السودان.. بين “تدويل” الازمات و”تعريب” الحلول
يشهد السودان واحدا من أهم الأحداث السياسية في تاريخه الحديث، حيث تجري الإنتخابات العامة والرئاسية في البلاد، وكلما اقترب الموعد المحدد في الحادي عشر من أبريل الحالي، كلما إزدادت الأجواء السياسية سخونة على كافة الأصعدة خاصة مع تصاعد الحملات الإنتخابية للمرشحين.
سخونة الأجواء تتصاعد أيضا مع مطالب قطاع واسع من المعارضة السودانية، بضرورة تأجيل الإنتخابات، مشككين في إجراءات السجل الإنتخابي والذي بلغ قرابة الـ 16 مليون من مجمل 38 مليون هم عدد سكان السودان، وفق الإحصاء السكاني الذي سبق الإنتخابات والذي شككت فيه المعارضة أيضا، وكذلك التشكيك في توزيع الدوائر الجغرافية، بالإضافة إلى إتهام المؤتمر الوطني ” الحزب الحاكم بالسودان” بتزوير عدد كبير من البطاقات الإنتخابية لصالحه.
قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم في المقابل تؤكد إستحالة تأجيل الإنتخابات بعد قطع شوط كبير من إجراءتها، وبعد صرف مبالغ ضحمة على الأمور الإجرائية للعملية نفسها، معتبرين أن التأجيل بذلك يعتبر إهدارا للمال العام، ومشيرين إلى مطالبة المعارضة بهذا التأجيل، ترجع إلى أنها – قوى المعارضة – قد عرفت حجمها على الأرض، وبالتالي تريد أن تشكك في الإنتخابات، حتى يحافظ كل حزب على مكانته السابقة في المجتمع، والتي ربما تهتز بصورة قوية بعد إظهار النتائج.
الحركة الشعبية شريك المؤتمر الوطني في الحكم وفق إتفاق نيفاشا الذي وقع بين الطرفين في يناير من عام 2005 ترفض هذا التأجيل، وتنطلق في ذلك من أرضية مختلفة عن الوطني، فهي تريد أن يجرى الإستفتاء على حق تقرير مصير الجنوب وفق الإتفاقية، في موعده المحدد في يناير من العام المقبل، وتذهب إلى أن تأجيل الإنتخابات سيؤجل بالتبعية هذا الإستفتاء، الأمر الذي ترفضه الشعبية تماما، في الوقت نفسه تتفق الحركة الشعبية مع التشكيك في نزاهة العملية الإنتخابية، مؤكدة أن شريكها في الحكم غير نزيه، وبالتالي لن تسفر عن اجراءاته إنتخابات نزيهة.
وبات واضحا أن الإنتخابات السودانية سوف تأتي بمفاجآت مدوية في حال قيامها، أو تأجيلها، أو حتى إلغائها، فهناك سيناريوهات كثيرة تنتظر كل فرضية من هذه المعطيات، فلو أقيمت في موعدها ستسفر عن أمرين إما نجاح الحزب الحاكم ووقتها ستعلو أصوات تؤكد أن هناك تزوير، وغير معلوم موقف المجتمع الدولي وقتها من هذا الأمر وما اذا كان سيقف مع إعتماد النتيجة، أما أنه سيقف مع الطرف الآخر؟ وقتها سيتكرر نفس السيناريو الذي حدث في بعض البلدان الأفريقية وعلى رأسها كينيا، وماصاحبها من مظاهر عنف أثرت على البلاد هناك.
