الحكم الذاتي: هل هو الأمثل للبناء فوق الاطلال؟
صلاح شعيب
لكل سياسة ثمن في هذه الدنيا. يمكنك أن تجلس هانئا في غرفتك الوثيرة لتبحث مرفها بالريموت كنترول في تعدد الفضائيات ثم فجأة تلعن سنسفيل مراسلي قناة “الجزيرة” لو أنهم قدموا للعرب تقريرا عن مزاعم الاغتصاب في وطنك. وربما تمتعض إن عرضت عليك “بي بي سي” صورا تبين آثار أشلاء لإمراة، وطفلها بجوارها، قتلا خلال قصف جوي لقرى الجبال، والقفار الآمنة يوما. وربما تخجل فقط لو أن تناولت قناة “العربية” صورا لقرى محروقة، أو موضوعا عن جلد محاكم النظام العام للنساء، أو عن الوفيات اليومية في الطرق التي تربط الخرطوم بالأقاليم. الحقيقة أن هذه الأحداث اليومية، والواقعية، التي تتجاهل اتخاذ الموقف حيالها، وأحيانا تشكك في صحتها، تعود إليك بالألم إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل. وإن لم تدفع ثمن مقاومتك للأسباب السياسية التي قادت إلى هذا الانحطاط الوطني فأبناؤك، أو أحفادك، أو أقاربك، سيدفعون. ألم تكن معاناتنا المتعددة الوجوه الآن هي نتاج لسلبيات في الماضي تمثلت في تخاذل بعض القادة، والقواعد، والمثقفين، بشكل ما؟
لا يمكنك أن تهنأ دائماً في محيطك الاجتماعي بينما أنت تتفرج بحياد بارد إزاء زمن “صعب” يساق فيه المفكرون المجددون إلى المقصلة، وتغتصب الناشطات، وتضرب الطالبات في منارة العلم، ثم يقذف رجال الأمن بامتعتهن في العراء، ولا حياة لمن تنادي. ولن تسعد بالأمن بينما تتجاهل حقيقة الذين يقاسمونك الوطنية من النازحين، إذ تفتك بهم قوات (أبو طيرة) في المعسكرات، والتي هي ذاتها تمثل انتهاكا عظيما لكرامتهم، وملمحا معبرا بسطوع عن غياب التضامن الجمعي مع قضاياهم. أما حال اللاجئين هناك في أفريقيا الوسطى، وتشاد، وإثيوبيا، وإريتريا، والذين ليست محنهم أولوية مطلقا في تغطية الإعلام، أو مقالات غالب الكتاب الذين يصدرون من زاوية قومية، فسيكون مثل شوكة تلسع ضميرك، وإن غضضت الطرف لحين عن سوء مآل النازحين، واللاجئين، وإهمالهم، وبعدهم قسريا عن أرض الصبا، والأجداد، والوطن الكبير.
إننا إذا تقصينا حجم القراءة للمكتوب عن القضايا الإنسانية التي يتناولها كتاب من مناطق النزاع في زمن الإحصاء الاليكتروني لفجعك الرقم الضعيف لنقرات القراءة. وهذا أيضا معبر عن حجم التنائي بين وجدان مواطن وآخر، والاثنان مطحونان بالقمع، والظلم، مع تفاوت التقديرات. أما الكثيرون من نخبة الأدب، والدبلوماسية، والشعر، والحداثة، والأكاديميا، فهم منشغلون على الدوام بأيهم أكثر إبداعا: أدونيس أم محمود درويش؟ أما كونهم يغمسون أقلامهم باستمرار في قضايا أهلهم الساخانات في مناطق النزاع، والتي تحرك ضمير نشطاء العالم فذلك أمر دونه خرط القتاد. فهؤلاء النخبة يمكنهم أن يتسامروا ليال عددا للمقاربة بين بنيوية جاك دريدا وكلود ليفي شتراوس. ولكن أن يبذلوا مقالة واحدة يخرجون بها فقط من هذا الموت الإكلينكي لضمائرهم فذلك مما لا يحبذون. ويرون أن مواجهة الفعل المشين للنظام إنما هو شأن حرج يتكفل به الصحافيون المسيسون، أو النشطاء الحزبيون، والحقوقيون.
كان إخواننا الجنوبيون يكابدون ظلم الحكومات المركزية وحدهم، ولم نسعفهم بكلمة حق، أو مؤازرة، أو تفهم لموتهم الفدائي أمام الآلة الحربية الفتاكة للجيش، إلا بعد أن فقدت أحزابنا النظام الديموقراطي الأخير. وحينها فقط وجد زعماء الدولة عند الساعة الخامسة والعشرين في حركة المقاومة التي قادها د. جون قرنق ملاذا لتحرير الخرطوم من دنس الاخشيديين، كما سميناهم. أي أن قادتنا الكبار نشدوا استرداد الديموقراطية عبر بندقية الحركة الشعبية، وتبعهم بعض قواعدهم بحسن نية، وبفيض من إعزاز وطني، وبشئ من حلم نبيل، ولكن!.
