السودان : لغز الهوية وانتحال العروبة .!
يجب اغتنام فرصة انفصال الجنوب لتفكير في اسم جديد للسودان , فنحن عندنا ثقافة عربية إسلامية زنجية , وبيننا قبائل أشد عروبة من تلك الموجودة في الجزيرة العربية..! ولا نريد أن يصبح اللون الأسود هوية لنا ..!.
“وصال المهدي ..حرم د.حسن الترابي .”
كان مدرس سوداني يعمل بالتدريس في جنوب المملكة العربية السعودية , في منطقة قبائل القحطانيين , تسمى “عرين القحطان ” لو جاز لي وصف المدرس : وهو سوداني اسود اللون ( باذنجاني ) أجعد الشعر عسلي العينين , طويل القامة , مثال لإنسان الأفريقي كامل الدسم- من باب الفضول سأل أحد الأعراب أخينا السوداني : إلى أي قبائل السودان تنتمي يا زول !؟ كان رد الزول مدوياً : “أنا عربي عباسي عزيز النفر وأفصح منك ..!أنت أصلك ما معروف.. وما فاهم معنى العروبة ذاتو.. !!” ُصدم الحضور ما قاله , وانصرف الجميع بعد تبادل البسمات ..!.
هناك في الجزيرة العرب عدد كبير من السود , من اصل إفريقي تبعاً , بقايا رقيق القرون الأولى حسب قانون العرق يتبع العبد لسيده في جميع الصروف وحركات الأعراب ..! فلذا لا هوية لهم غير الهوية الأعراب . عندما تحرروا أصبح مكانهم في الأعراب مضاف إلية معروف بالإضافة . عندما يدعي أي اسود آخر العروبة ..!سواء كان سوداني أو حبشي أو نيجيري ..!بنسبة للأعراب يعتبر كسب ثقافي مجاني لهم..سوف ينضم هذا الأسود الجديد طوعاً إلى تاريخ بقايا رقيق الأعراب المحررين السود..! ويكون جزء أصيل منهم .! فلذا تجدهم يشعرون بارتياح عندما يدعي العرق الأسود العروبة في ديار العروبة ..!, هذا هو تفسير لغز ابتسامة القحطاني الذي فات على أخينا السوداني .
داء انفصام الثقافي ..
يعتبر الانفصام مرض نفسي , ولكن يمكن ان نصف وضع ثقافي لإفراد يعانون من إعراض شبيه بتلك التي تظهر عند انفصام الشخصية نتيجة لتربية ثقافية زائفة منحرفة , حيث يظن الشخص المصاب به أنه بخلاف الشخصية الماثلة إمامك..! وهو فرد آخر..! , هذا يحث عند بعض الأفارقة السودانيين مع سماتهم الأفريقية , ..! يعتبرون أنفسهم أعراب من بادية الِحمِير أو القحطان..! وأن لونهم أحمر وملامحهم قوقازية ..!
عقدة النقص – ( Inferiority Complex )
استعداد لا شعوري مكبوت ينشأ من تعرض الشخص لمواقف كثيرة متكررة تشعره بالعز أو قلة الحيلة , أو عدم الاعتراف من قبل الآخرين بما لديه من صفات أو قدرات , ..مثل هذا الشعور يذكره بالنقص يحمله بتلقائية على الدفاع عن نفسه ..ومن صفات عقدة النقص العدوان والاستعلاء والزهو الشديد والتظاهر والمبالغة في تقدير الذات , قد يحاول لفت الانتباه بالتفاخر الكاذب والتباهي الزائف واختلاق الكذب ..!.
نتيجة لنشأة الثقافية المنحرفة الزائفة في السودان , والتي تجعل النشء يتشبث بوهم متخيل اسمه العروبة السودان ,يبحث عنه ولم يجده حتى في التاريخ الزمن المستعاد ,يحدث لديه مواقف متكررة من هذا النوع تشعره بالعز أو قلة الحيلة أمام واقع متناقض , ويحس بعدم اعتراف الآخرين بعروبته المتخيلة المجردة ,وهذا يحمله بالدفاع عن أعراقه العربية المتخيلة ,مستخدماً آليات عقدة النقص ..! كالزهو والتظاهر والمبالغة في انتمائه للعروبة ..! كما يحدث عندنا في السودان ,الشعارات مثل: السودان قلب العروبة النابض ..نحن اشد عروبة من القبائل في جزيرة العرب..!نحن أفصح العرب لساناً والخ..!
