السودان : ثقافة التربُح من الأزمات
عثمان نواي
ان الحياة في الصفوف في كل أنحاء السودان أصبحت تتحول إلى مشهد عادي. بل أصبحت صفوف البنزين هي نفسها حالة اجتماعية انتقلت إليها وسائل الترفيه والطعام والعبادة والنوم ، الأمر الذي جعل أحدهم يعلق على دعوه للتظاهر السلمي قائلا ( لماذا تريد لصفوف الوقود أن تنتهي وقد أصبحت مصدرا للرزق لبائعات الشاي والطعام وباعة السجائر وغيره . هذا طبعا إضافة إلى السوق الأسود المنتعش للوقود وكذلك أسعار المواصلات الخرافية التي تكاد لاتصدق.
على صعيد آخر فإن دموع الوزير الذي خاف على نفسه من مصير غندور المعزول واعترافات بكرى حسن صالح وقبله غندور ، هي أيضا تندرج. تحت لائحة الربح السياسي لهذه الشخصيات لكي تظهر نفسها على أنها ذات مصداقية وشفافية حتى تضع نفسها في مكان أقوى لدى الجماهير وهذا ليس سوى تحسب وإعداد لمواجهة الصراعات الداخلية في النظام وكذلك رغبة في التصدي لتحدي حكم السودان ولو تحت رضوخ كامل لشروط مدفوعة من الخارج سواء من معسكر قطر او السعودية في محاولة بائسة لكي تستمر الحركة الإسلامية في سدة الحكم.
على صعيد آخر للأسف انه حتى على صعيد المعارضة يحاول البعض استغلال الأزمة الراهنة لكي يدعو الشعب السوداني الي الثورة سواء بالعصيان المدني أو التظاهر. ولكن يبدو ان هناك عدم رغبة وقدرة لدى المعارضة المركزية في أحداث نقلات نوعية حقيقية. حيث انه اذا كانت لديها تلك الرغبة الجادة في التغيير الجذري، لقاد ذلك المعارضة الي التساؤل عن سبب فشل دعوات سابقة للخروج على النظام بسبب هذه الضوائق والأزمات. حيث ان الاستجابة من الشارع السوداني كانت دوما ضعيفة أو على الأقل متقطعة ودون الطموح . وبالتالي فإن الخلل الجوهري في محاولة استغلال المعارضة للأزمات الاقتصادية في إثارة الشارع، يكمن في العجز عن الدفع بقوة اتجاه المبررات العميقة الحقيقة التي تستوجب قيام الثورة، تلك الأسباب التي تتجاوز رغيف الخبز أو البنزين أو الدواء. بالتالي فان محاولة تعبئة الشارع عبر الركوب على موجات الغلاء والأزمات الاقتصادية رغم اثبات فشلها حيث أن بعض القوى السياسية تصر عليها جعل هذه الأزمات نفسها هي آلية التعبئة وبالتالي أصبحت هذه الأزمات جزء من آلية صناعة الثورة التي يستغلها بعض القوى السياسية وبالتالي فإنها كازمات ربما أصبحت أكثر أهمية لدي تلك القوى السياسية من إيجاد الحلول الجذرية لهذه الأزمات أو لمشكلة الوطن ككل.
ان آليات اتعامل مع الأزمات في السودان هي آليات متعلقة فقط بعملية اختلاق وسائل للنجاة في الوقت الراهن ولكنها لا تبحث ابدا عن حلول جذرية. وذلك عبر التعامل مع أعراض الأمراض وليس أسبابها. كما الحالة المزمنة من الأزمات طوال تاريخ السودان الحديث، يبدو أنها جعلت هذه الأزمات الوضع الطبيعي الذي أصبح السودانيين مبدعين اما في تجاهله أو التواؤم معه. حيث أن صفوف انتظار البنزين اصبحت فجأة مكانا لأداء الصلاة واصبحت نادي لعب الكوتشينة. بل حتى المظاهر الإيجابية مثل إطعام المنتظرين من قبل بعض المواطنين هو جزء من عملية التعايش مع الازمات. ويبدو أن مزاج الأزمة المزمن الذي عاشه الشعب السوداني جعل التفكير في الحلول أشبه بعملية انتحارية على المستوى النفسي والعقلي، حيث يعجز الخيال الجمعي عن تصور سودان خالي من الأزمات. ومن أهم أسباب عجز القوى السياسية عن قيادة الشعب السوداني هو أن هذه القوي لا تحمل اي تصور إيجابي للمستقبل بل إنها نفسها تستخدم خطاب الإزمة عبر الترهيب من أزمات أكبر إذا بقي النظام بدلا عن الترويج لسودان آخر حر تماما من حالة التازم المستمر منذ بداية الدولة السودانية.
