السودان: المنارة أم الجسر؟
بقلم : يحيى العوض:
تعمدت غمس قلمي في حبر الصمت كلما جمح للبوح بتلك الذكريات المضمخة بأيام التجمع الوطني الديمقراطي، في دفء أسمرا، وضباب لندن، وصقيع أوسلو… تلك الأيام، نهدهد عزيزتنا “الفجر”، نبشر بالخلاص ونحذر من مكائد ومصائد “الظلام المستنير” وقدراته الحربائية في التلون والاختراق…!
كنت وأخي، صديق محيسي نعمل ليل نهار وبإمكانات محدودة لتصدر “الفجر” أسبوعيا وباللغتين العربية والإنجليزية.. كان التزاما صارما بصدقية المعلومة والتشبث بالمعايير المهنية ونبذ فاحش القول وبذاءة الكلمة.. واستعصمنا بهذه المبادئ ولم نحد.. ولم نرد على مناوشات الأستاذ حسين خوجلي، غفر الله له، الذي أسرف في وصفنا بالملحدين والعملاء والكفرة، والشيوعيين، والوجوديين وأعداء الإسلام..!!. وفقدنا كتابا مرموقين، من أصحاب القلوب “الحارة”، لأننا حذفنا من مقالاتهم عبارات اعتبرناها غير لائقة!
ووقف معنا رجال، كنا نعدهم انطلاقا من أوهامنا وتوجساتنا وموروثاتنا الإيدولوجية، أنهم الأبعد عنا فكرا ومنهجا، نبرر التعامل معهم بحكم الضرورة، ومتطلبات المرحلة، وبعزم أكيد ونية مبيتة على فض الارتباط معهم في أقرب فرصة ممكنة..!! وكم أسفنا لاحقا، مدركين خطأنا الجسيم، وقد تجاوزناه، حمدا لله وقبل فوات الأوان وبعد التمحيص والتدقيق والتوثيق… عرفنا ذلك الرجل عن قرب.. ويكفي لوكان حصاد التجربة معرفته فقط والاقتراب منه لا أكثر كافيا ووافيا. ومن أقوال الشهود وصدقية الوثائق.. كان الرجل بلا منازع المؤسس للتجمع، مهندسه، وقائده، مضحيا بماله ووقته لجمع الصفوف وتزويد الإعلام عبر القارات بالمعلومات والبيانات، يصدر من مكتبة مطبوعة يومية مصورة تتضمن كل مايكتب عن التجمع والنظام في الخرطوم سلبا أوإيجابا ويرسلها عبر الفاكس إلى الصحف وفي حالة وجوده في لندن أوالقاهرة أوأسمرا، يقوم ابنه برحلات مكوكية يوميا إلى منازل ومكاتب الفعاليات السياسية والإعلامية، ليمدها بهذه المستجدات أولا باول.. وانتبهت إلى حقيقة الرجل وتوطدت علاقاتنا.. وبعد حوارات مستفيضة وإلحاحا لا يفتر ورجاء لا ينقطع أقنعته بضرورة كتابة مذكراته.. وكنت أعرف شفرة أريحية وسيكولوجية شيخ العرب…وبدأنا نسجل عشرة أشرطة سعة 90 دقيقة، لكنها كانت قطرة من تجارب رجل حارب دون هوادة ثلاثة أنظمة شمولية متتابعة!…وشاء الله ألا تكتمل المذكرات… كان هناك قرارا حزبيا بالعودة إلى الخرطوم.. وقد لا يكون مقتنعا بالقرار، لكنه رجل ملتزم عقائديا لا يجادل، وكان يوما حزينا عند افتراقنا، وغادر أسمرا على وعد أن يتواصل اللقاء لإكمال المذكرات…
والتقينا عام 2000م في لندن التي جاءها هذه المرة معصوب الرأس بعد إصابته في حادث شغب قام به أحباؤه الذين خبروه مروءة، وشهامة،وكرما ورعاية لهم. ورغم الإصابة البليغة، كانت إبتسامته العذبة لا تفارقه، كأنه يعتذر لهم، كان واثقا بأنه لم يكن هدفهم الحقيقي..!
كانوا ينادونه.. “أبوي”… ولزوجته الفاضلة الحاجة فاطمة… “أمنا”
ولمحني بين زواره.. ناداني..: “ياود العوض”، نسأل الله لا أنت ولا أنا، نموت في الغربة…!
