د. فيصل عوض حسن
تَزَايَدَت انتهاكات المليشيات الإسْلَامَوِيَّة وتَنَوَّعَ إجرامهم وبلغ حدوداً غير مسبوقة، كمَجزَرتهم البشعة بقرية دليج/غربي مدينة الدَلَنْج، التي فاق ضحاياها الـ(100) مُواطن، وقبلها مَجْزَرة فَضَّ الاعتصام أمام قيادة الجيش بالخرطوم، أواخر شهر رمضان الفضيل وقَتلَ المئات واغتصاب العشرات من النساء في سُويعاتٍ معدودة، واستمرار اقتناص/اغتيال النَّاشطين واختفاء بعض الضُبَّاط المُنحازين للشعب، وهي جميعها جرائمٌ تُحتِّم علينا معرفة طبيعة/أهداف المليشيات التي نَفَّذت هذه الجرائم وتكويناتها ومهامها.
الواقع المُعاش فعلياً، يقول بأنَّنا أمام نوعين من المليشيات، أوَّلها مليشيات المُتأسلمين التنظيميَّة بتقسيماتها/مُسمَّياتها المُختلفة، والمعروفة إجمالاً بـ(كتائب الظِل)، وهي تتكوَّن من مجموعاتٍ/أفراد وقياداتٍ عديدةٍ كـ(الأمن الشعبي، الدفاع الشعبي، الأمن الطُلَّابي، جماعات دِينيَّة.. إلخ)، وتَتَّسِم بعلاقاتٍ/منافع مُتداخلة، وتتخذ الدِّين حِجَّة/مَظَلَّة لاستقطاب الأفراد والجماعات و(شَرعَنَة) الإجرام/التجاوُز، بينما تسعى فعلياً لتقوية/تمكين العصابة الإسْلَامَوِيَّة وحماية مصالحها وديمومتها. وتتمتَّع هذه المليشيات المُتأسْلِمَة، بمزايا مالِيَّة وسُلْطَوِيَّة غير محدودة، على اختلاف المُستويات (القِيادِيَّة، الوسيطة والدُنيا)، بعدما استباح المُتأسلمون (باسم الدين) موارد ومُمتلكات السُّودان، دون سُقوفٍ شرعِيَّةٍ وقانونيَّةٍ وإنسانِيَّةٍ، وكان لمجموعاتهم الأمنِيَّة نصيباً وافراً من تلك الموارد، سواء ما يخص التسليح أو التدريب أو المزايا الشخصيَّة، ضماناً لإخلاص أفراد هذه المجموعات، واستبسالهم في الدفاع عن كامل المنظومة الإسْلَامَوِيَّة، مع الحَسْم (الوحشي) لكل من يَتَرَاخَى أو يُبدي تعاطُفاً/انحيازاً للسُّودان (أرضاً وشعب)، أو للقِيَمْ الإنسانِيَّة والقانونِيَّة، بما في ذلك القتل المُمَنْهَج دون تَرَدُّد والشواهد مَاثلة للعيان.
