ورقة مستعادة من رزنامة قديمة
لعبة شطرنج .. لكنها ليست مُسليَّة! قد تصلح هذه العبارة عنواناً لبعض أوضاع غريبة التَّناقض، جرت، وربَّما لا تزال تجري، على أطراف البلاد الجَّنوبيَّة والغربيَّة! وهي أوضاع، من ناحية أخرى، شديدة التَّداخل في “الجَّحيم”، بل أشدُّ عذاباً، وهذه، أيضاً، قد تصلح عنواناً، ربَّما أكثر ملائمة، لتلك الأوضاع. فمن المعلوم أن “الجَّحيم Inferno” هو القسم الأوَّل من ملحمة “الكوميديا الإلهيَّة”، ضمن أجمل أدب القرون الوسطى، حيث يَصفه الإيطالي دانتي أليغييري، بعد يومين رأى أنه قضاهما في محرقته، بأنه مركز الأرض، ومن ثمَّ يصف عذابات وآلام من يُحشرون فيه جزاء ما يرتكبون من معاصي، بمعايير أخيلة تلك العصور.
حسناً. ربَّما تذكرون، من تلك الأوضاع، أن “النيشن” الكينيَّة كانت قد كشفت، في نوفمبر 2005م، أن حكومة السُّودان أبرمت اتِّفاقاً مع حكومة يوغندا لتنفيذ مذكرة توقيف أصدرتها المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة بحقِّ زعيم “جيش الرَّب” The Lord’s Resistance Army جوزيف كونى وثلاثة من كبار قادته (الرأى العام، 22 نوفمبر 2005م). على أن حكومة “إقليم” جنوب السُّودان، وقتها، عمدت، بحسابات مغايرة لم تتكشَّف أبعادها حتَّى الآن، إلى تعطيل ذلك الاتِّفاق، ضدَّ إرادة حكومة “المركز” المعلنة تلك، بإطلاق مبادرة للوساطة بين حكومة يوغندا وبين “جيش الرَّب”، مِمَّا يسَّر للأخير حركة آمنة، ردحاً من الزَّمن، في ذلك “الإقليم”!
مع ذلك، وبدلاً من أن يحمد “جيش الرَّب” هذا الصَّنيع، من بعد الرَّب، لحكومة الجَّنوب، واصل عَيْثه عدواناً على المدنيين هناك، تقتيلاً للضَّحايا، وتقطيعاً لأنوفهم، وشفاههم، وآذانهم! والأغرب أن حكومة الجَّنوب لم تجابه تلك التَّجاوزات، كما كان مفترضاً، بالقبض على كوني ورهطه، تنفيذاً لمذكِّرة الآي سي سي، أو، على الأقل، بطرد تلك القوَّات المتوحِّشة من “الإقليم” الذي فيه ما يكفيه، بل أبدت من الاستخذاء تجاههم ما حيَّر العقول! فمثلاً، لدى إقدامهم على اختطاف أربعة مدنيِّين من قرية “ديمو”، على بعد 15 كلم إلى الشَّمال من “ياي”، سارع فريق، بقيادة وزير إعلام الجَّنوب، إلى المنطقة، برفقة عميد في “جيش الرَّب” نفسه، لـ “التَّفـاوض!” بغـرض إطـلاق سـراح المختطفـين (الأيَّـام، 22 مايـو 2007م).
لعبة الشَّطرنج غير المسلية هذه قد تبدو أكثر وضوحاً، بالنَّظر، كذلك، في ما أوردت الاحصائيَّات من أن 10.000 مدني يوغنديٍّ قتلوا، آنذاك، بشمال يوغندا، المجال الأساسي لأنشطة “جيش الرَّب” الإجراميَّة، فما كان من 1.000.000 مدني آخرين إلا أن فرُّوا من ذلك “الجَّحيم”، و”لجأوا!” .. إلى أين؟! إلى “جنوب السُّودان”! علماً بأن نحواً من 4.000.000 من “الجَّنوبيين!” أنفسهم فرُّوا، بدورهم، من “جحيم” الجَّنوب، ليستقرَّ بعضهم في الشَّـمال، بينمـا “لجأ!” البعض الآخـر إلى بلدان مجاورة، من بينها، يا طويل العمر، يوغـندا .. فتأمَّل!
عندها سجَّلت، على ما أذكر، في رُزنامتي، أنني لن أستغرب إذا علمت، غداً، أن آلاف التشاديِّين “لجأوا!”، بالمثل، إلى غرب دارفور، هرباً من المعارك التي كانت قد انفجرت، وقتها، في شرق تشاد، بينما لجأ الآلاف من مدنيي دارفور نفسها، بالمقابل، إلى شرق تشاد، هرباً من “جحيم” إقليمهم!
وبالفعل، لم يكد يجفُّ الحبر الذي سجَّلت به تلك الخاطرة، حتَّى قالت مفوَّضيَّة الأمم المتَّحدة العليا لشؤون اللاجئين إن السُّودان طلب فريقاً من المنظمة الدَّوليَّة لتفقُّد وحصر احتياجات 45.000 تشاديٍّ عبروا الحدود من شرق تشاد، ليتجمَّعوا قرب فورو بارانجا في غرب دارفور (الرأي العام، 12 مايو 2007م).
