الروائي ابراهيم اسحق ، مصب الابداع واحد لكن القبور تفرق / شاكر عبدالرسول
في يوم ٢٣ يناير عام ٢٠٢١ تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر رحيل الروائي السوداني المولود في قرية ودعة بشرق دارفور، ابراهيم اسحق في مدينة هيوستن ، تكساس . نعاه عدد غفير من رواد التواصل الاجتماعي بما فيهم وزير الثقافة والاعلام و رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك .فمن وسط الذين نعوه وكتبوا عنه استوقفني مقال للروائي الجزئري، واسيني الاعرج ,نشر في جريدة القدس العربي .لقد اثار المقال عددا من الاسئلة التي تحتاج الى التامل والتوقف. على رغم من اننا لا نملك الاجابة لها لكننا سنحاول ان نقف عندها ولو عابر .
يقول واسيني “…هل مآل كل كاتب عظيم المنافي القاسية؟ عاش في السودان مرتبطاً بشعبه وحكاياته وأساطيره التي سخر حياته كلها لتفكيكها وإدراجها ضمن مخيال الكتابة. وفي النهاية، وبصدفة الأقدار والمرض، توفي في أمريكا، في هيوستن، دُفِن هناك، لأن ابنته شاءت ذلك؟ وهل إبراهيم ملكية عائلية، أم ملكية حضارية وثقافية لبلد عظيم كالسودان؟ ماذا كان سيحدث لو دفن الطيب صالح العلامة السودانية الثقافية الكبيرة، في بريطانيا، استجابة لما شاءته العائلة؟ حالة تذكر بمأساوية الأقدار التي يصنعها الأفراد أولاً قبل أن تبلورها الصدف الحياتية.
لا يوجد أقسى من موت المنافي المبكرة. هل غلا على السودان أن ينقل جثمان إبراهيم إلى أرضه الطيبة التي سخر لها كل حياته الادبية والثقافية ؟
ابراهيم كما ذكرنا في المقدمة جاء الى هيوستن طالبا العلاج وتوفى ودفن فيها ، وهي نفس المدينة التي قصدها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش لغرض العلاج ذاته، وتوفى فيها ،ونقل جثمانه فورا الى دولته التي تاسست في التسعينات, ودفن في رام الله وسط حضور رسمي وشعبي يتقدمهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وكتب على شاهد قبره بيتا من شعره يقول:
على هذه الارض / سيدة الارض / ما يستحق الحياة .
درويش يختلف عن ابراهيم لانه ينتمي الى صندوق النخبة الفلسطينية الحاكمة ، وهو كان عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وتربطه علاقة خاصة مع رئيسها ياسر عرفات . وهي علاقة غريبة ربطت بين الشاعر و السياسي وصلت بها الحال لدرجة ان ابا عمار يطلب من درويش ليكتب له خطاباته التي كان يلقيها في المحافل الدولية. فمن خلال تواجده في قلب مجتمع النخبة استطاع درويش في حله وترحاله بان ينزل في اغلى الفنادق والشقق ، وان يلقي قصائده في افخم القاعات وان يسجل حضورا في شاشات التلفزيونات ، و بذلك نجح في تسويق نفسه وانتاجه الادبي لدى جمهوره كما نجح يان يحجز قبرا في وطنه .مثل درويش لا يحتاج ان يدفن في المنافي.
لو تركنا درويش جانبا وانتقلنا الى الطيب صالح ، الذي قال عنه واسيني ماذا كان سيحدث لو دفن في بريطانيا ؟
الطيب مستحيل ان يدفن في الغربة ، وهو يختلف عن اسحق، وهو مثل محمود درويش ينتمي الى نادي النخبة الحاكمة ،وفي حالة السودان وهو نادي احيانا يصعب على الانسان ان يفرق بين المعارضة والسلطة، وبين اليمين واليسار، وبين التقدمي والرجعي .الطيب في اوج معارضته للنظام يتساءل من اين جاء هؤلاء؟ وهو نفسه بعد سنوات يرجع الى نفس المكان ويثير سؤالا اخرا قائلا: انا استغرب كيف الناس الطيبين ديل ارتكبوا كل هذه الاخطاء ؟
الطيب توفى في لندن، وفي اليوم الثاني نقل جثمانه الى الخرطوم ودفن في امدرمان وسط حضور شعبي ورسمي يتقدمهم الرئيس السابق عمر البشير، واخرين الطيب نفسه ذات يوم تساءل من اين جاؤوا.وكتب على شاهد قبره اسمه بالكامل وتاريخ الميلاد والوفاة .وهو نفس القبر الذي زاره الروائي واسيني الاعرج والتقط فيها صور نشر على نطاق واسع.