يُمثِّل الجَنْجَوِيد النَّوعُ الثاني لهذه المليشيَّات، وهي مجموعات تَكَوَّنت على أُسُسٍ قَبَلِيَّة/جَهَوِيَّة، وتنطلق من عُدَّة بلاد، تُحارب/تُقاتل لأجل المال وتسعى لتكوين (وطن/دولة)، بعدما طردتهم بعض الدول الأفريقيَّة. ويُشكِّل الأطفال دون عمر الـ18 نسبةً كبيرةً من القُوَّة الميدانِيَّة لهذه المليشيات، مما يُدْرِجْها ضمن المجموعات التي تُجَنِّد الأطفال، وفقاً لتصنيفات/قوانين الأُمم المُتَّحدة. ويتم تجنيد الأطفال (قَسراً/طَوعاً)، للقتال والتَجَسُّس والطَهْي وحَمْلِ السلاح والعتاد، وأحياناً يُستخدمون كدروعٍ بشريَّةٍ، أو للأغراض الجِنسيَّة خاصَّةً البنات أو الذكور صِغَار العمر. فضلاً عن سهولة استخدام/إتقان الأطفال للأسلحة الحديثة، وانخفاض تكلفة تجنيدهم وتَمَيُّزهم بالطاعة وكِتمان الأسرار، وصعوبة كشف الجواسيس منهم، وسُرعة تشكيلهم (سلوكياً/نفسياً)، وتسخيرهم لارتكاب أبشع الجرائم بذرائع الدِّين والقَبِيلة والشعوذة. ويُمكن استغلال بحثهم عن البطولة والسُطوة، وإعجابهم (الفطري) بالأزياء/الرُتَب العسكريَّة، ونظرتهم للتجنيد ومهامه كـ(لَعْبَة/تسلية)، خاصَّةً مع تَدَنِّي الإدراك والتعليم وغياب التوجيه/الإرشاد والقُدوة الحَسَنة، واستخدام المال في ظل الفقر والتَفَكُّك العائلي، وافتقاد بعض الأطفال للأجواء الأُسَرِيَّة، وحاجتهم لكيانٍ (تعويضي) يرتبطون به، واستغلال الرغبة في الانتقام لدى الأطفال الذين فقدوا ذويهم بأماكن النِّزاعات.
أخطر أساليب (تطويع) أطفال المليشيات، يكون بإدخالهم لدائرة إدمان المُخدرات المُسَبِّبَة للهَلْوَسة السَمَعِيَّة والبَصَرِيَّة، إذ يشعر الطفل وكأنَّه كائن أسطوري، ومع وجود الأسلحة بين يديه يرتكب جميع الجرائم بوحشيَّةٍ ودون تَرَدُّد، وفي الغالب يكون سعيداً بذلك، وهذا يُفسِّر مُتَاجَرة قادة الجَنْجَوِيد بالمُخدَّرات خاصَّةً الأنواع غير التقليديَّة. ومن أساليب (تطويع) الأطفال أيضاً، ربط المزايا العَيْنِيَّة/المالِيَّة بتنفيذ الأوامر دون تَرَدُّد، بما فيها قتل الأقربين (الوالد، الأخ، الصديق… إلخ)، فيتم ترقيته/تحفيزه بسرعة تشجيعاً لنظرائه على الطاعة العمياء. وأحياناً يطلبون من الأطفال مُهاجمة مكانٍ ما، وجَعْلِه (غَنِيمةً) لهم بالكامل، بجانب مُهاجمة الأطفال المُجَنَّدين للمدنيين من أنفسهم، لمُجرَّد افتقادهم للطعام أو المُخدَّرات، وهذا يُفسِّر (تَعَطُّش) الجَنْجَوِيد للنهب والقتل والاغتصاب بدمٍ بارد، سواء بالأطراف أو في عُمق المُدُن السُّودانِيَّة، على نحو ما رأيناه جميعاً مُؤخَّراً في الخرطوم!
نَسْتَنْتِج مما سبق، بأنَّ لكلٍ من المليشيات الإسْلَامَوِيَّة/التنظيميَّة أو الجَنْجَوِيد (دَوافع قَوِيَّة) للاحتفاظ بالسُلطة، ومن السذاجة تصديق أكاذيبهم/تضليلاتهم بشأن تسليمها للمدنيين، حتَّى ولو عقدوا (اتفاقات) رسميَّة وبوجود ما يُسمَّى مُجتمع دولي وإقليمي، فقد (نَقَضَ) المُتأسلمون جميع الاتفاقيَّات التي عقدوها طيلة الثلاثين سنةً الماضية مع أكثر من طرف، وهي كفيلةٌ لترسيخ القناعة بعدم الوثوق فيهم، وفي مَنْ (شَهِدَ/رَعَى) تلك الاتفاقيات و(رعاها)! بخلاف أنَّ هذه المليشيات وقادتها، يُدركون أنَّهم – حال استلام المدنيين للسُلطة – سيُحاسبون ويُحاكمون على جرائمهم (المُتراكمة والمُوثَّقة) ضد السُّودان وأهله، وسيفقدون جميع المزايا العَيْنِيَّة/السُلطَوِيَّة والمالِيَّة التي يتمتعون بها الآن، لذلك يتمسَّكون بسُلطاتهم الحالِيَّة ويتحايلون للاحتفاظ بها مهما كان الثمن.
