عندما انطلقت شرارة الحرب في الخرطوم خلال الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي، كان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وصل إلى حال من تضخم الذات أسهم في تغذيتها ضعف وتردد الفريق عبدالفتاح البرهان، القائد العام للجيش السوداني، مما أوصله إلى أن يصبح منافساً له. ونفخت فيه أيضاً قوى إعلان الحرية والتغيير حتى انفجر في وجه الحكومة والبرهان الذي نصبه نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي معلناً الحرب على الجميع، إذ لم يبق من خلفه إلا فصيل من قوى إعلان الحرية والتغيير على استحياء.
كان حميدتي قبلها ظلاً للرئيس السابق عمر البشير، الذي ظل يناديه بـ”حمايتي”، حتى انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ثم أصبح ظلاً للفريق عبدالفتاح البرهان القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة، ولم تصمت عبارات الإشادة التي وجهها البرهان لنائبه السابق حميدتي قبل أن تتغير الحال ويصفه بالمتمرد.
ولم يكن التمرد مستغرباً نظراً إلى أن الجيش يعد “الدعم السريع” قوات دخيلة عليه، وعضواً زائداً في جسمه المؤسس بناء على أسس قومية، إضافة إلى أن “الدعم السريع” هي وريثة المؤسسة الأمنية وجهاز الاستخبارات الذي ظل النظام السابق يفضله على الجيش لأسباب كثيرة، منها أنه لم يكن يشعر بالأمان مع قيادات الجيش العريقة ويتوقع انقلابها عليه في أي وقت.
هناك وهنا
السبت الماضي أعلن قائد قوات مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية يفغيني بريغوجين أن قواته سيطرت على المنشآت العسكرية في مقاطعة روستوف، مهدداً بالتوجه إلى العاصمة موسكو، لكن تحذيرات بوتين وتوعده برد قاس على ما وصفه بالخيانة، ثم وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أنهت تمرد قائد “فاغنر” عبر عملية تسوية، وعادت القوات إلى معسكراتها، واتفق على إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين، الذي سيغادر إلى بيلاروسيا.
ومثلما دعا البرهان مقاتلي “الدعم السريع” الذين أعلنوا انسلاخهم عن الميليشيات بأن الفرصة متاحة أمامهم للانضمام إلى الجيش، كذلك أتى اتفاق بيلاروس بأن بعض مقاتلي “فاغنر”، ممن رفضوا منذ البداية الانخراط في حملة بريغوجين، سيتاح أمامهم إمكان الانضمام إلى صفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع من دون الخضوع لأية ملاحقة قانونية.
هل انتهى تهديد “فاغنر”؟
لكن لا يبدو أن بوتين سينسى هذه العملية التي جاءت في خضم مواجهاته في أوكرانيا، وهي تقع عنده في باب “الخيانة الوطنية” وإهانة الكرامة الشخصية لرمز الدولة، مما يعني أن الأمور لن تسير كما كانت عليه قبل الـ24 من يونيو (حزيران)، وأن ثأراً ما سيتم إدراكه ولو في وقت لاحق.
مع أن السائد عن “فاغنر” و”الدعم السريع” أنها قوات خاصة، لكنهما توغلتا وتشابكت عملياتهما في جيش بلديهما واستخباراتها. وإذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخذ “فاغنر” وسيلة لتوسيع نفوذه في الخارج، فإن الرئيس السابق عمر البشير ومن بعده الفريق عبدالفتاح البرهان اتخذا “الدعم السريع” إحدى أدوات الردع الداخلي، وذراعاً رئيساً للجيش السوداني أثناء حربه في دارفور منذ 2003 تحت مسمى “الجنجويد”، ولذلك لم يكن الحكم على القوتين سوى أنهما تابعتان لدولتهما بدلاً من اعتبارهما كياناً خاصاً.
الثراء المسلح
إن ظروفاً كثيرة أتاحت لقوات “فاغنر”، التي افتتح أولى مقارها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، أن تتصاعد قواتها حتى وصلت إلى 50 ألف مقاتل في أوكرانيا، بينما تعادل القوات الروسية نحو 1.4 مليون مقاتل.
أما قوات “الدعم السريع” فاستفادت من ثراء قائدها الذي نشط في تجارة الإبل، ثم حصوله من الحكومة على منجم الذهب في جبل عامر بدارفور، ويقدر عدد أفرادها بنحو 100 ألف مقاتل، في حين يبلغ تعداد الجيش السوداني نحو 250 ألف جندي.
