمانية من منطق طبقي وسببوا أذى
بالغاً للإنسانية. قال بيتر بيرقر أحد مؤسسي العلمانية الحديثة: “كنا نظن أن
العلمانية شرط للديمقراطية ولكن الحقيقة هي أن شرط الديمقراطية هو التعددية”.
وقال تشارلس تيلور وهو مؤسس آخر للفكرة العلمانية الحديثة: “يجب أن ننظر
للعلمانية لا بوصفها متاريس ضد الدين بل باعتبار أنها تستجيب علي نحو مبدئي لا
غني عنه للتنوع الذي يوجبه المجتمع الحديث”.
وقال: “أن اللبرالية تتنكر لمبادئها إذا حرمت أصحاب المرجعية الدينية من حرية
الرأي ما داموا يلتزمون بالتعايش الديمقراطي”. هذه الأسس تصلح لمراجعة موقف
العلمانية من الدين. يقابلها في الحوار الايجابي أن يكون للمنهج الإسلامي موقف
ايجابي من العقل ومن الديمقراطية. المطلوب حوار إسلامي علماني للتعايش ضمن
مبادئ مشتركة. وفيما يتعلق بالفكر القومي فان الإسلام يعترف بالانتماء القومي
وقوميات الأمة الإسلامية العربية والفارسية، والتركية، والهندية وغيرها حققت
أفضل منجزاتها الحضارية تحت مظلة الإسلام. المهم أن تتجرد الانتماءات القومية
من العصبية لتكفل حقوق المجموعات الوطنية ذات الانتماءات القومية الأخرى.
القومية العربية حقيقة ذات وجود قومي تاريخي ولغوي وثقافي ولكن تتعايش مع
العرب قوميات أخرى ينبغي كفالة حقوقها.
الاشتراكية إحدى مدارس العلمانية وقد قعد بها التمسك بأحاديتين، أحادية أن
القيمة للمادة وحدها، وأحادية التفوق الطبقي. ينبغي تخلي الاشتراكية عن هذين
الشرطين وقد ظهرت تيارات استنارة اشتراكية تدرك ذلك. هذا مدخل لحوار إسلامي
اشتراكي مستمر.
*الخطوة التاسعة*: ينبغي التخلص نهائياً من الفهم العدواني للولاء والبراء
ليست علة القتال في الإسلام اختلاف الملة بل العدوان. الفهم العدواني للولاء
والبراء أسند لتفسير خاطئ لآيات في سورة براءة.
من حيث علة القتال في الإسلام الآيات واضحة: (*أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواۚ)**[10]**.* وقوله تعالي: (*أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا
نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخْشَوْنَهُمْۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*) [11].
قال قوم أن علة القتال هي اختلاف الملة. وعلينا أن نكفرهم وأن نكرههم وأن
نقاتلهم. ومن لا يؤمن بهذه العقائد مرتد والمرتد يقتل. هذه عقائد فاسدة وتترتب
عليها في عالم اليوم مفاسد كبيرة. إذ أنها توجب أن نعادي 80% من البشرية.
وثلث أمتنا يعيشون أقليات في مجتمعات ذات أكثرية غير مسلمة ما يشعل الفتنه
بينهم. أن القول بهذه العقائد الفاسدة يضر بالدعوة الإسلامية ويلقي بأنفس
المسلمين إلى التهلكة.
*الخطوة العاشرة:* علاقات الأديان: الاعتقاد الديني يقوم علي الضمير ما يعني
أنه لا يمكن أن يقوم علي الإكراه.
والاعتقاد الديني يصحبه غالباً الرغبة في التبشير بهدايته. فإذا بطل الإكراه
وهو باطل. تبقى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. كفالة حرية الاعتقاد الديني
للكافة واجب إسلامي مثلما هو التزام إنساني. ينبغي أن ندرك نحن المسلمين أن
حرية العقيدة واجب ديني. ومع ذلك فان لنا خصوصية في العلاقة مع الأسرة
الإبراهيمية: (*قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ)* [12].