الإحتمال الآخر أن يسقط البشير وحزبه، وهذا الإحتمال رغم ضعفه،إلا أنه لو تم سيغير مستقبل السودان جملة وتفصيلا، فيما لا يستطع أحد أن يتوقع ماإذا كان هذا التغيير مثمر أم لا؟
أما إذا حدث تأجيل للإنتخابات، فسوف يتأجل الإستفتاء أيضا، وهذا سيناريو غير معلوم النتائج، لأنه لو تم وقبله الحزب الحاكم السوداني، سيكون نتيجة لتنازلات وضغوط دولية كبيرة، وهنا تفرض التساؤلات نفسها حول طبيعة هذه الضغوط، وحجم التنازلات في مواجهتها، وهل هذا سيكون وفق الصالح العام، أم وفق مصالح فئة سياسية معينة سواء في الحكومة أو المعارضة؟
وكانت بعثة المراقبين الدولية في السودان قد قالت انه ربما يتعين على السودان تأجيل أول انتخابات تعددية يشهدها منذ 24 عاما بسبب تأخيرات في التجهيز والإعداد مع غياب مئات الآلاف من الأسماء عن قوائم الناخبين قبل أسابيع من الانتخابات. وأصدر المسؤولون في مركز كارتر، و هو منظمة غير حكومية مقرها الولايات المتحدة، تقريرا جاء فيه أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي ستجرى في السودان في ابريل/ نيسان ما زالت “في خطر على عدة جبهات”. وحثوا السودان على رفع القيود الصارمة على المسيرات وإنهاء القتال في دارفور قبل الانتخابات.
وانضمت أحزاب سودانية معارضة إلى الدعوة لتأجيل الانتخبات قائلة إن السودان يحتاج إلى وقت يقر فيه الإصلاحات الديمقراطية.
من جانبها رفضت المفوضية القومية للانتخابات في السودان اقتراح التأجيل للانتخابات وهدد الرئيس عمر البشير بطرد المراقبين الدوليين في حال الاستمرار في التدخل في سير العملية الانتخابية.
اما إلغاء الإنتخابات، وهو أضعف الإحتمالات، فقد يعني انهيار اتفاقية السلام برمتها وعودة السودان مرة أخرى إلى مربع الحروب الأهلية، ولكن الرجوع هذه المرة سيؤدي بالبلاد بالتأكيد إلى مالا يحمد عقباه وهو أمر يخشاه كل المتطلعين الى استقرار السودان وسلامته.
وفي كل الحالات فإن مستقبل السودان ونجاح او فشل الانتخبات القادمة مرتبط كثيرا بتطلعات وضغوط الأطراف الدولية تجاه العملية السياسية في البلاد.
وأول هذه الضغوط تمثله المحكمة الجنائية الدولية. فبينما كانت الأنظار متجهة إلى قطر، حيث ترعى الدوحة، مفاوضات السلام بين حركات التمرد الدارفورية المسلحة والحكومة السودانية، عادت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والمدعي العام لديها، الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، ليحتلا العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام العالمية. فقد أبطل قضاة دائرة الاستئناف في المحكمة، وبطلب من أوكامبو، قرارا سابقا كانت الدائرة التمهيدية في المحكمة نفسها قد اتخذته وأسقطت بموجبه تهمة الإبادة الجماعية عن الرئيس السوداني عمر حسن البشير، مكتفية بتوجيه سبع تهم إليه أبرزها تهمتا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وقد برر قضاة الدائرة التمهيدية قرارهم، يومها، بأن المدعي العام “لم يقدم أدلة كافية” فيما يتعلق بتهمة الإبادة الجماعية. وبالرغم من أن التهم السابقة كانت كافية لإصدار مذكرة توقيف بحق البشير، فإن أوكامبو “لم يستسلم” لقرار الدائرة التمهيدية، بل توجه إلى دائرة الاستئناف مع “أدلته الجديدة” ليحصل منها على هذا القرار الجديد.
و صدور القرار في هذا الوقت بالذات، أي قبل شهرين من موعد الانتخابات السودانية، طرح استفهامات كبيرة. من بينها ركون البعض إلى وجود “نظريات المؤامرة” ضد الحكومة السودانية. فيما واصلت الخرطوم “حملتها” على المحكمة الجنائية الدولية والمدعي العام أوكامبو متهمة إياهما بشتى التهم، لعل أبسطها تنفيذ “أجندة ضد السودان”.
