مراقبون يرون أن الصراعات الخفية بين الإخوان والمنهج السلفي داخل أروقة الجماعة نفسها هي المسؤولة عن تفريخ الأيدولوجيات الأكثر تطرفا.
العرب محمد بن سعود الملفي [نُشر في 29/08/2014، العدد: 9663، ص(7)]
الخرطوم- العديد من التيارات الجهادية في العالم الإسلامي اعتبرت أنّ إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف إعلاميا بـ “داعش”، عن قيام “دولة الخلافة”، بعد أن استولى على مساحات شاسعة في شمال العراق وغرب سوريا، فتحاً إسلامياً يستوجب الاصطفاف وراءه. وبدأت بالفعل تحشد مؤيديها وتحثّهم على الهجرة إلى “دولة الخلافة الراشدة”، بعيداً عن (حكومات الطواغيت). غير أنّ تنظيمات تكفيرية أخرى رفضت هذه “الخلافة”، شأن ما حصل في السودان الذي تمزّق تكفيريّوه بين مبايعة تنظيم “داعش” ورفضه.
“التكفيريون ملة واحدة”، وإن تباعدت المسافات وتباينت المسميات؛ فإن تباطأ البعض في تأييد “خلافة داعش الإسلامية”، فإنهم لم يختلفوا مع التنظيم على المشانق التي نصبها لإعدام المسلمين قبل غيرهم، في مدة وجيزة لا تتجاوز بضعة أشهر. وربما يعدّ المهرولون إلى الدولة الوليدة أقل وطأة وشرّا من بعض الساكتين “تُقية”، والكلمة (بضم التاء) معروفة في أدبيات التكفيريين وتعني إخفاء الرأي اتقاء لشر الأعداء.
الإخوان منبع التطرف
وفي هذا السياق، فإنّ الجماعات التي سارعت إلى تأييد داعش، تتخفى كلّها خلف ستار السلفية، رغم أنّ مجملها منشق عن التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، فهم “قطبيُّون”، يستقون أفكار التكفير وجواز الخروج على الحاكم المسلم من أفكار سيد قطب، وهم كذلك “سروريون” في وصفهم للصوفية والجهمية والمعتزلة والأشعرية بأهل الأهواء.
التكفيريون ملة واحدة، فإن تباطأ البعض في تأييد “خلافة داعش”، فإنهم لم يختلفوا على المشانق التي نصبت للمسلمين
وبناء على ما سبق، يرى مراقبون أنّ الصراعات الخفية بين الإخوان المسلمين والمنهج السلفي داخل أروقة الجماعة نفسها، هي المسؤولة عن تفريخ الأيدولوجيات الأكثر تطرفاً بعد تبادل الاتهامات بين التيارات الإخوانية بالتساهل أو إهمال المنهج القطبي.
كما يشير المراقبون إلى أنّ ظاهرة التكفير والغلو الديني وإباحة دماء المسلمين وغيرهم لم تستثن أيّ دولة في العالم، وقد نمت الجماعات المتطرفة في العديد من البلدان حتى الأوروبية، وبدأت تسمع أصواتها للجميع، وبصورة علنية، مع بروز تنظيم داعش وإعلانه عمّا تُسمّى “دولة الخلافة”، لتفرّخ من جديد العديد من المتطرفين من المحيط إلى الخليج ومن الفرات إلى النيل، خصوصاً في ظل حالة الفلتان والفوضى التي أوجدها ما عرف بـ”الربيع العربي” في العديد من البلدان.
تأسيس “جماعة الاعتصام”
“جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة”، تعدّ آخر التنظيمات المنضوية تحت لواء داعش، وهي جماعة صغيرة منشقة أيضا عن تنظيم الإخوان المسلمين في السودان، ويقودها سليمان أبو نارو، وهو أحد قادة التنظيم التاريخيّين، وقد بايعته هذه الجماعة أميرا مدى الحياة، قياسا على الإمامة الكبرى، شأنه شأن خلفاء بني أمية والممالك الإسلامية. هذه الجماعة أعلنت في بيان نشرته، مؤخّرا، “إنّها تُعلن تأييدها ونصرتها لهذه الخطوة المباركة”، في إشارة منها إلى إعلان “دولة الخلافة”.