المفهوم “الأسلاموروبي “في السودان:
السودان بحيزه الجغرافي كان- وما يزال – موطن لمجموعات أثنية وعرقية وقبلية.. متنوعة ثقافياً , ومختلفة دينياً , ومتفاوتة تاريخياً ومتداخلة جغرافياً .هناك مشكلة في الدولة السودانية , وهي أن علاقة المواطن بدولته مأزومة , فهي قائمة في داخلها على أساس فارق .. أي بتحيز الدولة لكيان أثني ثقافي ” اسلاموعروبي ” يقوم باستثمارها إقصائيا, ويفرض توجهاته ضد كيانات ثقافية أخرى..! , لأن الهوية “الأسلاموعروبي ” بمفهوم الأيدلوجي , في الواقع جزء من محددات تحقيق المصالح السياسية والمادية والمعنوية في الدولة , والمفهوم” الأسلاموعروبي “في الوعي الجمعي الموروث في مجتمع المسلم هو علو المسلم العربي ..! أو سمو المؤمن العربي وتشريعاته باعتباره حامل الرسالة الإسلام إلى بلاد العجم ..!, بحكم العادة والإرث وبمرور الزمن في اللاوعي الجمعي , تشرعنت الفوارق بين المؤمن العربي والمؤمن العجمي, .. فانتهى إلي تصور ثقافي يؤكد ولو ضمنياً بتفوق العرق العربي المؤمن .وفي ذلك لا يتنافس المتنافسون يسوق البعض مفاهيم البعث العروبي , : نحن العرب , نزل القرآن بلغتنا .., والنبي محمد خاتم الأنبياء من نسل العرب , والنبي إبراهيم علية السلام بنى بيت الله الحرام في ديار العرب ” مكة ” نحن رواد الحضارة وقادتها عبر القرون… وهكذا فسر كثير من القيم الأخلاقية بمقياس عروبي متطرف..! , في هذا السياق قال أحدهم : وهو فقيه “أسلاموعروبي ” المرأة السوداء ليست عورة ..!,لأنها ليست بيضاء مثل العربية.. ! , ان شاءت احتجبت أو لبست ما تريد ..! وقال احد زعماءهم : الإسلام دين العرب..!والنصرانية دين الأوربيين ..! الأفارقة السود لا دين لهم ..!ان شاءوا أسلموا , أو تنصروا , فلهم الخيار !. ومن طرائف هزأة في وسط العربان , أن أحدهم واقع لبنانية شقراء في رمضان , فطلب من شيخه فتوى مناسبة للكفارة ..! فقال له الشيخ : عليك مضاجعة سودانية كفارة لذلك ..!
” لا فرق بين عربي ولا أعجمي ألا بالتقوى ” لا اعتبار لمثل هذا الحديث في مفهوم الأسلاموعروبي ” معيار التقوى الذي خص الله عباده به وكرسه نبي الإسلام ليكون فيصلاً بين المؤمنين أصبح مجرد “نص” في خطب صلاة الجمعة والجماعة في المساجد ليس له أي دور في ترتيب الأنظمة الأسلاموعروبية في عالمنا..! , ودليل على ذلك ما نشاهدها من صراعات عرقية وأثنيه في كثير من البلدان العربية التي تقطنها قوميات متباينة وعرقيات متعددة , وبصورة أوضح في كل من السودان ولبنان والعراق الجزائر .. يتميز العراق بتنوع العرقي والديني الذي فرضته اعتبارات تاريخية وجغرافية دون أن يتسبب يوما ما أي مشكلة أمنية أو اجتماعية أو ثقافية إلى أن جاء حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة ومارس التمييز ضد القوميات ذات الأصول غير العربية في العراق في النصف الأخير من القرن العشرين ..!,وأجج فتن الصراعات العرقية والاثنية في البلد ..مشكلة الأكراد وتركمان .. وأصل الخليج , فارسي أم عربي ..! والأقلية الطائفية مثل الصابئة والمسيحية والآشورية .