والعلاقة مع كافة الأديان الأخرى تقوم علي مبدأ (*لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ*)
[13]. (*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ*)[14]. والحرية تعم اللادينيين (*وَقُلِ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْۚ)*
.[15]
*الخطوة الحادية عشر:* برنارد لويس محرض حضاري قدم تعريفاً أيديولوجياً
للحضارة الغربية، وتعريفاً للحضارة الإسلامية ليؤسس علي ذلك حتمية الصدام
بينهما.
وهنالك محرضون باسم حضارتنا كذلك ففي عام 2004م في الرياض قدمت محاضرة حول
(حوار الحضارات) وكان من بين الحاضرين الأستاذ محمد قطب فعلق قائلاً: “يا أخي
دعك من هذا إن مصلحة أمتنا في ارتكاب إسرائيل وأمريكا حماقات ضدنا لكي يستيقظ
العملاق الإسلامي لهما و بالتالي يحقق دوره المأمول في التاريخ”.
هذه الآراء تستمد من منقولات في الأديان الإبراهيمية عن صدام حتمي بين الحق
والباطل .
النظرة البناءة المستنيرة هي التي تنطلق من مفاهيم تتطلع لتعايش لا صدام بين
الحضارات علي نحو ما قال المؤرخ البريطاني الأشهر أرنولد توينبي اذ قال: “علي
الحضارة الغربية باعتبارها الغالبة الآن ألا تستعلى بل أن تتخذ خطوات ودية نحو
الحضارات الأخرى فحواها:
• أن تعترف بأنها مدينة للحضارات الأخرى التي سبقتها.
• لقد بلغت الحضارات الغربية شأواً عظيماً ولكن الحضارات الأخرى
سوف تتعامل معها علي أساس حواضنها الحضارية.
• أن تدرك أن الحضارات الأخرى مثلما هي متلقية فهي صاحبة عطاء في
مسيرة الحضارة الإنسانية .
هذا النهج يثمر مناخاً إيجابياً في التلاقح والتعايش بين الحضارات في ظل
منظومة حقوق الإنسان وحقوق البيئة.
*الخطوة الثانية عشر:* الأبعاد الدولية: النظام الدولي الحالي اشترك في تصميمه
51 دولة في فترة ما بعد الحرب الأطلسية الثانية. وهو نظام تنقصه العدالة.
وينقصه التوازن ولا بد من مراجعته على أساس الإحاطة بالمستجدات والعدالة .
وهنالك جوانب في السياسة الدولية لوثت الواقع الدولي تتطلب تصدياً حازماً:
• الهيمنة الدولية غرست إسرائيل في محيط عدائي لها فتأسس مشروع
احتراب مستمر ودعم دولي لغزوات إسرائيل.
• الهيمنة الدولية بقيادة أمريكية دعمت نظم الطغيان في بلداننا
لحراسة مصالحها. نظم دكتاتورية حافظت علي سلطانها بالقهر وسياسة “فرق تسد”
وعندما أطيح بالطغاة برزت تشققات طائفية وإثنية.
• الثورة المضادة في بلدان الربيع العربي تحاول إسناد ذلك للربيع
العربي. ولكن طول مكث الطغيان هو المسؤول عن هذا التشويه.
• السياسة الأمريكية هي التي استغلت الحماسة الجهادية لحرب
السوفيت في أفغانستان وميزت الأفغان العرب ما أدى لظهور تنظيم القاعدة وهو
تنظيم اتخذ شرعيته من تحرير بلاد المسلمين من الغزو الأجنبي .
• وسياسة احتلال العراق الخاطئة أدت إلى تداعيات بسببها تراكمت
مظالم سنية استغلها فرع القاعدة لتكوين سياسي في 2007م وبعد هزيمته كونوا داعش
في 2014م. وفي الحالتين فان التصدي لهم بالتفوق العسكري قد يحقق أهدافاً
عسكرية ولكن إذا لم تمح الأسباب سوف تظهر تعبيرات أخرى.
• كثيرون حملوا المسلمين المسؤولية عن تطرف القاعدة وداعش مع أن
للسياسات الدولية الدور الأكبر في صنع العوامل التي أفرزتهما.
