يناقش البعض بأن موافقة تيار الإسلام السياسي الحاكم في السودان على شعار حق تقرير المصير كان تكتيكا لشق صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان، وطمس حقيقة أن الحرب الأهلية في جنوب السودان هي إحدى تجليات الأزمة الوطنية العامة في السودان. أعتقد هذا صحيح، ولكنه لا ينفي أن قطاعا واسعا وسط قيادات الإسلاميين لديه القناعة بأفضلية انفصال جنوب السودان غير المسلم حتى يمكنه فرض الشريعة الإسلامية على بقية القطر. الأحزاب الشمالية، في التجمع الوطني الديمقراطي، انتقدت تبني الحركة الشعبية للشعار في ندوة واشنطن، قبل أن تعرضه في التجمع. وفي الحقيقة، كان موقف الحركة في الندوة ترجمة لقرارها الذي اتخذته في 6 أيلول/سبتمبر 1991، بعد انشقاق مجموعة الناصر عنها
، والذي يقول بأن السودان منذ استقلاله ظل متأرجحا بين الحرب والسلام نتيجة لفشل نظام حكمه المركزي القائم على العروبة والإسلام، مع إعطاء الجنوب حكما ذاتيا أو فيدراليا. وموقف الحركة الشعبية هو وقف الحرب باعتماد نظامٍ موحّدٍ وعلمانيٍ وديمقراطي، أو نظامٍ كونفدرالي، أو تجمع لدول ذات سيادة، أو تقرير المصير.
وفي يونيو/حزيران 1994 وقع الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية اتفاقا يقر بممارسة تقرير المصير في حالة الإخلال بالمبادئ الأساسية التي يتم عليها الاتفاق في المؤتمر الدستوري. وفي الشهر ذاته وقع حزب الأمة مع الحركة الشعبية اتفاق شقدم الذي أقر بحق شعب جنوب السودان في تقرير المصير، لكن الحزب رفض أن يشمل ذلك منطقتي جبال النوبة والإنقسنا. وفي فبراير/شباط 1995 وقع الحزب الشيوعي وحزب الأمة محضر اتفاق سجل قبول الحزبين لحق تقرير المصير، على أن يمارس في مناخ الحرية والديمقراطية. وأكد الحزبان تمسكهما بوحدة السودان، والتزما بالعمل المشترك لمد جسور الثقة حتى يأتي حق تقرير المصير دعما لخيار الوحدة. وفي 16 أبريل/نيسان 1995، وقع الحزب الشيوعي والحركة الشعبية اتفاقا أكدا فيه أن تقرير المصير مبدأ ديمقراطي وحق أساسي من حقوق الشعوب، وأنه لا يمكن فرض الوحدة أو الانفصال بالقوة، وانما عبر الإرادة الحرة للمواطنين، وأنهما سيعملان على بناء جسور الثقة بما يدعم التمسك بوحدة السودان الطوعية في إطار التنوع والتعدد، والتزما بالعمل على تطوير إعلان نيروبي إبريل/نيسان 1993 ليكون أساسا لأي اتفاق لاحق، يؤكد فصل الدين عن السياسة، وبناء السودان الديمقراطي الملتزم بمواثيق حقوق الإنسان، وأن يظل السودان خلال الفترة الانتقالية دولة موحدة لا مركزية تتمتع أطرافه بصلاحيات واسعة.