في المغرب العربي هناك إشكالية مماثلة لمفهوم “الأسلاموروبي” بين العرب والقومية الأمازيغية ( البربر) . أقرا :ماذا كتب مفكرون الأمازيغ عن وضع الأمازيغ في المغرب العربي بصورة عامة , كتب – كاظم حبيب – عن “المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب “يقول 🙁 لم يواجه الأمازيغ في المغرب العربي عقدة اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية , طيلة قرون خلت إذ إنهم كانوا يتعاملون معها من خلال الدين الإسلامي اعتنقوه وساهموا في بفعالية في انتشاره وتكريسه في المنطقة , كما شاركوا بشكل متميز في النضالات المناهضة للاحتلال الفرنسي لبلادهم , وبمرور الزمن واجهوا جحوداً من القوميين العرب المتسمين بالتعصب القومي والشوفينية العنصرية , وأنكروا دور الأمازيغ في المغرب وفي الفتوحات الإسلامية ودأبوا على تسمية قادة العسكريين من اصل مازيغي في الإسلام على أنهم قادة عرب بدلاً من القول بكونهم من قادة المسلمين الأمازيغ كما هو واقع في حقيقة هؤلاء القادة , ويرد في هذا الصدد اسم القائد طارق بن زياد على أنه قائد عربي..! في الحقيقة هذه ليست معضلة الأمازيق وحدهم , بل هي مشكلة الشعب الكردي في كردستان العراق ومشكلة شعب الجنوب في السودان في صراعهم ضد مفاهيم “الأسلاموعروبية المتطرفة” ). فسكان السودان في الأصل هم سود أفارقة , تدفقت هجرات متواصلة عبر القرون إلى أرض السودان ” بلاد السود ” عرب , أتراك , أقباط , أمازيغ من شمال إفريقيا , بالإضافة إلى رحلات البينية مع شعوب الجوار . تاريخياً يعرف الشريط الممتد من إثيوبيا شرقا ومروراً بالسودان ” القطر ” وتشاد والنيجر ومالي إلى حدود موريتانياً شرقاً, بالسودان , لم تنتحل أي دولة من دول هذه مجموعة العروبة إلا السودان ..! رغم التماثل والتطابق الثقافي والاجتماعي, وتشابه في الأعراق والسلالات البشرية المكونة لهذه المجموعة مع السودان” القطر” .
يقول البعض : السودان بأعراقه المتعددة وثقافته المتنوعة , في حاجة ماسة إلى كيان جامع يلملم كل هذا شتات , ليس هناك بديل غير الهوية العربية والثقافة العربية الإسلامية ,حيث أن الإسلام هو دين أغلبية الشعب في السودان , وهناك جماعات سودانية مستعربة تدعي الانتماء للعروبة فلا تمانع الهوية العروبية وكانت أول منظومة سياسية جمعت أعراق وقبائل وثنيات السودانية , هي الثورة المهدية ومن ثم الدولة المهدية التي كانت تتخذ من التراث الإسلامي نهجاً وتوجهاً ..!.
ماهي الهوية :
جاء مصطلح الهوية في اللغة العربية من كلمة ” هو ” والهوية بكل بساطة , ما هيتك ؟! في المعجم الوسيط الصادر عن المجمع اللغة العربية , عرف الهوية أنها حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره.. ,أو مجمل السمات التي تميز شيئاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها . هناك خلاصة لتعاريف مفهوم الهوية : تطابق ما بين باطن الشيء وظاهره , أو بتماثل التجليات الظاهرة لأي كينونة مع جوهرها العميق , بلا انفصام أو انشطار ..! هناك تعريف يقترحه الجرجاني يتوافق مع التعريف الصوفي لمصطلح ” الهُو ” :” خصائص الشيء أو الشخص المطلقة , ( أهي المتخيلة و المجردة أيضا ؟ً) المشتملة على صفاته الجوهرية التي تجعله مميزاً عن غيره تميزاً , يُكسبه فرادته وخصوصيته , ويحدد الصورة التي يحملها في نفسه عن نفسه , والتي ستؤثر بطريقة أو بأخرى , في تحديد المنظور الذي سيعتمده لإحالة ذاته إحالة موضوعية في العالم , والذي سيطل من خلاله على الآخرين ليرسم الصورة التي سيكونها في نفسه ولنفسه عنهم .” .والهوية الشخصية تعرف شخصاَ ,: بشكله ..واسمه..وصفاته..وسلوكه..وانتمائه ..وجنسه .