ويذكر، أنّ سليمان أبو نارو، كان قد قاد لأكثر من 15 عاماً عدة انشقاقات تنظيمية على صادق عبدالله عبدالماجد، ممثل القيادة التاريخية للإخوان المسلمين السودانيين، حتى توج ذلك بإنهاء ارتباطاته المنهجية والتنظيمية به، وأسّس من ثمّة “جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة”، بعد أن كان قد غادر أبونارو تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة الترابي سنة 1977، عقب المصالحة الوطنية التي أجراها الرئيس جعفر نميري.
وقد استطاع الشيخ أبو نارو ومناصروه في عام 1991 من السيطرة على مقاليد جماعة الإخوان المسلمين من خلال “المؤتمر العام”، ممّا دفع بالقيادات التاريخية للإخوان وقتها؛ صادق عبدالله عبدالماجد، والبروفيسور الحبر يوسف نور الدائم، وعصام البشير إلى رفض الجماعة بثوبها الجديد وتشكيل جماعة إخوان أخرى، بعضوية محدودة، في وقت استأثر فيه أبو نارو بالجماعة واسمها وعضويتها.
داعش في عيون التكفيريين
تعدّ قضية التطرف الديني في السودان، قديمة نسبيا وليست وليدة اللحظة، بل يرجع العديد من المراقبين البداية الفعلية لبروز الفكر التكفيري في السودان إلى العام 1992
يلاحظ أنّ تنظيم الرابطة الشرعية لعلماء المسلمين في السودان، الذي كان مرشحاً على نطاق واسع لأن يعلن تأييده لخلافة الدولة الإسلامية ومبايعة البغدادي، رفض هذه “الدولة”، بل نشر على موقع شبكة الهداية التابع له على الإنترنت مقالاً بعنوان (إعلانُ الخِلافةِ الإسلاميَّةِ – رؤيةٌ شرعيَّةٌ واقعيَّةٌ) بتاريخ 14 أغسطس 2014، جاء في إحدى فقراته: “باستعراض التاريخ الإسلاميِّ يَظهر جليًّا كثيرٌ من إعلانات الخلافة الوهميَّة، سواءً عن طريق الدَّعوات المزعومة بالمهديَّة، أو عن طريق فِرَق الخوارج الضالَّة؛ وهم أكثرُ النَّاس تلهفًا للخلافة، لكنْ بغير هُدًى ولا كتابٍ منيرٍ”، ويواصل المقال: “ويبدو – والعِلم عند الله – أنَّ هذه سِمةٌ لهم، أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعة فلا يُثبتون اسم الخِلافة، أو الإمامة العظمى إلَّا لِمَن ثبتَتْ له الولاية على جُمهورهم؛ بالاختيار أو التغلُّب، في شتَّى بِقاع المسلمين، وأمَّا مَن بُويع من أهل قُطْرٍ واحد، أو تغلَّب عليه، فقد ثبتَتْ ولايتُه عليهم، دون ولايتِه على مَن لم يبايعْه أو يتغلَّب عليه، وهكذا نشأتْ مسألة تعدُّد الأئمَّة التي سبَق ذكرُها آنفًا، وليستْ هذه المقالة مسوقةً لمناقشتها جوازًا، ومنعًا”.
وفي سياق آخر، أورد المقال كذلك: “فلا يصحُّ لأيِّ جِهة أن تُعلن خِلافتَها على كافَّة المسلمين، وتُنصِّب إمامًا من عندها، ثم تطلُب من جميع المسلمين في كلِّ أنحاء الأرض أن تُبايعَه خليفةً للمسلمين، وهي لم تتمكَّن بعدُ، ولا تستطيع أن تَحميَ القريب منها، فضلًا عن البعيد عنها، فهذا عبثٌ وحماقة؛ فإقامة الخلافة لا تكون بمجرَّد الادِّعاءِ والإعلان؛ فأيُّ قِيمة لإعلان ليس له حقيقةٌ في الوجود؟!”.