هذه “الكوميديا السَّوداء” لن تكتمل إلا بذكر يعقوب! ويعقوب هذا شاب دارفوريٌّ ثلاثينيٌّ التقينا به أثناء تجوالي، ذات ظهيرة من مارس 2006م، مع الصَّديقين مرتضى الغالي وفيصل محمد صالح وآخرين في مخيَّم شاتيلا الفلسطيني الشَّهير ببيروت! كنَّا نشارك، وقتها، في سمنار حول “دارفور والإعلام العربي”، حين لبَّينا دعوة منظمة فلسطينيَّة ناشطة في مجال حقوق الانسان لزيارة ذلك المخيَّم. شاهدنا المدرسة التي كان شارون قد اتَّخذها، مطلع الثَّمانينات، مقراً لأركان “حربه!” على المدنيِّين الفلسطينيِّين، بعد أن خرج، ذات ليلة، من البحر، مثل وحش أسطوري، أو كقرصان من العصور الغابرة، يقود بوارج مكتظة بالشَّياطين وأسلحة الدمار، ليصلي النَّاس، والأشجار، والحجارة وابلاً من النَّابالم الحارق، ومطر القنابل العنقوديَّة الهطال، وليعجن أشلاء الرِّجال والنِّساء والأطفال، وفيهم المرضى والعجزة والرُضَّع، بالتُّراب، والأسفلت، والحوائط، والسقوف، والدُّكانات، والمدارس، والمستوصفات، وشبكات الماء، وأعمدة الكهرباء، ودور العبادة، ومقرَّات المنظمات، ناهيك عن فساتين العرائس، ولعب الصِّغار، وكرَّاسات التَّلاميذ، وأدوات العمَّال، وأواني الطهي، وذكريات الغائبين، وصور الأحبَّاء الرَّاحلين، محوِّلاً كلَّ شئ، خلال أيَّام، إلى كرة ضخمة من الدَّم والصَّديد، والطين والحديد، واللحم المحترق والعظم الهشيم، وغير ذلك مِمَّا أسماه فوَّاز طرابلسي “غرونيكا ـ بيروت”، ووقف محمود درويش يستحثُّ على الصمود إزاءه “إِقْرَأْ بِاسْمِ الفِدائيِّ الذي خَلقْ/ مِنْ جَزْمةٍ أُفُقْ”!
زرنا ضريح الشُّهداء “المحظوظين!” مِمَّن قضوا بزخَّات الرَّصاص خارج تلك الخلاطة البشريَّة، فتولى دفنهم، ببسالة نادرة، ناجون متطوِّعون في مقابر جماعيَّة، تحت القصف الجُّنونيِّ الغاشم، بلا غسل، حيث عزَّ الماء، ولا أكفان، حيث مجرَّد التَّفكير في ذلك ترف لا يُستطاع إليه سبيلا!
وواصلنا سيرنا الصَّعب، نجوس وراء بعضنا البعض، كما على صراط مستقيم، عبر أزقَّة المخيَّم بالغة الضِّيق والبؤس، وبين الجِّدران المتهالكة لبنايات تتكئ على بعضها البعض، حتى ليبدو أنها ستتقوَّض بين لحظة وأخرى، ونجهد، أثناء ذلك، كي نتفادى بالوعات الصَّرف الصِّحِّي الطافحة هنا وهناك، تحتوشنا الرَّوائح الزَّنخة من كلَِّ حدبٍ، ويصمُّ آذاننا صخب الأطفال من كلِّ صوب، برئات تنشع نكهة البارود، وضجيج الباعة الفقراء يتشبَّثون بحياة لا حياة فيها، بينما تكاد تقرأ على جباه الجَّميع وعد الشَّهادة الحق، القادم يهدر في كرنفالات المجازر، والمحارق، وحمَّامات الدَّم الموسميَّة!
فجأة .. لمحناه! مسترخياً، كان، على دكَّة أسمنتيَّة أمام دكانة صغيرة، يرتشف الشَّاي باستمتاع ظاهر، واضعاً رجلاً على رجل، بينما فيروز تصدح، بصوتها الملائكيِّ، من جهاز التَّسجيل في المحلِّ: “وستغسل يا نهر الأردن آثار القدم الهمجيَّة”! حسبناه ، أوَّل أمره، فلسطينيَّاً، ففي الفلسطينيِّين، أيضاً، مَن سُمرته كسُمرتنا! لكن، ولأن من تقديرات المولى عزَّ وجلَّ في خلقه أن السُّوداني يفرز السُّوداني “على ألف ميل”، فقد توقفنا نحدِّق فيه، مثلما اندفع هو يعانقنا بحماس، فرداً فرداً، بطيبة أعْدَتنا بحرارتها في ذلك الطقس الصقيعيِّ، بينما التفَّ حولنا، باندهاش، جمع غفير من الفلسطينيين، والوفود العربيَّة!
ـ “يا سلاااام يا أخوانا إزيَّكم .. إزيَّكم .. ما شاء الله .. أنا إسمي أخوكم يعقوب .. تبارك الله .. إزيَّكم بالله كده .. كيف حالكم .. و .. جيتو هنا تسووا شنو”؟!
ـ “إنت الجابك هنا شنو؟! وجيت من وين”؟!
ـ “لا قوَّة إلا بالله .. أسكتوا ساكت .. جيت والله ترا من دارفور .. لا قوَّة إلا بالله .. قعاد هناك بقى جهنم ذاتو والله .. حياة بقى صعب خلاص”!
لحظات قصار، تركناه، بعـدها، ولسـانه يلهـج: “تبارك الله .. ما شاء الله .. لا قوَّة إلا بالله”، بينما خجل ثلجي يطفو في دواخلنا مع التَّساؤل المُر: كيف دفعنا يعقوب ليلتمس “وطناً آمِناً”، ولو في شاتيلا، بعد أن أفقدناه “أمان المواطنة” في دارفور؟!