في المعسكرات التي أقامتها قوى التجمع في الجبهة الشرقية لم يكن عدد المقاتلين الشماليين ينبئ إلا عن قلة من الغيورين. قدموا أنفسهم شهداء، وجرحي، في معركة الفداء، وحتى هؤلاء لا نعرف حتى كم عددهم الآن، أو إن كان لهم لوح شرف محفوظ. وفيما كان القادة العسكريون لأحزابنا حينذاك يتصارعون حول استقطاب جنود بعضهم بعضا عجز التجمع عن إثبات توحده لتحقيق حلم المقاومة الجماعية للنظام الطفيلي، والشرس، والمخاتل. ومرت أيام ثم غاصت بهم المعسكرات الضئيلة الحجم، والمحتوي، نحو التلاشي. وعاد المناضلون أدراجهم إلى الخرطوم بوعد التوظيف، ولكن حصد معظمهم السراب. أما من بقي منهم في قرورة، وهمشكوريب، توفى بعضهم بسبب الأمراض، ومنهم من سلك طريقه إلى القاهرة، وعبر بعدها المحيطات للدنيا الجديدة. وما يزال المناضلون المهاجرون مع الجيل الثاني الذي خرج من أصلابهم هناك ينتظرون العودة، وما بدلوا تبديلا.
أما الزعماء والقادة فقد عادوا إلى الخرطوم بمبررات عديدة للمشاركة في السلطة. والسياسيون القادة لا يفتقرون، بالطبع، إلى فن التبرير حين يقدمون على فعل شئ مناقض لمبادئهم، وأقوالهم الشفاهية، والمكتوبة. كل ما يحتاجون إليه هو كلمات باردة تفخم معنى التعاضد الوطني مهما يكن أثر هذا التحول السلبي على حاصل جمع حركة المعارضة. ولا يكتفي السياسيون بذلك، وإنما يثيرون العواطف العرقية، والدينية، والقومية. فهم يتبرعون بتجميل مبررات هرولتهم نحو النظام باكتشافهم الخطير المفاجئ لما يسمونه التآمر الأمبريالي، أو الاسرائيلي المحبوك، للنيل من الوطن. وهكذا ينسرب قادة السياسة في بلادنا بخفة، وسلاسة، إلى الموقف الجديد. وإن لم يحققوا شيئا عبر هذا الموقف المناقض عادوا مرة أخرى إلى ساحة النضال، وآنئذ تصبح مبرراتهم الجديدة عن خطورة الحكومة على وحدة البلاد معروفة سلفا، وبلا إضافة معرفية للصابرين على النظام، وعليهم أنفسهم.
لقد دفع كل السودانيين، قادة، وقواعد، أثمانا باهظة لتقاعسهم تجاه الإحساس بمأساة الآخر الذي يشاركهم التساكن في الوطن، من جهة، وتجاه التحرك لعونه حتى ينهض من محنته من الجهة الأخرى. وهنا لا بد من الاستعانة بالقاعدة الصوفيه الذهبية أنه “إن لم تجذبك لطائف الإحسان فإنك ستقاد حتما بسلاسل الامتحان”. ومهما يكن فإن الأفضل لنا أن نأتي بالخيار الأخير بدلا من أن ننكب على وجوهنا إذا فشلنا في تصحيح أخطاء التاريخ، ولم نصح الضمير، أو نعين الآخر المظلوم.