تلك اللقاءات والاتفاقات الثنائية كانت تمهيدا ضروريا لالتئام كل الأحزاب الشمالية والجنوبية، بما فيها الحركة الشعبية، وباستثناء التيار الإسلامي الحاكم، في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، حزيران/يونيو1995، والذي اعترف بأن تقرير المصير يوفر إمكانية لإنهاء الحرب الاهلية ولإتاحة فرصة تاريخية لبناء سودان جديد قائم على العدالة والديمقراطية والاختيار الحر، وأن جنوب السودان سيمارس حق تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية التي تلي إسقاط النظام، على أن يلتزم المؤتمرون بموقف موحد ازاء خياري الوحدة أو استقلال الجنوب. كما التزموا بأن تنفذ السلطة المركزية الانتقالية، التدابير اللازمة لإعادة بناء هياكل ومؤسسات الدولة، ولإرساء دعائم الثقة بحيث يفضي تقرير المصير إلى دعم خيار الوحدة. وبالنسبة لمناطق الحرب الأهلية الأخرى، والمستعرة حتى الآن، في أبيي وجبال النوبة والإنقسنا، فالتزم المؤتمرون بأن تعمل الحكومة الانتقالية للتوصل إلى تصحيح الظلامات التي عانى منها أهلها، قبل أن يستفتوا حول مستقبلهم السياسي والإداري. وأكد المؤتمر أن الأزمة السودانية عميقة الجذور، ولا يمكن معالجتها وتحقيق السلام والاستقرار الدائمين لبلادنا بواسطة الحلول العسكرية، وإنما فقط عبر الحوار بين كل التكوينات القومية السودانية. وطوال فترة الحرب الأهلية في الجنوب، كانت فرص الإبقاء على السودان موحدا هي الأوفر حظا، وبالكاد كنا نسمع حديثا عن الانفصال، رغم البروز القوي لشعار حق تقرير المصير على الساحة السياسية. فمانفستو تأسيس الحركة الشعبية خلا من أي إشارة للانفصال أو تقرير المصير، بل توسع في مفهوم وحدة السودان على أسس جديدة. وطوال فترة نشاطها في التجمع الوطني الديمقراطي، ظلت الحركة الشعبية تؤكد تمسكها بوحدة السودان القائم على دولة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وفصل الدين عن السياسة، والمشاركة العادلة في السلطة والثروة. ومن المهم جدا إبراز دلالة تصريح الراحل جون قرنق مباشرة عقب التوقيع على مقررات أسمرا، عندما قال: « الآن فقط يمكنني التصريح بإمكانية توقف الحرب والحفاظ على السودان موحدا». وفي أيار/مايو 1998، عقب لقاء ثلاثي للزعماء قرنق والصادق والميرغني، صدر إعلان القاهرة مؤكدا أن قضايا شكل الحكم وعلاقة الدين بالدولة، والتي تم التوافق عليها في إعلان نيروبي 1993 ومؤتمر اسمرا 1995، تمثل فرصة حقيقية للحفاظ على وحدة السودان. ولاحقا، أجمعت الحركة الشعبية مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي في مؤتمر مصوع، سبتمبر/ايلول 2000، على أن جوهر فلسفة الفترة الانتقالية هو الانتقال بالسودان إلى رحاب دولة ومؤسسات جديدة تُنهي الحرب الأهلية إلى الأبد، وتحافظ على وحدة السودان الطوعية. وفي خطابه في حفل التوقيع على بروتوكولات نيفاشا، 26 مايو/ايار 2004، طالب د. جون قرنق بمشاركة جميع القوى السياسية السودانية في رحلة ترسيخ السلام وتحقيق التحول الديمقراطي خلال الفترة الانتقالية، عبر تبني ميثاق وطني، يكون متماشيا لا متقاطعا مع بروتوكولات نيفاشا، بهدف الحفاظ على وحدة السودان. وعقب عودته التاريخية إلى الخرطوم، تموز/ يوليو2005، خاطب الراحل قرنق جماهير الشعب السوداني قائلا: «أنا جئت من أجل وضع جديد يكون فيه السودان نموذجا للتاريخ الحديث في افريقيا والعالم»، إلى أن قال «لا جنوب بدون شمال ولا شمال بدون جنوب».
أعتقدت أن هذه الفذلكة التاريخية لمسار شعار تقرير المصير في السودان، ضرورية كتمهيد لمناقشة نبتدرها في المقال المقبل حول المخططات الخفية لتقسيم السودان.
كاتب سوداني
القدس العربي