حسن وراق
ربع قرن يقترب من حكم الإنقاذ والنظام الحاكم طوال هذه الفترة الطويلة لم ينجح سوي في إدمان الفشل الذريع الذي انتهي بتقسيم البلاد وانتشار الحروب في كل الأقاليم وطغيان الفساد الذي أدي إلي الانهيار الاقتصادي وحالة الغلاء المتصاعد الذي جعل العيش شظفا ضيقا لا يمكن تحمله والنظام الحاكم لا يملك مخرج من هذه الأزمة إلا بمزيد من الأزمات .
يعتبر عرابو النظام أن بالقبضة الأمنية وحدها يمكنهم أن يحكموا مدي الحياة و فات عليهم أن أكثر الأنظمة استقرارا اقتصاديا ورفاهية لم تصمد برغم قوتها الأمنية الهائلة المتغلغلة والمتحكمة و انهيار منظومات أمنية تاريخية مثل السافاك الإيراني والسيكورتاتا الروماني والكي جي بي السوفيتي وانتهاء بأجهزة امن الربيع العربي دليل علي أن ليس بالقبضة الأمنية تحكم الشعوب.
جهاز أمن واستخبارات نظام الإنقاذ مرّ بمراحل لم ترسخ في ذهن المواطن السوداني إلا و أنه أكثر الأنظمة شراسة وقمعا وإرهابا ادخل العديد من الأساليب المرفوضة و الغريبة علي المجتمع السوداني وأخلاقياته في سبيل تمكين الحكم ورغم سماحة الشعب السوداني إلا أن ما تعرض له الكثيرون في أقبية الأمن وبيوت الأشباح ملأ النفوس بالحقد والرغبة الأكيدة في الانتقام وهذا أخطر ما يهدد النسيج الاجتماعي للأمة السودانية .
التغيير سنة الحياة شاء النظام أو لم يشأ . كل الأنظمة التي حكمت بجبروت وطغيان أين هي الآن ؟؟ الربيع العربي الذي أخاف العروش الخربة ما هو إلا احد نماذج التغيير الكثيرة وعندما ( يتبجح ) صقور الإنقاذ بان السودان ليس به ربيع أو أن الربيع كان في الثلاثين من يونيو فأنهم يمترون ويجحدون وينكرون حتمية التغيير القادم خوفا علي مصيرهم البائس لما اغترفوه من فظائع لن تغفر وظلت تمثل هاجسا مزعجا وفي الذهن ما حدث لسفاح ليبيا العقيد القذافي .
القوي السياسية رغم ضعفها و حركتها المقيدة ووسائل اتصالها الجماهيري المصادرة إلا أن إنكار تأثيرها يعد نوع من المزايدة والهروب إلي الإمام . القوي السياسية المعارضة لا أحد ينكر دورها للخروج من أزمة الحكم ظلت تطالب بتطبيق تجربة المغرب وجنوب أفريقيا في العدالة الانتقالية عبر ما يعرف بالإنصاف والمصالحة و المطالبة بعقد مؤتمر المصالحة والمؤتمر الدستوري الجامع إلا أن كل هذه المقترحات قوبلت بالسخرية والرفض بكل عنجهية.
انتفاضة المدن والأحياء السكنية الأخيرة عقب رفع الدعم عن المحروقات واستنكارا لحالة الغلاء بعثت برسالة قوية للنظام الحاكم الذي بدأ يحس بالرعب من (تبعات ) التغيير وحتميته . نبض الشارع أصبح مسموعا عبر اختيار مسمي جمعات التظاهر ( لحس الكوع وشذاذ الآفاق ) والشعارات الصارخة التي كانت تستهدف رئيس الجمهورية ومساعده الدكتور نافع واللذان يشكلا محور الصراع الداخلي للحركة الإسلامية والحزب الحاكم .
حالة الململة والأحاديث ( الصريحة) عن احتدام الصراع وراء الصوالين والغرف المغلقة انتقل بشكل علني علي صفحات الجرائد والمواقع الإخبارية وبدأ النقد يوجه صراحة لرئيس الجمهورية الذي يتحدث بخطاب منفر وكذلك مساعده (المتغطرس ) . العديد من قيادات الحركة الإسلامية والحزب لا يريدون أن يدفنوا تاريخهم السياسي وتضحياتهم في ركام أخطاء الرئيس ومساعده ولهذا بدأ الصوت يعلو مطالبا بالتغيير الذي لن يكون جادا وفعالا إذا لم يبدأ بالرئيس ومساعده .
كل الدلائل تشير إلي أن النظام بكلياته يبحث عن مخرج لأزماته بعد أن سقطت عنه آخر ورقة توت لم تعد تستر عورته . نشطت في الآونة الأخيرة زيارات الوفود الأمريكية للخرطوم وجوبا وتردد رئيس الجمهورية المستمر علي دولتي قطر والسعودية يؤكد ،أن التغيير القادم يتم برعاية خارجية وانبطاح بدون شروط سوي (المخارجة الآمنة ) . موافقة الوفد المفاوض مع حكومة الجنوب بشأن رسوم النقل وقبولهم بمبلغ 9 دولار مقابل 36 دولار ظلوا يتمسكون بها بكل عنجهية كشفت أن النظام (كيسو فاضي ) ويبحث عن أي مخرج.