قد يقول قائل بان الروائي ابراهيم اسحق اقل انتاجا وشهرة من درويش والطيب ، في هذه الحالة يمكننا ان ننتقل الى ماساة مبدع اخر قد لا يقل من حيث الانتاج والمكانة الادبية عن محمود درويش والطيب صالح وهو محمد الفيتوري.
الفيتوري معروف بانه مولود في بلدة الجنينة في غرب دارفور، وفي تلك المدينة قرات له جدته الكف وتنبات له بمستقبل. ان قصة قراءة جدته للكف تؤكد لنا بانه اخذ غذاءه الفكري المبكر من الموروث الشعبي المسلاتي، وظهر ذلك التاثير جليا في اعماله الادبية.على رغم من انه اقتحم نادي النخبة بعناد و جدارة ومن دون سند قوي يحمي ظهره الا انه عانى كثيرا.لقد سحب منه الرئيس الاسبق جعفر نميري جواز سفر ، وتكرم له العقيد معمر القذافي بجواز سفر دبلوماسي ، وبفضل تلك المكرمة استطاع ان يسجل حضورا في اوساط النخبة ،قبل ان ياتي اخرين باسم الثورة ويسحبوا عنه الجواز الدبلوماسي.
قضى الفيتوري ايامه الاخيرة في منزله بالمملكة المغربية في صراع مع المرض، وصراع اخر وهو الاسوا مع وثيقة السفر.
لقد وثق الصحفي الكبير طلحة جبريل معاناة الفيتوري و عائلته في ايامه الاخيرة .لقد تماطلت الحكومة السودانية في استخراج وثيقة سفر له الى ان ادركته المنية. ثم تبرع نفس النظام بطائرة خاصة لينقل ويدفن في الخرطوم، لكن الزوجة المغربية رفضت قائلة: اين كنتم عندما كان مريضا ؟ اين كنتم عندما طلبنا جواز سفر ؟ لقد دفن الفيتوري في الممكلة المغربية لان زوجته شاءت ذلك .وكتب على شاهد قبره قوله : لا تحفروا لي قبرا / سارقد في كل شبر من الارض / ارقد كالماء في جسد النيل / ارقد كالشمس فوق حقول بلادي / مثلي انا ليس يسكن قبرا.
عندما يترك القرار النهائي لنهاية المبدع بيد عائلته الصغيرة ، يعني ان هنالك تقصير قد وقع من جهة ما.
جاء اسحق ابراهيم الي هيوستن وفي حقيبته روايته ( حدث في المدينة ) حاملا على اكتافه احجار قريته ودعة ، واساطير وحكايات اهله واحلامهم التي لا تنتهي ، كما جاء درويش الى نفس المدينة وفي حقيبته قصيدته التي لا يريده ان تنتهي ، وشاءت الاقدار ان يعود الى نفس المكان الذي حن فيها ذات يوم الى خبز امه متتبعا اثر الفراشة .ومصطفى سعيد رجع من ” بلاد تموت من البرد حيتانها ” الى ملتقى النيلين .والفيتوري قطع تذكرة بلا عودة ، و ابتعد كثيرا عن المكان الذي قرا له جدته الكف ” ان اسمك سينتشر ….وسيكون لك اعداء كثر ، لكن لن ينالوا منك شيئا” .
ما بين ابراهيم اسحق ، ومحمود درويش ، والطيب صالح ، ومحمد الفيتوري قاسم مشترك وهو ان نهر الابداع مهما اختلفت الوسائل في نهاية تصب في مصب واحد ، لكن القبور تفرق بين المبدع والاخر .
من المسؤول ، المبدع او الجمهور او السلطة ؟