والغريب أنه كان يردد كثيرا هذا الدعاء.. وقاله بانفعال ذات مرة أثناء حوار ساخن مع الأستاذ التجاني الطيب!..
وسألني رغم ازدحام الأحباب والزوار من حوله…: هل قرأت آخر قصيدة أهديت لكم، معشر الصحفيين: —
آه لولم يحفظ الله كتابه
لتولته الرقابة..
ومحت كل كلام
يغضب الوالي الرجيم
ولأمسى مجمل الذكر الحكيم
خمس كلمات هي:
قرآن كريم، صدق الله العظيم!
• هل تعرف شاعرها؟… وأجاب:
• أظنه مظفر النواب أوأحمد مطر!
وأكمل علاجه.. وعاد شيخ المروءات.. شيخ العرب، الدكتور عمر نورالدائم إلى السودان، واستجاب الله لدعائه، ومات في غرة رمضان الموافق 26 أكتوبر 2003م في حادث سير على طريق جبل أولياء، أثناء عودته من مسقط رأسه في نعيمة بالنيل الأزرق بعد تقديم واجب العزاء في وفاة أحد أصدقائه.. ودفن في الأرض التي أحبها ووهبها كل حياته مقاتلا بجسارة شابا وشيخا، الأنظمة الشمولية الثلاثة… كان يقول لي في إيمان عميق إن من أقدار بلادنا أن يكون هناك جندي في الثكنات لا يعرفه إلا أصدقاء دفعته يحلم ويطمح في كل زمان أن يكون ملء السمع والبصر، موعودا برئاسة البلاد وكثيرا ماينجح، ويكفيه أن يعلن أنه زعيم انتقالي مدى الحياة…!!
كان في حالات اليأس والقنوط يقول “البحار الواقعي لا يلعن الريح عند اشتداد العاصفة وإنما يقوم بتعديل الشراع”وهذا هوقدرنا منذ شبابنا. ويحثنا ناصحا”طالما أن المرء يبذل كل مافي وسعه من أجل تحقيق ما يعتقد بأنه صواب فإنه يعتبر ناجحا بصرف النظر عن النتائج”،فالسجال السياسي والفكري والجهادي كتب علينا حتى آخر أنفاسنا.. فالنخب الجديدة التي تسارع للإطاحة بكل الأنظمة العسكرية في بلادنا همها الأول استغلال مواهبها لأن تكون البديل لنخب الوراثة والأصالة مهما كان الثمن حتى لوكان تحطيم الوطن، وقد جربنا ذلك في نظام نميري الذي حطم الإدارة الأهلية ويضيف متحسرا… “نصرك الحقيقي هوأن تهدم باستمرار أقواس نصرك”… حقيقة بعد ليال طويلة من الأحاديث المفعمة بالحكمة والتجربة أنكرت على نفسي انشغالي قبل معرفته، بالمؤانسة بالشعارات المليئة بالأصباغ والمساحيق فالرجل يحفر بمعول الخبرة في طيات الوجدان وما أكبر الفرق كما يقول أودنيس أن تقطف الكلمة من حدائق الذهن والتهويم أوأن تستخرجها من طينة القلب… فشيخنا كما يقولون لا يدخل في متاهات معتمة، ” فهومن الذين يكتشفون سيئاتهم وأخطاءهم فور حدوثها ولا يكتشف حسناته إلا متأخرا لأنه دائم العطاء دون من ولا أذى!!
ويؤكد دائما بأن ” القاطرة التي تهدر بخارها وطاقتها في الصفير لا تذهب بعيدا….
أغرتني هذه المقدمات لمواصلة نفض قلمي من الرذاذ الذي تبقى من حبر الصمت واتصلت بالابن العزيز مهدي، ساعده الأيمن ورفيقه في المنافي مع الشامخة الحاجة فاطمة وتفاكرنا حول المذكرات.. وبشرني بأنه أكمل مراحل هامه معه قبل الرحيل.. ويهنئني على عقد القرآن الذي تم دعما لأواصر علاقات أسرتينا بزواج ابنتي سارة التي كانت بمثابة ابنته قربا ورعاية وكثيرا ماتشكوني له عندما أغلظ عليها القول، فشاء الله أن يتزوجها الابن بشارة من الأسرة الكريمة ورزقا ابنا أسمياه… إبراهيم… لكني لا أناديه إلا بشيخ العرب!