الإدارة الأمريكية علي الرغم من أزمة الحكم إلا أنها تنظر لنظام الخرطوم بانه الاقوي مقارنة بالقوي المعارضة الداخلية الضعيفة التي ستخلق فوضي وخلل أمني في المنطقة Vacuum في حالة سقوط نظام الإنقاذ الذي ما زال دوره محفوظ في تفكيك شبكة الإرهاب للإسلاميين وتعاون رئيس الجهاز السابق المنقطع النظير مع المخابرات الأمريكية في هذا الشأن ولهذا تري الإدارة الأمريكية ضرورة إحداث تغيير داخل نظام الإنقاذ حتى يتم التعاون معه بشكل أفضل ( سياسة العصا والجزرة ) سيما وان الإدارة الأمريكية نجحت في نزع أسنان النظام و(كسر عينو) وايقنت أن مشكلة النظام في السودان محورها الرئيس و مساعده وهكذا تأكد من قراءة الاحداث الاخيرة في الشارع السوداني . .
أزمة الحكم استفحلت لدرجة أن أصبحت تهدد بقاء الدولة السودانية وحالة الغلاء الراهنة لا يمكن تحملها وكل يوم تشهد تصاعد حتى أصبح تفكير المواطن البسيط هو أن الموت بالرصاص ارحم من الموت جوعا وحرمانا والحكومة لا تملك ما تنقذ به الموقف بعد أن أصبح فساد الحكم يلتهم كل موارد الدولة الداخلية والخارجية الي درجة أن دوائر التمويل الخارجية بما فيها الصناديق العربية أحجمت عن تقديم الدعم حتى بالفوائد العالية لأنها أصبحت لا تثق في النظام بحالته الراهنة مما يجعل التغيير ضرورة تمليها مطلوبات خارجية .
النظام الحالي لا يحتمل أي ( ترقيع ) ليصبح مقبولا من المنظومة العالمية التي لا تقبل التعامل مع نظام رئيسه تطارده العدالة الدولية ومن هنا تعنبر الدوائر الخارجية والمجتمع الدولي بأن علي النظام تغيير رئيسه قبل كل شيء وهي تدرك أن تغيير الرئيس في نظام شمولي قمعي سيحدث ارتجاج وهزة عنيفة لها آثار لا يمكن إغفالها ولهذا بدأت قيادات الصفوف الخلفية في الحركة الإسلامية والحزب تتأهب للتغيير القادم .
التغيير القادم بدأ التحضير له أمنيا في نظام يعتمد علي القبضة الأمنية المطبقة التي أحكمت السيطرة المطلقة علي اقتصاد البلاد وموارده وتتقاطع فيه عدة أشكال أمنية في دوائر متداخلة لها بعد جهوي وقبلي تدين بالولاء المطلق لبعض رموز النظام . التغيير الأمني بدأ بالتركيز علي أمن الدولة بدلا من أمن النظام الذي وجب تغييره . الأجهزة الأمنية حاولت استغلال الأحداث الأخيرة لتوصيل رسالة إلي جموع المعتقلين بالسياسة الأمنية الجديدة لا ستيعاب التغيير القادم ومحو الصورة السالبة لتجاوزات الأمن في السابق.
الجميع يدرك بأن جهاز الأمن والاستخبارات الحالي ما هو إلا واجهة لجهاز أمن خفي وهذه الحالة خلقت نوع من الارتباك وعدم الرضي تؤكد ان الإستراتيجية (العليا) تري أن أمن النظام يتقدم علي أمن الدولة وهذا يتضح جليا من اللجان الأمنية في المحليات والولايات أصبحت تحمي في رموز النظام و منسوبيه وهي تملك كم هائل من المعلومات في مواجهتهم وهذه حالة من التناغض أضعفت هيبة الأمن في نظر المواطن البسيط الذي يدرك أن الفساد أصبح ( سباق حر) وقفا علي أركان النظام ومؤيديه وأن الأجهزة الأمنية تقوم بتوصل المعلومة دون أن تري اثر فعال من الجهاز التنفيذي أو العدلي .
الأجهزة الأمنية لا تنفصل عن بقية مؤسسات الحكم التي تأثرت بالأزمة العامة علي الرغم من الميزانية المرصودة للأمن والدفاع تصل إلي 70 % من ميزانية الدولة والغلاء الطاحن لا يستثني أحد بمن فيهم أفراد الأجهزة الأمنية الذين اقتنعوا أن هذا النظام استنفذ كل فرص البقاء وحان أوان التغيير . توقع التغيير وسط الأجهزة الأمنية بدأ ظاهر للعيان من خلال الأحداث الأخيرة و التصريحات والاعترافات وحالة الإحباط واليأس وهم يتصدون لأبنائهم وإخوانهم وفي ذات الوقت يشهدون بأعينهم أن الفساد أصبح مؤسسة قابضة بتلابيب النظام ورموزه وان الدولة السودانية أصبحت في محك رئيسي تبقي أو لا تبق ولعل هذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة القادمة لان التغيير أصبح حتمي ولا بد منه لان النظام وصل الميس و(مكنتو صلبت) والتغيير ضرورة لا تقبل التأجيل أو التأخير لان الحالة بصراحة واقفة وليس بالقبضة الأمنية تحكم الشعوب .
[email protected]