الأخطر في الأمر، سَعْي الجَنْجَوِيد لبناء (الوطن) الذي بحثوا عنه طويلاً، ليحتويهم ويكون مُنطلقاً لأعمالهم الإجرامِيَّة و(ارتزاقهم) الدولي والإقليمي، ومن السذاجة بمكان تَنازُلهم بالبساطة التي يعتقدها بعض الغافلين، لأنَّ السُّودان بموارده المُتنوِّعة وموقعه الجُغرافي المُتميَّز، فرصة لا تتكرَّر بالنسبة للجَنْجَويد. وإجمالاً، فإنَّ هذه الاستنتاجات، تُؤكِّد عدم جدوى وكِفَاية سياسة (السَلْمِيَّة المُطلقة) المُتَّبعة حالياً، ما لم ندعمها بتدابيرٍ مُساندةٍ أُخرى، لمُواجهة هذه المليشيات بنوعيها أعلاه! فالمُتأسلمون، يرون السُّودانيين إمَّا أعداءً (للدِّين) حسب ما جرى لهم من غسلٍ للأدمغة، أو مُهدِّدين لمصالحهم المالِيَّة والسُلْطَوِيَّة، وفي الحالتين سيضربوننا بكل قُوَّة وبلا رحمة. وكذلك سيفعل الجَنْجَوِيد السَّاعين لتكوين (وطنهم) المُنتظر على جماجمنا، على نحو عنفهم الماثل الآن!
إنَّ المُؤلم والمُدهش معاً، هو غفلتنا (المُميتة) وعدم استيعابنا للدروس القاسية، وتكاليفها العالية مُمَثَّلةً في الدِماء والأرواح السُودانِيَّة العزيزة، والتي لم يُقدِّرها المُتهافتون (للتَفَاوُض) مع البرهان ومجلسه الإجرامي ومليشياتهم! ولعلَّني مُضطرٌ لـ(توثيق) حديثي هذا دون مُواربة/مُجاملة، استشعاراً بالأخطار الحقيقيَّة والمُرعبة التي يُواجهها السُّودان وأهله، وهي تُحتَّم علينا استصحاب جميع المُعطيات أعلاه، والتفكير والتخطيط بجِدِّيَّةٍ وصدقٍ/تَجَرُّد لمُواجهة المُتأسلمين ومليشياتهم، بعيداً عن (التفاوُض) مع القَتَلَة و(مُرتزقتهم) وسادتهم بالخارج. والبدايةً الصحيحة، تكون بتقييم وتقويم (أساليبنا/تكتيكاتنا) المُتَّبعة الآن ونتائجها المُتحقَّقة، خاصةً (السِلْمِيَّة المُطلقة)، ودعمها بأساليبٍ جديدةٍ أكثر (فعاليَّة)!
لقد خسرنا الكثير نتيجة للتلكُّؤ والتَخَبُّطِ والمُجاملات، وفي المُقابل استعاد المُتأسلمون توازُنهم، و(تمكَّن) الجَنْجَويد من بعض مفاصل البلاد، والغافلون والمُتاجرون يُصرُّون على ذات التكتيكات/الأساليب المُكلِّفة والفاشلة. والواقع أنَّنا نتهرَّب من حقيقة واضحة جداً لذوي البصائر، مفادها أنَّ بلادنا لا تسعنا نحن السُّودانيين والمُتأسلمين ومليشياتهم، ولنثق تماماً بأنَّهم لن يتنازلوا عن السُلطة، لأنَّها (ضمانتهم) الوحيدة للنجاة من المُحاسبة والعقاب، والحفاظ على مزاياهم المالِيَّة/السُلطَوِيَّة وديمومتها، وهي الطريق لتكوين دولة الجَنجَويد المُنتظرة، بَقِيَ علينا إدراك ذلك والتعامل في ضوئه رغم قسوته، لو أردنا اللحاق بما تَبقَّى من البلاد والعباد.. وللحديث بقيَّة.