عاصرت بدايات الممثل عبدالله عبد السلام فضيل قبل أن أخرج من السودان. وكذا كنت ألحظه من بعيد لبعيد بطوله الفارع كلما اقتربت من الحيشان الثلاثة. مغمورا، كان يبحث عن ذاته الدرامية بمثابرة وسط الفرق القليلة. ذلك في وقت عجز دراميون رواد أمثال أحمد عاطف، وخورشيد، ويس عبد القادر، عن الحصول على فرص للإبداع، والعيش الكريم معا، وهم الذين بدأوا تقديم أعمالهم المسرحية على ضوء الرتينة.
وفي غربتي أبحث كثيرا عن سكتشات درامية، ومسرحية، فأجد أصدقاءنا القدامي أمثال جمال حسن سعيد، ومختار بخيت، وعبد السلام جلود، يجتهدون بما تيسر. وفرحت أن فضيلا المغمور آنذاك حقق بعض الصيت، وخلق حضورا منتظما في الأعوام الأخيرة لينتج الضحك من خلال أعمال كوميدية، والتي وجدت تقديرا لدى شريحة من “مواطنينا البسطاء” أو”الكرام” كما يصطلح عليهم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم المثقفين.
ولكن هذه الأعمال ذات الأفكار المسرحية، والدرامية البسيطة، أو الساذجة أحيانا، نظر إليها بعض خريجي المعهد المتخصص في الدرما، وذواقة المسرح، بعين الشك، والريبة. لكونها ليست ذات مضمون عميق، وتجريبي، بالنسق الذي قدمه مثالا مسرحيو الجامعة بقيادة سعاد إبراهيم أحمد، ودراميو محطة التلفزيون الأهلية، وفرقة الأصدقاء، والسديم المسرحية، وجماعة شوف، وكواتو المسرحية. وعلى المستوى الفردي ففضيل، ورهطه، لا يسيرون على نهج الدراميين أمثال صديقنا صوصل الذي أتحفنا بتجربة مسرح الرجل الواحد، أو عز الدين كوجاك رائد المسرح المتجول.
فضيل – ذهناً، واستعداداً – ليس بمنتج مسرحي، أو درامي
ولكن فضيل – ذهناً، واستعداداً – ليس بمنتج مسرحي، أو درامي، من هذا النهج الحداثي الذي شاهدناه عند هاشم صديق، ومكي سنادة، وعبدالله علي إبراهيم، وأسامة سالم، وذو الفقار حسن عدلان، والخاتم عبدالله، وقاسم أبو زيد، والدوش، وغيرهم من المؤلفين والمخرجين. حسب فضيل أنه أقرب إلى نهج “ما يريده الجمهور”. وهذه مقولة ظهرت في فترة من فترات المسرح، والدراما، حيث يسير كاتب السيناريو حسب سير المجتمع، وهذه المقولة تتناص مع فكرة برنامج “ما يطلبه المستمعون”. إذ تنزل الإذاعة من عليائها لمستوى المستمعين، وتختار لهم ما يعجبهم من غناء، مع الفارق بأن بعض المستمعين يطلبون الجريف واللوبيا، وبعضهم يطلب “حني حني علي أنا يا ستي.. الحاصل بي سببوا اتي”. وكلو ذوق ولديك مسؤولية لرفعه.
ولو عد نقاد المسرح اتجاه فضيل الدرامي، وعدد من جماعة مسرح “الجمهور عايز كده” بأنه سطحي، فإنني تعاطفت قبل الثورة مع فضيل، وجماعته. وقلت إنهم مجتهدون ويحتاجون إلى النقد المسرحي لا الشتم، والاستهجان، فحالنا من بعضو. فهم – على الأقل – يحافظون على وجود الدراما في الأجهزة الإعلامية في ظروف بالغة القسوة على المسرحيين، والدراميين، على حد سواء. بل إن هذه الجماعة التي نشطت في زمن الإنقاذ، وتبنتها قنوات تنزل أحيانا إلى بهو الشارع، وتسعد قسماً من مواطنينا، أولئك الذين سميناهم البسطاء. وأحيانا تكون هناك تفاعلية ضاحكة معهم في سوق سعد قشرة ليخلقوا معا “مسرح الشارع”، لا على الطريقة التي برع فيها السماني لوال، وديرك الفريد، واستيفن عبر كواتو.
-٢-
فضيل أقام الدنيا، ولم يقعدها بعد، بعمله الدرامي الأخير الذي تناول اتفاقية سيداو بكثير من الابتسار لحقيقتها. ولم استغرب لفعلته بعد مشاهدتي لهذا العمل. فأخونا فضيل – سواء تواطأ مع جهات لتقديم هذا العمل، أو جلس في بيته، أو بيت أبيه ففكر في تقديم ما يراه هادفا للعميقين والبسطاء – فهو بالغ ما بلغ لا بد أن يقع في السذاجة المقيتة ..لابد. وهذه الخصلة لو ارتبطت بالمادة الفكرية، أو الاعلامية، تقود أحيانا إلى كارثة.