وسبق ان اقترحت دول أفريقية وعربية وضع المادة 16 موضع التطبيق قائلة ان محاولة أوكامبو تقديم البشير الى المحكمة الجنائية الدولية ستضر على الارجح بالجهود الرامية لاستقرار الأمن في دارفور والتقدم في عملية السلام. وقد رفضت ايضا كل من الولايات المتحدة وبريطانيا اللجوء الى للمادة 16 لنفس الاسباب.
والمادة 16 من القانون الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تتيح للمجلس تأجيل التحقيقات لعام أو أكثر.
ويقول مسؤولون من الامم المتحدة ان ما يصل الى 300 ألف شخص لقوا حتفهم منذ اندلاع الصراع في دارفور قبل خمسة أعوام وان 2.7 مليون اخرين اضطروا لترك ديارهم. بينما تقول الخرطوم ان القتلى عددهم عشرة الاف.
ومستقبل السودان لا يقف عند المحكمة الجنائية فقط. فهناك تحدي آخر امام حكومة الخرطوم وجنوب السودان بشأن مراعاة قرار هيئة التحكيم الدولي حول وضع منطقة ابيي الغنية بالنفط.
وكانت محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي قد اصدرت قرارا قضائيا لصالح الحكومة السودانية في قضية النزاع حول منطقة ابيي بينها وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهو النزاع الذي ادى الى صراع دموي شهدته المنطقة خلال الأعوام الماضي.
وقد منحت المحكمة حقوق السيطرة على حقول النفط في المنطقة للحكومة السودانية، بعد ان قضت باعادة رسم حدود المنطقة على نحو يجعل من تلك الحقول ضمن المنطقة التي تقع تحت سيطرة الحكومة المركزية في الخرطوم.
وصدقت المحكمة، المكونة من خمسة قضاة، على القرار السابق للجنة ترسيم الحدود المتخذ في عام 2005، لكنها رسمت ايضا حدودا جديدة في شرقي وغرب المنطقة، مما وضع حقول هيجليج وخط انابيب النيل تحت سيطرة الحكومة في الخرطوم.
ويعتبر هذا القرار بمثابة اختبار حاسم لاتفاقية السلام الموقعة في عام 2005 بين الخرطوم والحركة، والتي انهت صراعا استمر نحو 21 عاما بين الشمال والجنوب، ادى الى مقتل مليون ونصف شخص وتشريد ملايين آخرين.
وكانت منطقة ابيي، الغنية بالنفط، والتي يستخدمها السكان المحليون لاغراض رعي الماشية، قد شهدت اعمال عنف دموية خلال الاشهر التي سبقت قرار المحكمة.
وقد دفع هذا الخلاف الى رفع القضية الى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي لاعادة ترسيم الحدود عقب معركة وقعت في مايو/ اذار من عام 2008 راح ضحيتها 22 جنديا حكوميا، ونتج عنها احراق اجزاء كبيرة من مدينة ابيي، واضطرار نحو 50 ألفا من سكانها الى النزوح..
وجاء قرار إخضاع أبيي للتحكيم الدولي في اجتماع مشترك بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في الثامن من يونيو/حزيران من عام 2008، والذي انتهى الى ما عرف لاحقا بـ “خريطة طريق أبيي”، والتي تضمنت ثلاثة بنود أساسية هي الترتيبات أمنية، وعودة النازحين، والترتيبات المؤقتة لادارة المنطقة والحل النهائي.
وهناك تعقيد إضافي في المشهد السوداني يتمثل في خيار “التعريب” بشان أزمة دارفور. وخيار التعريب يعتبر في الواقع تواصلا للجهود التي بدأها الزعيم الليبي معمر القذافي منذ عام 2004 عندما عقد أول لقاء في طرابلس جمع يومها المكونات السياسية والاجتماعية الأساسية في الإقليم، إضافة إلى غيرها من الخطوات التي قادت كلها إلى تقريب وجهات النظر بين 6 حركات مسلحة في الإقليم.
حيث أن العرب استيقظوا عند منتصف الليل من سباتهم وأطلقوا مبادرة كلفوا بموجبها قطر أن تقود جهود الوساطة في دارفور. وفي حقيقة الأمر فإن الجامعة العربية لم تستيقظ، ولكن قطر هي التي طرحت المبادرة وحصلت على المباركة العربية لتتجنب الحساسيات التي واجهت من قبل دورها في لبنان وفلسطين.
