قبل الولوج لموضوعنا هذا دعونا نسأل انفسنا سؤالا مهما ونترك الإجابة عليه حسب القناعات والافكار وتحليل الاحداث، وفق ما يراه الشخص بالنظر لما يجري صوابا او دونه، والسؤال هو: الرئيس السوداني رئيس لمدة ربع قرن، حكم فيه السودان واكسبه من البلاوي التي لا تحصى ولا تعد، فارضا نفسه رئيسا متلاعبا بالجميع، فهل هناك شيء يدفعه الان- هو نفسه وليس الاخرين الذين يتمنون ازاحته – للتخلي عن السلطة اليوم او غدا او بعد غد، خصوصا بعد مهمته الجديدة وهي حماية التمركز المهيمن مع الشركاء التاريخيين، كما قد لا يكون غريبا تجديد دوراته الرئاسية الدائمة. ألم اقل لكم انه رئيس مدى الحياة، لا يعرف في اجندته البتة ان هناك قضية وازمة يعيشها الشعب السوداني، حقا انه اشجع واذكى رئيس بلغة حكام العالم الثالث، ولكنه رئيس غير سوي ومريض وفاشل بفلسفة انظمة الحكم الغربية الديمقراطية الدستورية.
وبما ان السودان كله مكشوف لا اسرار فيه، جاءت في تسريبات لعناصر في المكتب السياسي لحزب البشير (المؤتمر الوطني الحاكم) ان الدولة والنظام يسعيان من خلال ما جاء في خطاب الرئيس والحوار الشامل الى امرين اساسيين وهما، على مستوى الاحزاب السياسية التوصل الى اتفاق جدي مع حزب الأمة برئاسة الصادق المهدي، والمؤتمر الشعبي برئاسة الترابي، والميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، الموجود في الحلبة منذ زمن. اما على المستوى السياسي والعسكري فالحاجة ماسة للتوصل الى اتفاقات مع حركة العدل والمساواة السودانية، والحركة الشعبية ـ شمال، ما عدا هؤلاء الرباعية من مكونات المجتمع السياسي السوداني الكبير لا حاجة للاخرين، باعتبارهم غير مؤثرين ضمن فهم السلطة الدكتاتورية! هذه التسريبات تكمن صحتها من خلال تجربة وتعاطي فعاليات المجتمع السياسي والشعب السوداني مع فلسفة الحكم القائمة على التلاعب في إدارة الشأن العام عبر التزييف او بالتزوير…الخ. اما عدم صحتها فلا احد يتأكد منها الا في حالة عدم حصول او وقوع تلك الفرضية التي تساوي الاصل لاعتبار بسيط لان النظام لا يمتلك اي رصيد للثقة في مشوار حكمه السياسي مع السودانيين او غيرهم او حتى مع بعضهم بعضا. التسريبات المشار اليها آنفا، تكشف شكل الحوار المرتجى وادبياته وفنونه وتلاعباته وشكل اخراجه وفق ما طرحته الحكومة السودانية، او قل مؤسسة المؤتمر الوطني التجارية المالكة لكل شيء سوداني، مع القوى السياسية الوطنية في الجانب المدني والعسكري، هذا الحوار حوار اقصائي وانتقائي ويفتقر لشروط الشكل والموضوع، فضلا عن انه لا يحتوي على مادة اساسية ترتبط بالقضايا محل الصراع في السودان غير قضايا ومواد الفراغ، ويبدو ان النظام بحبكته هذه يريد ويسعى لفك الحصار والعزلة المضروبة عليه من الداخل ومن الخارج لدواعي تجديد البواقي لشرعنة جديدة مع اطراف تعتبرها اساسية في معادلة الحكم التاريخية للدولة، ومع تباين اهدافها ومنطلقاتها كلا على حدة.