لقد قدمت محاضرة في برامج نادي مدريد وهو تنظيم غير حكومي يضم 111 رأس دولة
ورأس حكومة ديمقراطية سابقين يمثلون القارات الست شخصت فيها ظاهرة التطرف
والعنف في بلاد المسلمين وبينت أن هنالك مظالم داخلية وحواضن مذهبية ساهمت في
التطرف والعنف المصاحب له ولكن المظالم والسياسات الدولية هي صاحبة القسط
الأكبر في صنع التطرف والعنف المصاحب له في بلداننا وفي العالم .
ولكن هنالك كتاب وساسة لأغراضهم اجتهدوا ليحملوا المسلمين المسؤولية عن التطرف
والإرهاب كما قال روبرت ميردوخ صاحب أكبر مؤسسة صحافية في الغرب قال: “ربما أن
أغلب المسلمين مسالمون لكن إلى أن يعترفوا بسرطان الجهاديين الذي يتنامى ثم
يقوموا بتدميره يجب تحميلهم المسؤولية”.
هذه الاتهامات الجائرة ساهمت في تكوين تيارات الإسلاموفوبيا العمياء ضد
المسلمين مع أنهم أكبر ضحايا هذا الغلو والعنف المصاحب له ومع أن السياسات
الأجنبية هي أكبر صناع هذا الغلو والعنف.
إن الإسلاموفوبيا والسياسات التي احتضنها الرئيس الأمريكي الجديد والسياسات
التي تتبناها حركات اليمين المتطرف في الغرب الآن تمنح تيارات الغلو والعنف في
منطقتنا أقوى مبررات وجود وحجج لتجنيد المستقتلين. وما يحدث في مينمار من بطش
بالمسلمين عنصرياً وكذلك البطش بالايغور في الصين حقائق تعزز أجندات الغلاة.
*ختاماً:* إن الوعي المحيط بهذه الخطوات الاثني عشر وتكوين إرادة سياسية قوية
للسير فيها هو الطريق الوحيد للتصدي لأزماتنا الفكرية والثقافية وتحريك
الأزمات وإشكالية الدولة والحكم من أزمة قاتلة إلى فرصة لفجر جديد.
*إذا أَنتَ لَم تَحمِ القَديم بِحادِث* *مِنَ المَجدِ لَم
ينفعك ما كانَ مِن قَبل*
6. إذا استطاعت القوي السياسية في المنطقة العربية الخروج من مستنقعاتها
الحالية فإنها تستطيع تكوين إرادة مشتركة تجعل العمل العربي المشترك في شكل
الجامعة العربية أو شكل آخر مجدياً في المجال الدولي في عالم يتجه نحو تعددية
مراكز النفوذ في العالم. ومجدياً في كل مجالات الحياة. ما يجعل المنطقة مالكة
لقرارها ومجدية في وجودها ومنافسة بصورة ندية في الصراع الدولي.
وفي هذه الحالة نستطيع احتواء إسرائيل بالوسيلة الأفضل وهي دولة واحدة من
البحر إلى النهر ذات قوميتين تحظيان بكامل حقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
وتستطيع ملء الفراغ الذي يشد القاعدة وداعش وغيرهما من ثورات الانكفاء وتستطيع
حماية مصالحها من استغلال القوي الدولية.
ولكن إذا تقاعست عن هذا الفجر الجديد فإنها سوف تستهلكها النزاعات الطائفية
والاجتماعية وظروف تستغلها القوي الكبرى الأدنى وإسرائيل والقوي الكبرى
الدولية لتسخير المنطقة مناطق نفوذ لها ولمصالحها.
*مَنْ رَعَى غَنَماً في أَرْضِ مَسْبَعَةٍ ونامَ عَنْها تَوَلَّى
رَعْيَها الأَسَدُ*
——————————
[1] سورة الإسراء الآية (33)
[2] سورة الفرقان الآية (73)
[3] سورة الأنعام الآية (57)
[4] سورة الأنعام الآية (57)
[5] سورة الأنبياء الآيتان (34،35)
[6] سورة الأنعام الآية (158)
[7] سورة آل عمرن الآية (55)
[8] سورة الأنعام الآية (89)
[9] سورة الحديد الآية (28)
[10] سورة الحج الآية (39)
[11] سورة التوبة الآية (13)
[12] سورة البقرة الآية (136)
[13] سورة البقرة الآية (156)
[14] سورة الكافرون الآية (6)
[15] سورة الكهف الآية (29)