تداعيات التطرف على السودان
هجمات التكفيريين في السودان
◄ 1993: الهجوم على مسجد لأنصار السنة بأم درمان (25 قتيلا)
◄ 2000: الهجوم على مسجد لأنصار السنة بأم درمان (27 قتيلا)
◄ 2007: اكتشاف خلية إرهابية بحي السلمة بالخرطوم
◄ 2008: اغتيال الدبلوماسي الأميركي غرانفيل وسائقه السوداني بالخرطوم
تعدّ قضية التطرف الديني في السودان، قديمة نسبيا وليست وليدة اللحظة، بل يرجع العديد من المراقبين البداية الفعلية لبروز الفكر التكفيري في السودان إلى العام 1992، (ربما كان قبل ذلك بصورة خفية)، وذلك عندما قرَّر السودان إلغاء تأشيرة دخول البلاد للأشقاء العرب والمسلمين تشجيعًا للاستثمار. وكنتيجة لهذا القرار تدافعت جماعات التطرف الديني من دول الخليج وشمال أفريقيا إلى السودان، ودخل البلاد كثير من الغلاة والمتطرفين والإرهابيين مثل (كارلوس) الذي سلمته الخرطوم إلى باريس، كذلك شهد السودان حلول زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن على ربوعه.
وفي هذا السياق، رصد الكاتب الصحفي السوداني أحمد يوسف التاي، في مقالة صحفية، جملة من الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد حينها، والتي أودت بحياة العشرات من الأبرياء، وقد كان أبرزها الهجوم الذي شنَّه المدعو محمد عبدالله الخُليفي (ليبي الجنسية عاد من أفغانستان) نهاية العام 1993 على مسجد لأنصار السنة المحمدية بمدينة أم درمان عقب أداء المصلين لصلاة الجمعة، وأودى بحياة 25 من المصلين. وتكرَّر هذا المشهد التراجيدي نفسه بعد سبع سنوات، حيث شهدت البلاد حادثة الجرافة بأم درمان في عام 2000 عندما هاجم رجل يُدعى عباس الباقر، مسجدًا لأنصار السنة أثناء صلاة التراويح وقتل 27 شخصاً وجرح نحو 10 آخرين.
كما قادت الصدفة وحدها الشرطة لاكتشاف خلية بحي السلمة في العاصمة الخرطوم، ضمَّت مجموعة من الشباب كانوا يعتزمون قتل عدد من الأجانب في دارفور وذلك في عام 2007، فضلاً عمّا حدث فجر اليوم الأول من عام 2008، عندما اغتيل الدبلوماسي الأميركي غرانفيل وسائقه السوداني بالخرطوم بواسطة شباب يحسبون على تنظيم القاعدة، .
القاعدة و”الغيرة الدموية”
صحيح أن بعض التنظيمات المتطرفة أعلنت صراحة تأييدها لـ”دولة الخلافة” وزعيمها البغدادي، ولكن يرجح المراقبون أن تكون التنظيمات المتطرفة التي تباطأت حتى هذه اللحظة في مبايعة “الخليفة الجديد”، تابعة للقاعدة وفروعها. إذ لم يؤيد زعيم ما عرف بـ”قاعدة الجهاد” تنظيم داعش وخلافته المزعومة، إلاّ أنه ساق في ذلك حججاً ضعيفة لا تتجاوز القول أن قيادة داعش لم تستشر علماء الأمة في ما قامت به.
خلاصة القول، وبناء على ما سبق؛ يبرز جليّا أن القاعدة لا تختلف كثيراً في ما ذهب إليه تنظيم داعش أو ربما هي تتفق معه ضمناً، ولكنها من باب “الغيرة الدموية” تشعر أنّ الوليد جاء عاقاً لوالده واستأثر في غفلة من أمره بمساحات شاسعة وأعلن عن “دولة الخلافة الراشدة” التي تخندق من أجلها بن لادن وخلفه الظواهري ردحاً من الزمان. كما استأثر داعش لوحده بـ”استحقاق” تأديب أهل السنة الرافضين له وعشائر الصحوات، والشيعة، وأروى ظمأه من دماء الآيزيديين والصحفي الأميركي جيمس فولي وغيرهم كثر.