هذا الحوار الوطني للسلطة اجندته لا تتعلق بحوار وطني بقدر ما هي عملية بزنس سياسي تجري مع بورصة الطائفية الدينية او الاسلاموية تحت عباءة الحوار الوطني ومرجعية الوطن، مع الاشارة الى ان هناك فرقا شاسعا وكبيرا ما بين الحوار مع المؤتمر الوطني والحوار الوطني كاستحقاق جماهيري شعبي واسع لكي يعالج الشعب السوداني قضاياه بشكل جذري ونهائي، والتأسيس لشرعة عقد اجتماعي جديد لا يعطي احدا قيمة مضافة على الاخر، وهذا الاستحقاق لا يقع الا بالاطاحة بالنظام سلما او حربا او الاثنين معا. هذا الاقتران السياسي الذي بدأ يتشكل في اعادة لنمطية ثقافة الحكم السودانية في التاريخ الحديث، يبلوره اركان ثالوث التمركز السوداني الماضي/ الراهن القائم على تحالف الرأسمالية الطفيلية الاسلاموية بجناحيها الطائفي الديني والايديولوجي، ممثلا في عصبية الاسلام الحركي، حيث الاولى محتكرة الاسلام الشعبي وتوظيفه عبر الاقطاعيات الطائفية الدينية، بينما الثانية احتكرت كل الرأسمال الديني الاسلامي بما فيه الشعبي وحولته للاسلام الرسمي، فباتت تتحكم وتحكم وتنهب به، ليجد الشعب السوداني نفسه امام نهبين اقتربا من الطبخة ليكملا مؤامراتهما على العباد والبلاد، وهي ليست جديدة، بل جزءا من عوارض السودان وتاريخه المليء بالثغرات. ليتمدد هذا التحالف مع الركن الثالث في هذا الثالوث وهو طبقة الرأسمالية العسكرية الانتهازية في الجيش المتشكل وعيها في سيادة وبقاء هيمنة هذا الوعاء الذي يكرسه الثالوث ‘الاستعماري’، الذي يعمل خلال هذه الايام على ‘سمكرة’ وترميم وعائه التاريخي من الانهيار، رغم دوره البارز في انحطاط السودان، جاء فرديا او ثنائيا او ثلاثيا ويتكون من رأسي الطائفية ‘السيد والامام زائدا المرشد’، يضاف اليه المرشد الروحي العسكري الحاكم.
والغريب ضمن هذا الخلل السياسي البنيوي الجامع ما بين الخوذة واللحى او قل العمامة في كل ازمة او مأزق تعيشه البلاد استغرب كثيرون من لحاق المرشد الروحي للحركة الاسلاموية السوداني حسن الترابي بالخوذة مجددا، عبر ما عرف بالحوار الوطني الشامل، حيث ينظر اليه البعض على انه اكثر من غيره واجه طعنات ولكمات وضربات وجلدات فاقت جناحي الثالوث الاخيرين، والمؤلم جاء من طرف من قام بتربيته وتقديمه في عبارة او خدعة تمويه مشهورة ‘اذهب الى القصر رئيسا و….’ الا انه لم يحسن تأديبه كما يتفق كتاب سودانيون كثر، ايضا هذا الاستغراب ليس له ما يبرره من وجهة نظري، كون الترابي لم يكن بريئا يوما في الشأن السياسي وهوماكر وثعلب وفق الوصف الشعبي السوداني له- وايضا يمثل شخصية مثيرة للجدل في الساحة السياسية السودانية منذ ستينيات القرن الماضي.
يلحظ ايضا ان صيغة الحوار الوطني المطروحة لا تحتوي على النقطة الحساسة المتعلقة ببنية السلطة السودانية وشكل تكويناتها ومرجعياتها التي لا علاقة لها لا بمبدأ مواطنة الشكل ولا الجوهر، فضلا عن انها من القضايا المسكوت عنها والنقاش حولها محل تخوف واضطراب، اذا فالامر الجاري لا يعدو كونه صفقات سياسية وقعت بالاحرف الاولى او النهائية بين تحالف العمائم مع الخوذات العسكرية قصد لملمة ما تبقى من حطام السلطة التي افتضحت وانكشف امرها وفقدت رصيدها واكسبت الشعوب السودانية حق استئصالها او تدميرها، ما دامت هي عاجزة وتريد اخذ الجميع للتصالح مع عجزها وليست لها المقدرة والشجاعة بفتح ملفات الازمة السودانية المتعلقة بالحرب والسلطة والسلام، علما بان الاخيرة تحولت الى مصطلح سياسي له اسسه وتوافقاته التي يفهمها كل فريق /شريك على حدة، وحسب اصوله الاجتماعية ومنطلقاته الفكرية، فلم تعد كلمة مجردة تطلق على عواهنها للاستهلاك مع ادراك من يطلقها بماهيتها المعنية.