الآن أخرجت الحركة الشعبية قطاع الشمال، قبل دارفور، كرت الحكم الذاتي لمنطقتي جنوب كردفان، والنيل الازرق، تكتيكا، أو ابتزازا، أو استرتيجية، لا يهم. ولكن المهم هو أن الموضوع أثار هنا، وهناك، الكثير من الحنق، والجدل، معا. ومن هذا الجدل ما هو حريص على وحدة البلاد عبر نظام مركزي قابض، ومنه ما يناصر حق المنطقتين في ضرورة أن يكون تقرير أمرها واجبا عوضا عن أن يكون منحة من المركز. بل ومن الجدل ما وازن في قسمة الرأي معبرا بأن مناطق السودان كافة لها الحق في تخيير أوضاعها الإدارية التي تناسبها في إطار السودان الموحد. وهناك من رأى أن المؤامرة الكاملة قد تخلقت لتهديم ما تبقى من البلاد، وبعضهم سدر في إعادة تسويق تحليلات عن كيف أن اللوبي اليهودي قد تمكن فينا، وأننا مساقون لحتفنا بيد عمرو. وهكذا تنوعت مصادر معارفنا تجاه التحول الجديد في التكتيك التفاوضي للحركة المقاتلة أكثر من المحاججة بفائدة الحكم الذاتي، أو خطله على مستقبل وحدة البلاد. ولا بد من الوقوف على عدة ملاحظات:
أولا: إن موضوع الحكم الذاتي للمنطقتين اللتين نالتا في نيفاشا حق” المشورة الشعبية” أمر لا مشاحة فيه إن طرح عبر مؤتمر دستوري منتظر، أو عبر الإعلام الحر، وهو أصلا مخصص لهذا النوع من التداول، إذا استبعدنا ما يقال عن وجود نوايا سيئة لدى من يطرحون أمر تبني الحكم الذاتي، ولدى من يجادلون حوله بهدى، وغير هدى. ففي زمن التخطيط للبناء الوطني فوق الأطلال لا سقوف لطرح الفكرة. بلى، فلا يمكن أن يحدد السقوف فرد ما، أو تنظيم متسلط، أو مجموعة إثنية، لآخرين تضرروا بما فيه الكفاية خلال العيش في سودان موحد تتمركز سلطاته في أيدي فرد، أو افراد، أو فئة، أو منطقة، أو آيديولوجية.
ثانيا: إن النظام القائم ينوب عنا جميعا، شئنا أم أبينا في التعامل مع الحركات المسلحة، ومن بينها الحركة الشعبية قطاع الشمال بعد أن فرض على السودانيين قسمة نيفاشا بسبب انفراده بالسلطة. وبضغط الاستنزاف العسكري الذي تسببه الحرب، وتقاطع المصالح الاقليمية والدولية، سيستجيب النظام ليس فقط الي القبول بالحكم الذاتي للمنطقتين وإنما يذهب أبعد من ذلك في منحهما حق تقرير المصير إذا أحس أن ذلك سيكون ثمنا لبقائه في السلطة. والتجارب علمتنا جميعا أن قادة النظام تخلوا عن شيخهم فما الذي يجعلهم يحافظون على المنطقتين، أو حتى دارفور، إذا حوصروا بفخاخ السياسة التي تنسج من خلال سياستهم المغلوطة في كل مجالات الحياة.
ثالثا: إن سياسة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب المتعددة، وحرق القرى، واغتصاب الفتيات، والتي طبقها النظام عيانا، بيانا، لم تحرك ساكنا لدى قادة الاحزاب التقليدية، والنخبة التي آزرت البشير في موقفه من المحكمة الجنائية الدولية، ولا بد أن يكون لهذا الموقف ثمنا. وليت الحكم الذاتي الذي يحفظ وحدة السودان صار السقف الأعلى الذي يرنوا إليه حملة السلاح، فما نخشاه أن يكون الانفصال وحده سقفا أعلى إن لم يتبناه مناضلو مناطق النزاع اليوم فسيكون حلم الاجيال التي ستأتي في المستقبل، إذا لم نستفد من تجربة حرب الجنوب. ولعلها هي الاجيال التي دفعت الثمن في زمن الحرب نزوحا، ولجوءً، دون عون مجتمعي. وعلينا الأخذ في الحسبان أن تجربة مقاومة الجنوب الأولى التي رضيت بالحكم الذاتي حتى أن نكص نظام مايو باتفاقية اديس ابابا تعالت سقوف الجيل الثاني من المقاوميين الجنوبيين. وكذلك صحونا يوما، ووجدنا أن ثمن الحكم الذاتي الذي نقضه الشمال هو الانفصال عينه.
رابعا: إن بقاء النظام له ردود فعل متباينة في مناطق الحرب، فما يحسه المواطنون من ظلم، وقصف جوي، هناك يختلف عن المظالم، والآثار، التي يتركها النظام في نفوس الذين يسكنون في الحضر، أو من هم خارج البلاد. وإلى الآن ما تزال مناطق الحرب مستباحة لقوات النظام المتعددة المهام، وذلك في وقت يستغيثون ولا أحد يستجيب إليهم، وصرخاتهم تخرج منهم وتعود إليهم صدى، ذلك في وقت يرسم الإعلام الرسمي صورة مغايرة لما يجري هناك.
