السودان …تفاوض على وقع الرصاص
أسماء الحسينى
[email protected]
“سنقاتل بيد ونفاوض باليد أخرى ” .. هكذا عبر إدريس عبد القادر رئيس وفد السودان عن وضع التفاوض بين دولته و دولة جنوب السودان فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا برعاية الإتحاد الأفريقى ،من أجل التوصل إلى حل للقضايا العالقة بين الدولتين ،التى لم تحل بعد ،رغم إنفصال الجنوب أو إستقلاله فى يوليو من العام الماضى .
ومنذ إستقلال دولة الجنوب لم يتحقق السلام الذى وعد به النظامان الحاكمان شعبيهما ،أوخدعاهما بأنه سيحل مشاكل الدولتين ويوقف الحرب،ولكن هذا لم يحدث ،بل واشتعلت حروب أخرى فى جنوب كردفان والنيل الأزرق بالسودان الشمالى ،وتوحد المتمردون فى المنطقتين مع متمردى دارفور ،وكونوا مايسمى ب”الجبهة الثورية ” التى تخوض الآن حربا لإسقاط النظام السودانى ،الذى يتهم جارته اللدود جنوب السودان بدعمها ،وبدورها تتهم جوبا الخرطوم بدعم حرب مماثلة للمتمردين ضدها .
ورغم العلاقة المتوترة بين الجانبين منذ ما قبل الإنفصال ،ثم التصعيد بعده ،إلا أن الأيام الأخيرة شهدت تصعيدا غير مسبوق ،نقل الحرب بين الجانبين من حرب بالوكالة إلى حرب مباشرة ،ومن مجرد مناوشات حدودية ،إلى توغل كل طرف داخل حدود الدولة الأخرى ،وإتهامات جوبا للخرطوم بتكرار القصف الجوى فى داخل حدودها ،وإتهامات مضادة من الخرطوم لها بإحتلال مناطق البترول والمشاركة فى الهجوم على جنوب كردفان ،وأدت هذه الإشتباكات إلى إلغاء قمة كانت مقررة بين الرئيسين عمر البشير وسلفاكير ميارديت فى جوبا ،وإلى خرق إتفاق إطارى وقعه البلدان مؤخرا ،ليلحق بإتفاقيات أخرى ،أفشلها الطرفان سابقا ،مما أدى إلى مخاوف كبيرة من إشتعال حرب أو مواجهة شاملة بين الطرفين لا تبقى ولاتذر.
ورغم استمرار الإشتباكات عاد الطرفان مجددا إلى مائدة التفاوض فى أديس أبابا تحت ضغوط داخلية وإقليمية ودولية ،ورغم ذلك لايزال كل طرف منهما لايثق فى الطرف الآخر ،لأن التجربة المشتركة عززت ميراث ضخم من المخاوف والهواجس ،وملايين البشر فى السودان هم الآن من يدفعون ثمن هذه الحروب المقيتة من أعمارهم وأرواحهم وأعزائهم وأمنهم وكرامتهم ،وفى مقدمة هؤلاءالجنوبيين فى الشمال الذين يقدرون بحوالى 70 ألفا معرضون للترحيل إن لم يتوافق الطرفان على تسوية أوضاعهم ، وكذلك ملايين البشر من أبناء الشمال الذين يعيشون وملايين من أبقارهم على طول خط الحدود بين الدولتين التى لم يتم ترسيمها بعد ،والتى تعد أطول حدود فى أفريقيا ،حيث تقدر بألفى كيلو متر ،وهؤلاء يتحركون إلى دولة الجنوب ويمكثون بها بحثا عن الماء والكلأ 8 أشهر من العام ،وإذا أغلقت الحدود فى وجههم هلكوا وهلكت أبقارهم ،وكذلك أوضاع أعداد كبيرة من البشر فى منطقتى جنوب كردفان والنيل الأزرق فى خطر ،حيث تطالب منظمات الأمم المتحدة الخرطوم بفتح ممرات آمنة لتوصيل الإغاثات إليهم ،وترفض الخرطوم حتى لايكون ذلك وسيلة لتقوية شوكة المتمردين ضدها ،وقد حذرت وكالات الأمم المتحدة أن هاتين المنطقتين بالشمال ومناطق واسعة أخرى بالجنوب مهددة بمجاعة وشيكة ،وقد وصلت الأوضاع الإقتصادية والأمنية والإجتماعية فى البلدين الآن إلى حالة مزرية ،وكل الطاقات والأموال توجه للحشد والتعبئة والحرب ،وقد خلق النظامان الحاكمان فى الدولتين و سمحا بخلق أجواء مشحونة ومتوترة ،رغم أن الغالبية العظمى من أبناء الشعب السودانى قد سئمت الحرب ،وتيقنت الآن أنه لاطائل من ورائها .
وسيظل وفدا التفاوض فى مأزق طالما استمر الشحن الإعلامى وتردى الوضع الأمنى على الأرض ،لأنه لايمكن ببساطة أن يقاتلا بيد ،ويفاوضا باليد الأخرى ،ولأن كلا الطرفين لابد أن يقررا ما يريدانه بالفعل ،فإما الحرب وإما السلام ،فهما ضدان لايجتمعان ،ولكلا الخيارين مطلوباته وشروطه الموضوعية وأيضا الأجواء المواتية التى يتحقق فيها ،مع الأخذ فى الإعتبار أن الحرب إن عادت هذه المرة ستكون أعنف وأشد تأثيرا وتدميرا من سابقاتها ،وان كل طرف يجب أن يحل قضاياه الداخلية ،حتى لاتظل حجر عثرة فى وجه أى إتفاق بين الدولتين .
وقد يكون البترول هو القضية الأسهل التى يمكن أن يتفق عليها الطرفان إن قررا السير فى طريق التفاوض لحاجتهما إلي أمواله ،لكن البشر لا يجب فى كل الأحوال سواء كانوا فى الشمال أو الجنوب أن يبقوا وقودا لهذه الحرب ،أو رهائن أوكروت ضغط للتفاوض من قبل طرفى الصراع .