أسهمت القوة التي حققها بريغوجين في علو صوته وقيامه بانتقاد كبار القادة العسكريين الروس لعدم إمداد قواته بالذخيرة الكافية وغيرها من أشكال الدعم بينما شاركت قواته في محاولة للاستيلاء على بلدة باخموت في شرق أوكرانيا. كذلك تحول قائد “الدعم السريع” من انتقاد المكون المدني إلى انتقاد البرهان والقادة العسكريين من حوله بأنهم السبب في الانشقاقات التي ضربت حكومة الفترة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري. وبعد انتهاء تمرد بريغوجين، يتحسب قادة روسيا العسكريين لعدم ظهور أي تمرد آخر، بينما لا يزال المجلس العسكري في السودان يفكر في نتائج إنهاء الحرب من عدمها.
ومع إنهاء تمرد بريغوجين، فإن بوتين لا يمكنه الاستغناء تماماً عن مجموعة “فاغنر”، وفي الحال السودانية فإن البرهان حريص على الإبقاء على حميدتي في ساحة المعركة، لأن المواجهة المقبلة ستكون بينه وبين قادة الجيش في المجلس العسكري. وسرعان ما ستتحول الأصوات التي تستنكر جرائم “الدعم السريع” إلى انتقادات للبرهان نفسه وأدائه، سواء مع المكون المدني أو غير ذلك.
أدوات التأثير
إذا كانت روسيا نشطت تاريخياً في مجال إنشاء الشركات العسكرية التي مثلت أدواتها لحماية مصالحها من دون التدخل المباشر، وذلك بتدريب الأفراد العسكريين في الخارج، فإن السودان عرف هذا النوع من القوات عندما أنشأ المستعمر البريطاني قوات شبه عسكرية خاصة تساعده في استتباب الأمن في الأقاليم. أما نواة “الدعم السريع” فبدأت خلال حكومة جعفر النميري، ثم نمت خلال حكومة الصادق المهدي، التي قامت فيها قيادات من حزب الأمة بتجنيد قوات خاصة في دارفور أطلق عليها اسم “المراحيل”.
نشأت شركة “فاغنر” في ظل انتعاش شركات الأمن الخاصة في روسيا، وكانت نواة التأسيس لعدد من الشركات العسكرية الروسية، عندما أخضع عدد من وحدات العمليات الخاصة كوحدات تابعة لمديرية الاستخبارات الرئيسة، ومن ضمنها برزت “فاغنر” عام 2014 ونشطت في تقديم خدماتها إذ حالفها الحظ في تنفيذ عملياتها خارجياً، خصوصاً في قارة أفريقيا بما في ذلك دول مالي وأفريقيا الوسطى والسودان. وتشارك المجموعة أيضاً في عديد من الأعمال التجارية، لا سيما في عمليات التعدين في أفريقيا، إذ استفادت من موارد القارة الطبيعية، كما أن قوات “الدعم السريع” استفاد منها البشير كقوات خاصة نشأت على إرث “حرس الحدود”، ووظفها بناء على تكوينها الإثني كقوات مكونة من قبائل عربية لقتال الحركات المتمردة التي تعود بجذرها إلى قبائل زنجية. والاستفادة من هذه القوات تكون كبيرة بالنسبة إلى ضبابية نشاطها وذوبان هويتها العسكرية بما لا يجعلها خاضعة للملاحقة الدولية. فعند اتهام البشير بالإبادة الجماعية في دارفور لم تستطع المحكمة الجنائية الدولية اتهام “الجنجويد” صراحة، على رغم كثير من الدلائل وشهادات الضحايا، لكن وجهت التهمة لأفراد فقط من ضمنهم زعيم القوات السابق موسى هلال، ولم تستطع اتهام القوات ككيان مستقل.
من كل ذلك تبين أن القوات شبه العسكرية تستخدم كفاعل نشط في عنف الدولة ونفوذها، وتوصف بأنها أكثر مرونة وأقل كلفة اقتصادية من الجيوش النظامية، وفوق ذلك لا تكون عرضة للمساءلة. ولعل الجرأة لدى هذين النموذجين تتمحور حول أن هناك ممارسة دولية واسعة لاستخدام الشركات العسكرية الخاصة، وتتخذها هذه القوات ذريعة للقيام بالشيء نفسه.