لو كانت المعلومات التي جرت على لسان فضيل في العمل المعني صحيحة لقلنا إنه مسرحي محافظ يريد أن يوظف الفكرة لخدمة بيضة دينه، أو عقيدته السياسية. وكما نعلم أن توظيف الايدلوجيا، أو العقيدة السياسية في المسرح، أو الدراما عند فضيل ليس بدعاً.
ولكن أخانا فضيل، وجوقته، وربما أيضا هناك كاتب سيناريو خفي خانوا أمانة الدراما، إن لم يكن الفن بتشويه مقاصد سيداو التي وقعت عليها جميع الدول العربية بتأييد تام، أو تحفظ.
بعيدا عن المسائل المتصلة بجودة التمثيل، وتقنية الإخراج التي بدت في العمل مثار الجدل، فإن فضيلاً، وجماعته، نبهونا لخير. وهو الضرورة لخلق درامتنا البديلة عاجلا أم آجلا. إذ إننا فشلنا بعد الثورة في إعادة الروح للإعلام المسؤول والمسرح الهادف، والدراما الذكية، خصوصا أن الذين ينشطون في هذه الساحات ما يزال فيهم الكثير من الذين يعملون على دس السم في الدسم، ويا ليت فكرة فضيل عن سيداو كانت دسمة من حيث روعة الشكل الدرامي.
فالدولة ليس لديها منظور لنهضة العمل الثقافي لا على مستوى الوزارة المعنية، أو رموز مجلس الوزراء، وتكفي استقالة الأستاذ عالم عباس عن المجلس القومي للآداب والفنون، ورسالة الأستاذ عبد القادر الكتيابي الذي نصبوه رئيسا لصندوق رعاية المبدعين، وتركوه في مكتب فقير، وبلا ميزانية، ولا عربة يتفقد بها أحوال المبدعين بينما أعضاء السيادي، والوزراء، يمتطون الفارهات.
أفضل مسارحنا بناها الديكتاتوريون
-٣-
لا حجر لفضيل، ولا يحتاج لكل هذا التقريع قدر حاجته للنصح فقط بألا يسير في تحقيق أجندات سياسية معارضة عبر الدراما الغشاشة. وربما تكون هي أجندته كدرامي محافظ لم يسع لاستقاء المعلومة الصحيحة فوقع في المحظور، خارجاً عن نصوص سيداو.
واجب المسرحيين، والدراميين، في الداخل الذين قدموا جهدا ثوريا في الثلاثين عاما أن يتوحدوا، ويلموا صفوفهم بشكل مؤسسي، وأن يعتصموا أمام الوزارة المختصة، وفي مجلس الوزراء، حتى نعيد الحياة للمسرح القومي. وللحقيقة فإن أفضل مسارحنا بناها الديكتاتوريون. فالفضل يعود لطلعت فريد الذي بنى المسرح القومي وجعفر نميري الذي قام بإنشاء قاعة الصداقة، ومسرحها.
أما هؤلاء المدنيون – وعلى رأسهم حمدوك – يبدو أنهم لا يفهمون دور الإبداع في حياة الأمم، ذلك رغم أنهم تلقوا تعليما جيدا في الداخل والخارج. فليس بينهم حادب على دعم المسرحيين، والدراميين، والتشكيليين، والكتاب، والروائيين، والنقاد، والسينمائيين، والشعراء. وهؤلاء كان لهم القدح المعلى في مقاومة النظام. ومع ذلك لم يهتم بهم وزير، أو عضو سيادي، للجلوس معهم لدعم الفترة الانتقالية ناهيك عن دعم الحركة الثقافية، وتأهيل بنياتها الأساسية، واستغلال الدعم الدولي لإنشاء مسارح، ودعم الدراما السودانية، والاهتمام بالمبدعين الرواد الذين قدموا الكثير، وتشجيع السينمائين بتوثيق ضروب الحياة السودانية، وأحداثها التاريخية، وعمل أفلام تحكي عظمة النضال ضد الهوس الديني الذي استمر ثلاثين عاما.
حتى الآن لم يهيئ المسؤولون مجالا للمسرحيين والدراميين بتقديم عمل واحد عن ثورة ديسمبر والاعتصام وفضه، فكيف لا يغرد فضيل، وفصيله، عبر القنوات الإعلامية بكثير من التنكيد الذي يتساوق مع أفكار جهات معروفة؟.