ان محاولات التربح من الأزمات هو وجه آخر لمجتمع أصبح شديد الانعزال عن بعضه وفيه قدر عالي من التحيز للذات والانانية. في حين تغيب الروح الجماعية والوطنية. وهذا الغياب هو جوهر الأزمة الحقيقية في السودان والتي مظهرها فقط هو نظام الإنقاذ وعشرات الأزمات القطاعية والكارثية التي صنعها عبر 30 عاما من العبث بمصير السودان. فتجار العملة ومرتزقة الجنجويد وتجار الدين والمخدرات وإرسال الجيش للارتزاق في اليمن ومحاولة صناعة الثورة على أكتاف أزمات اقتصادية هي جميعها من أشكال التربُح من الازمات.. وفي هذا الوطن المأزوم بنيويا وهيكليا فإن فكرة المواطنة الكاملة والشعور بالإنتماء الوطني يعتبر الأرضية الأساسية التي لم يجتمع عليها السودانيين حتى الآن. لذلك ففي ظل وجود هذه الأزمة البنيوية الجذرية ستبقى البلد ككل في حالة تأزم مزمن وأبدى، وهو ما اعتاد عليه الناس. بحيث أصبح الشعب السوداني أشبه بمريض السرطان في المراحل الأخيرة، فقد جرب كل الحلول من ثورات وانتفاضات وحروب أهلية. وجرب الإسلاميين والتقدميين والطائفية والديمقراطية، ولكن كل هذه المعالجات السطحية لم تصنع وطنا ولم تصنع انتماء ولم تشفي السودان من مرضه القاتل. لذلك أصبح الشعب يحاول الاستمتاع بما تبقى له من ساعات جيدة في الحياة قبل أن تتدهور الامور للأسوأ وهذا التدهور هوالسيناريو المرعب ولكنه السيناريو المحتوم أيضا. حيث أن السودان دولة لها تاريخ وحاضر فريد وهذه الفرادة سوف تنطبق أيضا على طريقة السقوط والانهيار. فلا دول الربيع ولا اي سيناريو اخر قد يكون وسيلة التنبؤ لما هو قادم. ولذلك فإن محاولة التربح قدر الإمكان من وطن يغرق أشبه بعملية اقتلاع ونهب جميع الأعضاء الفاعلة في جسد على وشك الموت وبسرعة كبيرة قبل أن تتم اي محاولات لإنقاذ هذا الجسد من الموت. فالنظام. يبيع أراضي السودان وعرضه شيئا فشيئا لسد عجز موازناتهم. بينما يبيع بعض المواطنون كل ما يعينهم على البقاء وتبيع المعارضة بضاعه ثورتها في ظل هذه الأزمات والتي لا تجد المعارضة غيرها وسيلة لعرض بضاعتها سوى باستغلال الأزمات هذه بدلا عن طرح مشاريع وطنية جاذبة توحد السودانيين على رؤية لوطن أفضل. وفي هذا السوق الكبير لأزمات السودان الجميع بائع ومشتري ولذلك تستمر الأزمات في التفاقم دون حلول ليس لعدم وجود الحل ولكن لأن الازمات نفسها أصبحت وسيلة إنتاج وأسلوب حياة سوداني بامتياز.
[email protected]