بهذه المفاهيم الدقيقة حدد الفلاسفة والباحثون جوهر الهوية , ترى هل يمكن أن نحدد بعد هذا الهوية السودانية ؟ أهي عربية في جوهرها العميق أم أفريقية ..!؟
هل سمات المميزة للشعب السوداني وفرادته وظاهره وباطنه يطابق سمات العروبة ؟ كما في اليمن أو سوريا ؟
هل أشكال وأعراق وصفات وأسماء وسلوك أفراد شعب السودان في تجلياتها تماثل نظائرها في البلاد العربية ..!؟ كما تماثل أفراد في الأردن مقارنة مع ليبيا مثلاً..! للشعب السوداني خصائص وسمات تميزه عن غيره من الشعوب العربية وأهمها : اللون ..والشكل ..والعرق ..ونسبياً السلوك …! ما الذي يميز شعب السودان عن غيره من الأعراب ..؟ بكل بساطة اللون ..! ومن ثم لكنة والعجمة في لسانه..!وكذا اللحن والغناء السوداني .
العرب وحاشية اللون في السودان :
عندما أعلن السودان رسمياً التحاقه بجامعة الدول العربية في منتصف القرن الماضي, أعترض بعض الأعضاء في الجامعة ,وتحفظ فريق آخر..! الحقيقة الساطعة أن شعب السودان لا يملك مميزات العروبة الكافية , ولا حتى الثقافة العربية التي تميز الشعب العربي من الخليج إلى المحيط , ولكن هناك دولاً عربية مجاورة للسودان لديها مصلحة في عضوية السودان في الجامعة..! , ثم أن التيار الأسلاموروبي الجارف لم يطل برأسه على العالم العربي يومذاك , فلذا فُسح الطريق أمام السودان لانضمام إلى المنظومة العربية . رغم ذلك يرى كثير من العربان أن سواد لون السودان يلحق ضرراً بنقاء الدم العربي الأصيل ..!ويسبب لهم حرجاً أمام شعوب العالم ..!, ربما يعتقد البعض أن العرب سود مثل العبيد على حد زعمهم ..! في هذا السياق أعترض عدد كبير من مواطني أحدى دول الخليج العربي على تشكيل الفريق القومي للكرة ,لأن الأغلبية كانت من عناصر السوداء ,..! وهم يرون ذلك منقصة في حقهم كشعب أبيض على حد تعبيرهم , لا شك أن كثير من الدول في المنظومة العربية يحبون أهل السودان ويقدرون تضحياته.ولكن الحب لا يعني الهوية أو الانتماء..! ,
خلاصة القول أن شعوباً وقبائل في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وفي شمال إفريقيا شاركت العرب بفعالية في عصر ما بعد الخلافة الإسلامية وصنعت الحضارة الإسلامية في القرون الأربعة عشر من عمر الإسلام , كان المسلمون غير العرب عصب الدولة العباسية , وأسس الأتراك العثمانيون إمبراطورية إسلامية عظيمة دامت ستة قرون , وفي إفريقيا واصل الأمازيغ الفتوحات حتى الأندلس ” اسبانيا” وكانت لممالك غرب إفريقيا دور فعال في نشر الإسلام في غرب ووسط إفريقيا , . بعد انهيار الإمبراطورية الإسلامية ,وانحصار المد الحضاري الإسلامي , تشرذم العالم الإسلامي في شكل دويلات قومية وعرقية وجهوية وقبلية وأثنيه واسلاموروبية. والأمة السودانية أحدى تجمعات هذه الزمرة بجبّلتها وتجلياتها , لا يستقيم تعريبها بحجة الدين واللغة , لأن في جوهرها العميق وجيناتها الوراثية ليست عربية .
حامد جربو /السعودية
المزيد في موقعنا