وأدير جهاز التسجيل.. لأنقل حواراتنا في أسمرا ولندن.. ويجيئني أولا صوت مظفر النواب الذي كان أنيسنا معا:
وماذا وراء الصدق تنتظر
سيأكل عمرك المنفي…
وتلقى القهر والعسفا
وترقب ساعة الميلاد يوما
وفي الميلاد تحتضر..
وتنطلق مني آهة تكاد تطفر معها دمعة:
أردد مع أدونيس:
“أنه شعب محب حقا، كما نقول: لكنه لا يحب إلا أبناءه الذين ماتوا.. إنه شعب وفي للقبور!!
وأسترجع “حصافة رؤيته وحسن قراءته لحقائق الحياة…
ومن عناوين فصول المذكرات:
السودان وخياراته الإستراتيجية: المنارة أم الجسر؟
والرجل خبير في دهاليز السياسة السودانية، تاريخا ومعاصرة.. ويكشف لي عن الاجتماع التاريخي الذي عقد في أسمرا عام 1998م في مقر السفارة الأمريكية وحضره جميع قادة التجمع الوطني الديمقراطي وسفراء أمريكا في السودان ومنطقة القرن الإفريقي وقال:
فوجئت بسؤال وجهه لي مباشرة السفير الأمريكي في السودان:
هل هناك اختلاف بين مايطرحه نظام الخرطوم والأطروحات المهدوية خاصة في عهد الخليفة عبدالله التعايشي لتحرير العالم من دول الكفر وحشده جيوشه والتي توجهت طلائعها لغزوأثيوبيا ومصر وبعثه برسالة تهديد إلى مكة بريطانيا مرشحا أحد قواده للزواج منها — ود الدكيم —؟
ألم يقل الدكتور حسن الترابي إنه لا حدود للدولة الإسلامية وأن الحدود هي حدود الله وأنه يفاخر بإطلاق اسم لينين إفريقيا عليه للقيام بدور مشابه للينين في تغيير العالم.. وتدخل فعلا للإطاحة بالأنظمة في مصر وإثيوبيا وإريتريا وأسس المؤتمر الشعبي الإسلامي ومهد للقاء أسامة بن لادن مع أيمن الظواهري مما أدى إلى الانطلاق الحقيقي لتنظيم القاعدة.. ويسترسل السفير المريكي… هل هي مصادفة تكرار ظاهرة 1881م في عام 1989م وهل تتكرر في كل حقبة من الزمن….ويضيف هذا مايقلقنا وكل القوى الإقليمية والدولية…ويؤكد:
لا تسرفوا في تصورات الطمع في ثرواتكم وموقعكم الإستراتيجي بل قد تكون هذه الإمكانيات حافزا لمخاوف من إستراتيجية مختبئة في مخيلة السودانيين تتجدد كل قرن من الزمان.!
ويقول لي الدكتور عمر نور الدائم.. تأمل هذا التحليل الذي غالبا ماتقدمه مراكز دراسات يسمونها Think Tanks وأقول له… دعنا نلخص هذه المخاوف في تصور مختصر.. ونتساءل..هل من طموحاتنا أن يكون السودان منارة أم جسرا..؟ وأجيبه أن شيخنا الأستاذ الطيب صالح دائما يقول ماهي إمكانياتنا لنكون منارة… هل عندنا هذه المقومات أوالمنطلقات الفكرية الراسخة… هل عندنا الحرم المكي أوالأزهر والزيتونة أوالجامع الأموي!!!
إن خيارنا الإستراتيجي أن نكون جسرا للتواصل والتفاعل بين شمال وجنوب الصحراء… هذا الخيار يتوافق مع مصالحنا القومية ولانعتاقنا من رهن المحبسين العروبة والإفريقانية فلا يعترف بنا لا في هذه ولا في تلك…
وتمتد المذكرات والحديث إلى ظاهرة الدكتور حسن الترابي،في الساحة السودانية والإقليمية والدولية سلبا وإيجابا ومستقبلا.. ودوره سياسيا وإقليميا.. وكان ذلك صبيحة المفاصلة بينه وبين تلاميذه عام 1999م… “ولعلنا نواصل”