شرعية القوات
ينص الدستور الروسي على أن “جميع مسائل الأمن والدفاع تخص الدولة فقط”، ولا يسمح القانون الجنائي الروسي للأفراد بالعمل كمرتزقة، مما يعني أن “فاغنر” والشركات شبه العسكرية الأخرى غير قانونية، وإنما استغل مؤسسوها بعض الثغرات القانونية لإنشائها والسماح لها بمزاولة نشاطها على نطاق واسع، وهناك أصوات تنادي بتقنين نشاطها وسط اعتراض وزارة الدفاع والخارجية الروسية. أما الكرملين فيضغط باتجاه الإبقاء عليها كما هي لأن وضعها من دون شرعية كاملة يضفي عليها تعتيماً قانونياً يضاعف من الغموض العام المحيط بها، ويزيد من حرية بوتين في استخدامها والمناورة بواسطتها.
بهذه الصفة نشطت “فاغنر” في تقديم خدماتها في حراسة البنية التحتية وتقديم خدمات حماية كبار الشخصيات، كما شاركت في الحرب السورية إلى جانب نظام بشار الأسد، وكذلك في الحرب في دونباس بأوكرانيا لمساعدة القوات الانفصالية التابعة للجمهوريات الشعبية دونيتسك ولوغانسك المعلنة ذاتياً في عامي2014 و2015، وكذلك خلال النزاع في ليبيا، ثم الحرب الروسية- الأوكرانية، بينما أكدت واشنطن مشاركة “فاغنر” في الحرب السودانية إلى جانب قوات “الدعم السريع”، ثم بعد مشاركته في الحرب الروسية– الأوكرانية اكتسب يفجيني بريغوجين شعبية كبيرة، وتحولت مكانته من مجرد “دمية” و”طباخ بوتين” إلى منافس لشعبية الرئيس الروسي.
أما “الدعم السريع” فلم تنشأ مستندة إلى أي قانون، لكن بعد أن استخدمها النظام السابق لمحاربة الحركات المسلحة في دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، أعيدت هيكلتها عام 2013 تحت قيادة جهاز الأمن والاستخبارات، ثم نشطت ضمن “عملية الخرطوم” تحت رعاية الاتحاد الأوروبي لمواجهة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. ووظفت القوات في موجات العنف لقمع تظاهرات 2013 وأحداث 2015، ثم وفقت أوضاع القوات بقانون أجازه البرلمان السوداني في يناير (كانون الثاني) 2017 جعل منها قوات تابعة للجيش السوداني بعد أن كانت تتبع لجهاز الأمن والاستخبارات، وفي احتجاجات 2018 اتهمت القوات بالضلوع في أحداث فض اعتصام ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة.
انقسامات القيادة
استخدام هذه القوات يسمح للدولة بإخفاء عدد الضحايا من أفرادها، فأثناء الحرب في دارفور لم تدرج خسائر القوات في التقارير الرسمية، وأثناء الحرب الحالية بعد تمردها لم تحصر خسائرها وذلك في إطار الحرب الإعلامية بينها والجيش. ويقود هذا العامل عموماً إلى سهولة استخدام ما عرف في الأدبيات السياسية، وهو حال الكرملين بـ”الإنكار المعقول”، واستخدم التعبير نفسه حال النظام السابق عندما حاول التغطية على جرائم “الدعم السريع” في دارفور، بما يعني لجوءه إلى إنكار التورط في النزاعات.
ويمكن النظر في عنصر مهم أدى إلى تمرد القوات في الاتجاهين غير الطموح إلى الزعامة الذي يناطح طموح قيادتهما، ففي حال “الدعم السريع” فإن فترة ما بعد إطاحة البشير شهدت انقسامات على مستوى القوى السياسية وأيضاً المستوى العسكري داخل مؤسسة الجيش نفسها، مما أغرى حميدتي بالتحرك وإعلان تمرده عن طريق شن الحرب. وفي روسيا كان تأثير الحرب الأوكرانية كبيراً وكشف عن انقسامات بين قادة عسكريين مؤيدين لمواصلة الحرب حتى انتصار القوات الروسية، وبين من يرون أن التقدم أكثر يمكن أن يكون بمثابة محرقة لهذه القوات. أما نتيجة ذلك فإنه إن لم تتم محاسبة بريغوجين، فإن نظام بوتين حتى ولو بدا قوياً وقادراً على الانتقام، فإن أوكرانيا ستحاول النفاذ من هذه الثغرة لتحقيق بعض المكاسب على الأرض.
في السودان الاحتمال الأكثر ترجيحاً أن الفريق البرهان لا ينوي حسم هذه الحرب بالجدية اللازمة، في ظل قوى سياسية منقسمة ومتربصة، وعدم الرضا السائد عن أدائه في الحرب من المواطنين، وعدم توفير الحد الأدنى من الحماية لهم، وإذا حدث ذلك بقوة أخرى على غير ما يرغب البرهان فسيكون هو المطلوب التالي للمحاسبة.