لقد برهن قادة النظام على مقدرتهم الفائقة على التنازل عن أي شئ يضمن لهم السيطرة على السلطة، والتي تعني التحصن مقابل المساءلة المحلية، والدولية. وفي سبيل الحفاظ على مكتسبات أعضائه فإن النظام تنازل عن بعض “ثوابته” الايديولوجية، واعتمد سياسة الأرض المحروقة فمزق النسيج الاجتماعي في كل بقاع السودان. ووظف موارد البلاد لشراء ذمم النخبة في كل مجال، وصنع من القتلى جيوشا لحماية استثمارات قادته، وحيد عددا من الزعامات التاريخية للحزبين، واستوعب بعضها في سلطته، فضلا عن استيعابه لعدد من قيادات الحركات المسلحة. ومع ذلك لم تكن المعارضتين السلمية، والعسكرية، في المستوى المطلوب للمنازلة بتوحد تمليه ضرورة الإسراع في إسقاط النظام. وللأسف أن الجبهة الثورية بعد طرحها لميثاق الفجر، وإعلان باريس بنصوصه التي أقرت أهمية الحوار الشامل كسبيل سلمي وحيد لهزيمة مخططات النظام في تفتيت البلاد كافة، عادت مكوناتها لتجلس منفردة مع النظام في أديس ابابا عبر وساطة أمبيكي الانتهازية. ولهذا جاء طلب الحركة الشعبية لتضمين الحكم الذاتي مفاجأة لبعض حلفائها. ولكن مهما يكن من أمر مبادرة الحركة بالحكم الذاتي، وجلوس حركتي العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان جناح مناوي، للتفاوض مع النظام، فإن موضوع الحكم الذاتي هو نتاج لكل هذا الفشل التاريخي للقادة، والنخبة، في إدارة التنوع الثقافي. ولا يحسبن أحد أن هذا النوع من الحكم وحده سينمي الأقاليم إن لم تكن نخبها في مستوى التحديات، وراغبة في إصلاح المركز والذي هو أس البلاء. ولقد جاء الحكم الفيدرالي المبتسر ومنح أبناء الأقاليم بعض السلطة لحكم أنفسهم بأنفسهم، ولكنهم وجدوها بلا ميزانيات مخصصة للتنمية، كما أن أبناء مناطق النزاع أنفسهم كانوا مركزيين في تفكيرهم. فهم مسيرون بأفكار حزبهم الذي يفرض عليهم اتباع سياسة مؤدلجة، وليس اتباع تطلعات المكون الاجتماعي الذي يتحكمون فيه بالقهر كما يفعل المركز. ودلت تجربة انتخابات الولاة بكل ما فيها من تزوير لإرادة المواطنين أن الولاة محكومون بالمركز وإن انتخبوا عبر المحليات والمعتمديات. فبدون إصلاح المركز فيظل الحكم الذاتي الممنوح للنيل الأزرق أو جنوب كردفان بلا منفعة للمواطنين، وإلا سيجد عبد العزيز الحلو، ومالك عقار، نفسيهما في وضع مشابه لوضع التيجاني سيسي الذي اختفى من الأنظار في وقت المآسي التي تواجه دارفور، كما أن سلطته الاقليمية المدعومة إقليميا، ودوليا، صارت بلا قيمة ما دام أنها لم تستطع حل مشاكل طالبات دارفور اللاتي تكرم الأستاذ إبراهيم الشيخ بعونهم في ظل وجود الولاة الخمسة.
إن حاجة البلاد إلى نظام سياسي ديموقراطي متفق عليه من كل طوائف، وبقاع، السودان، نظام يعيد تركيبة السلطة بما يضمن إجراء إصلاحات دستورية، وقانونية، وإعلامية، ويعمل على محاسبة المجرمين والمفسدين. ولكن أن تسعى الحركة الشعبية لطلب تضمين الحكم الذاتي في المفاوضات الجارية ربما تفضي إلى اتفاق يعني إعادة تكرار تجربة نيفاشا التي وظفها النظام لصالحه، ثم قوض فكرة المشورة الشعبية من جذورها.
إن طرح فكرة الحكم الذاتي في نظام ديموقراطي مجمع عليه يمثل ضمانة لحوار خلاق حول الفكرة، وإذا تم تبنيه للمنطقتين، أو لكل بقاع السودان، فإنه حينذاك سيكتسب زخمه المعنوي، وفي حال تطبيقه فإنه سيكون محميا بكامل آليات النظام الديموقراطي المتعددة. أما في حال توصل الحركة إلى سلام جزئي في مفاوضاتها مع النظام ثم قبل قادته تحت ضغط دولي بفكرة الحكم الذاتي فإن تطبيقه سيكون مبتسرا، ومشوها، كما هو واقع الحكم الفيدرالي الذي أعاد الأقاليم إلى قبلياتها، وعشائرها، ونظاراتها، التي سبقت فترة الاستقلال بشكل أسوأ مما نتوقع. ليس ذلك فحسب فإنه عند تطبيق الحكم الذاتي في ظل الإنقاذ ستجد المنطقتين أوضاعها محاصرة بقدرات النظام الماكرة في تفجير المشاكل عبر توظيف ولاءاته الأيديولوجية، والقبلية، والنخبوية، هناك. ومن قال إن هناك اتفاقا مع النظام حقق شيئا لمناطق النزاع خلاف النكوص عنه؟