مهما يكن فإن المبادرة القطرية بجانب جهود وتنسيق ليبي مكثف لقيت قبول الأطراف الأهم وأصبحت المسار الوحيد الواعد بحل، مما جلب لها تأييد كل القوى الدولية والإقليمية، بما في ذلك الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الكبرى. ولكن المبادرة أعادت طرح قضية دور “الوسيط المشترك” الذي أصبح عملياً بدون مهمة. من الناحية الشكلية أعادت قطر انتاج حالة ما قبل تعيين الوسيط المشترك، حيث أصبح هناك وسيطان: قطري ومشترك، بدلاً من افريقي وأممي. وحتى الآن بدا أن الطرفين يتعاونان ويتكاملان، ولكن ليس هناك وضوح في دور كل طرف، ومسؤوليته عن العملية.
وقد بلغ التوتر حداً أن الوسيط لم يسمح له بمخاطبة قمة مجلس الأمن والسلم الافريقي التي أجازت تقرير امبيكي نهاية الشهر الماضي في العاصمة النيجرية أبوجا.
وبدوره فإن الوسيط عبر عن تحفظات تجاه التقرير، مما قد يعقد من الإشكاليات التي تواجه جهود الوساطة. فمن جهة هناك تقرير امبيكي وتوصياته التي التزم الاتحاد الافريقي بالعمل على تنفيذها. وهناك الوساطات المتعددة والجهود الليبية والأمريكية والمصرية لتوحيد فصائل دارفور، وهي مهمة تبدو شبه مستحيلة حالياً.
وفوق ذلك هنالك التوجه الافريقي والدولي حالياً نحو تركيز الجهود على اتفاقية السلام الشامل ومستحقاتها من انتخابات واستفتاء ومحاولة تفادي انفصال الجنوب أو التحسب لعواقبه إن حدث.
وهذا التوجه يهدد بإعطاء قضية دارفور مكانة ثانوية في قائمة الاهتمامات الدولية، وهي مكانة ستتراجع أكثر لو زادت تعقيدات القضية وكثر التنازع حولها.
تقرير امبيكي سعى للتحوط من هذه المخاطر بالدعوة إلى التركيز على جهود السلام خلال الأشهر القليلة القادمة بحيث يتم التوصل إلى حل قبل موعد الانتخابات العامة في أبريل، كما أنه أمن على محورية المنبر القطري للوساطة بالتعاون مع الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة. وإذا تم التقيد بهذه التوصية فإن من شأن التناقضات والاحتكاكات أن تقل ويتم التركيز على جهود السلام بدلاً من المماحكات الداخلية بين أطراف الوساطة الذين قد يصبحون بدورهم في حاجة إلى “وسيط مشترك” يعالج خلافاتهم.
ولكن لعل التحدي الأكبر الذي يواجه الجميع ينبع من التحول الجذري الذي طرأ على قضية دارفور وعدم التفات الأطر الحالية لبعض أهم جوانبها. فعندما تفجرت أزمة دارفور كانت المظالم التي رفعت تتعلق بالتمثيل السياسي العادل لدارفور في الحكومة المركزية، وحق دارفور العادل في التنمية، إضافة إلى المعالجات التي رآها البعض خاطئة لبعض صراعات دارفور الداخلية.
المفارقة هي أن معظم هذه الإشكاليات جرت معالجتها في اتفاق السلام الشامل الذي أبرم في نيفاشا، وأمن على الديمقراطية والتمثيل العادل للأقاليم والتنمية المتوازنة، كما أن بعض الأمور المتبقية تمت معالجة معظمها في اتفاق دارفور للسلام الذي أبرم في أبوجا عام 2006. وإذا كانت بقيت إشكالات جانبية أخرى فإن أي منها ما كان يستحق ما أريق من دماء بعد ذلك ولا معاناة الملايين من المهجرين المستمرة منذئذٍ.