نعود ونقول وعلى افتراض صحة تلكم التسريبات المتوافقة مع ما يجري على الاقل في الميدان السياسي الداخلي خلال هذه الايام، وفيها قد تكون حكومة الخرطوم افحلت في اكمال مخطط مؤامرة ‘سمكرة’ العمودين السياسيين المشار اليهما بضلعي الطائفية والمرشد لحركة الاسلام السياسي، جاءت تحت اي رواية، فهذا امر انتهى، اما في الجانب الثاني فالسلطة المهيمنة تطمح لاكمال ‘السمكرة’ السياسية عبر فن الاحتواء للعمودين الاخرين، رغم انهما متناقضان من حيث الاهداف والمنطلقات مع مشروعهما الرامي لاعادة صناعة تمركز القرن الواحد والعشرين الجديد، والعمودان المقصودان في هذه الزواية بناء على ما جاء في التسريبات يتعلقان بحركة العدل والمساواة السودانية والحركة الشعبية شمال، اللتين تعتبران من مكونات الجبهة الثورية السودانية القوة الموازية للسلطة في البلاد- بدون اجتهاد لا يرتقي الى السمكرة كما فعلت مع القطبين السابقين، بل بنفس شروط مدرستها في الاستيعاب او الدمج او الالحاق كابجديات معهودة في وعي التمركز الحاكم او غير الحاكم، حيث المعمل واحد، فيما المعروف ان منطلق الجبهة الثورية العسكرية هو اسقاط النظام ومعه التنظيم العامل تاريخيا، وهذا الاسقاط قبل ان يتحول الى السياسات قد يقع عسكريا او سلميا او عبر التفاوض بعنوان الحل الشامل، والحل الشامل معناه تفكيك النظام سلميا وتسليم السلطة الى حكومة انتقالية تشرع في التأسيس الديمقراطي وبحث قضايا الخلاف عبر اي صيغة ومن اهمها موضوع السلطة السودانية وبنيتها وافرازتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والامنية والجهوية والتراتبية والدينية، هذا قد يكون استشرافا لمخطط مؤامرة الرواية الثانية، الاولى ماضية في الاكتمال ولم تعد تسريبا من وجهة نظرنا، فيما الثانية ما زالت في محطة التسريبات، والغرض على ما يبدو مختلف عن الاول نظرا لطبيعة علاقات اقطاب التمركز ببعضهما بعضا والغرض حماية الارث السلطوي. اما الثاني فيتعلق بضرب القوى الوطنية السودانية للتحرر في اطار عملية ‘استعمال’ الا ان يقظة قيادة الجبهة الثورية جعلتها تستبق مثل هذه المؤامرات التي تسربها السلطة كاخبار منطاد لجس النبض، وفيه قطع الفريق جبريل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة، نائب رئيس الجبهة الثورية الطريق مؤكدا تفكيك النظام سلميا لنفسه بنفسه او عبر الحل الشامل او القبول باسقاطه عسكريا لمرحلة حكم انتقالي، اما الاستصحاب فهو مرفوض، كما جاء في مقالته المنشورة على موقع الحركة، وهو الموقف ذاته عند الحركة الشعبية في مفاوضاتها الجارية التي علقت في اديس ابابا واكدت فيها صيغة الحل الشامل واعادة هيكلة الدولة السودانية. يذكر ان برنامج الحل الشامل الذي تطرحة الجبهة الثورية يتوافق مع ما يطرحه الصادق المهدي، الا ان الاخير يريد اعادة بناء التمركز المهيمن والجبهة تريد اعادة هيكلة الدولة وتفكيك الهيمنة. هذا الاستنهاض المفاجئ لاعمدة التمركز التاريخي/ الديني الحاكم بجلابيبه ونياشينه واقطاعياته يأتي ضدا او في موازاة لتحالف الحراك الاجتماعي في المحيط السوداني وبشكل اوضح ضد تحالف الجبهة الثورية والقوى الديمقراطية او قل ثورة التغيير الاجتماعي/ السياسي التي انتشرت وعمت في حراك منتظم اقترب الى بلورة مفهوم الكتلة التاريخية للمحيط السوداني لمحاصرة لوبيات اقطاعيات التمركز بشقيها الشعبوي والاسلاموي. جدير بالذكر ان هذا التشكل الذي بدأ يتكون قد يضع الصراع السوداني امام كتلتين تاريخيتين، كتلة التمركز المهيمن الفاقدة للشرعية وكتلة المحيط السوداني الزاحفة للسلطة لتصحيح التاريخ، هاتان القوتان خياران، حسم الصراع بينهما اما الاصطدام او التسوية التاريخية للقضية السودانية، الاولى يخوضها البشير وبالتالي ليس هناك مجال لتغييره بعد تحالفاته الاخيرة، والثانية يخوضها الشعب السوداني شمالا وشرقا وغربا وجنوبا، انها معركة كسر العظم.
‘
‘ كاتب سوداني مقيم في لندن