حسن وراق
مجرد أن ياتي ذكر إسم تمبول حتي تقفز الي شهية الذهن كبدة الابل ولحمه ولبنه الطيب الذي لم يستسيغه السودانيون الا مؤخرا بعد أن عرفوا فوائده الكثيرة في علاج انواع من السرطانات يدخل حتي بوله في تركيبة علاجها عند خلطه باللبن . لكل مدينة رائحتها المميزة وهي خليط من روائح طيارة مختلفة تمثل رائحة النشاط الاقتصادي وما تجود به البيئة من حولها. رائحة تمبول تشبه الي حد كبير رائحة تنقاسي السوق في محافظة مروي الي درجة أن المدينتين لاتكاد تحس بالفرق بينهما الا عندما يتحدث الناس ، في تنقاسي (لكنة) الشوايقة تسيطر علي المسامع وتركت بصماتها في عربي دنقلا و(لكنة ) أبناء جبال النوبة والجنوبيين يشنفون الآذان عندما يتحدثون بطريقة الشوايقة ووقتها تحس بأن هذا الشعب لا يستحق كل هذا الهوان الذيس هو فيه الآن. لغة الشارع في تمبول متمهلة غير عجولة تحتشد فيها لالفاظ والمعاني والعبارات الغريبة علي الاذن ولكنها لا تحتاج لترجمان او قاموس إنها لغة أهل البطانة المتأثرة بالصبر علي حياة الرحيل والتنقل علي ظهور الابل وسري الليل والقنيص وصفاء الذهن وبعد النظر بطول إمتداد سهل البطانة المزروع بمربعات المسادير التي جمعت فأوعت المختصر المفيد.تنقاسي تعرف لدي الكثيرين بتمبول الشمالية النشاط البشري كما هو في تمبول مرتبط بالثروة الحيوانية كاكبر اسواق في شمال السودان. عندما يكون الحديث عن تمبول تكون تنقاسي نسخة منه ولهذا يشيع علماء التمدن والحضارات ان المدن هي ايضا كائنات حية .
رائحة تمبول تمازج بين رائحة الالبان وروث البهائم ودم الذبائح واللحوم وتختلط اصوات البهائم بين ثغاء وخوار ونبيح وصهيل وصياح . أهل البطانة لهم أعتقاد كقدماء العرب في أن البهائم لا تكذب في رأي ابن سيرين الذي أتاه رجلا قال له أني رأيت كأن دابة كلمتني فقال له انك ميت وتلا قوله تعالى ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) فمات الرجل من يومه ذلك، فلذلك نجد أن اهل البطانة يعظمون الابل في المرتبة الاولي ثم الضأن والماعز وغير حريصين علي تربية الابقار( التي في خوارها مدعاة للوقوع في الفتن ) الا نادرا غير المبررات البيئية التي فرضت عليهم سلوكا معينا . رغاء الابل فيه فأل كبير كما كانت تعتقد العرب، أنه مرتبط بسفر كالحج او الجهاد او مقصدا لتجارة رابحة وفي صياح الضأن الفرح والحبور والخصب أما في ثغاء الشاة فهنالك بر قادم من رجل كريم ويصطحب أهل البطانة الكلب معهم ليس فقط بسبب الحراسة والقنيص والطرد ولكن ارتبط نباح الكلب بتأنيب الضمير والندامة من الظلم.
هذا جانب من حديث جاد يعبر عن ما يدور من نقاش ومحاضرات مختلفة في ضروب الادب والسياسة والفلكلور والاقتصاد والتاريخ يدور داخل تلك الزنزانة الضيقة التي تحولت الي قاعة مؤتمرات كبري من ضمن برامج الاعتقال للتثقيف المتبادل بين المعتقلين حيث لا توجد اي أدوات تثقيف من كتب ومجلات او صحف ولا حتي ورق أو اقلام . هذا الجو الذي بدد كل حالات الدبرسة والقلق والاحباط واكتساب معرفة والاستزادة بالعلم . اثناء التداول والنقاش الكل في أصغاء للمتحدث والمتداخل والمناقش . لا خروج عن المألوف ولا مكان للهزل في نطاق الموضوع . لم تكن لدينا لائحة لتنظيم هذا المنتدي والذي ينتظم بصورة تلقائية حتي المواضيع التي تناقش كانت غير متفق عليها مسبقا ولكن مستوي التناول والنقاش ينم علي غير ذلك وكأن كل شيئ معد ومرتب سلفا هكذا كنا نصرف الزمن والوقت ونخرج بعقولنا عن حرارة وكتمة وضيق الزنزانة والغريب في الامر أن اجسادنا تعودت علي هذا الوضع السيئ الرديئ ولم تحتج أو تتقلب او تطالب بعلاج خاصة وان جميعنا مصابين بروشته أمراض تتفاوت من الضغط والسكر والجيوب والازمة والحساسية والتهاب المفاصل وهذه حالة يجب ان تخضع للدراسة .
وقت الوجبة الغير معروف هو الذي يربكنا كثيرا لاننا لانقم بتنشيط حاسة الشعور بالجوع في اذهاننا وعندما يأتونا بالطعام تحتاج لوقت حتي تهيئ حواسك للاكل وهذا يتعارض مع الزمن المسموح لنا فيه بتناول الطعام لاننا نتناولة خارج الزنزانة الضيقة . تعليمات الحرس تطبق بصرامة فهم يعتقدون أن تجربة العالم الروسي بافلوف والخاصة بالشعور الارتدادي عند كلب التجارب الذي تقوده حاسة الشم للاقبال علي الطعام كل ما طالت المدة . الاكل في حد ذاته لا يشكل قيمة غذائية بالاضافة الي أنه كالتدخين ( ضار بالصحة ) لانه مليئ بكميات مبالغة من الملح كأحد وسائل التعذيب والذي إنتهي بحالة ضغط مقلق للاستاذ عاكف يعاني منه بصورة دائمة.
هنالك بعض البسطاء من أبناء هذا الشعب الطيب الذين يتبرعون بخدماتهم أو بالاحري بجهلهم للسلطة لتسبيب الاذي والضرر للاخرين وتقوم السلطات باستغلالهم والتبرؤ مما تغترفه ايادي هولاء المغرر بهم ، بعضهم يقدم معلومات وآخرين أفعال دون ان يصحي لهم ضمير او يهتز لهم رمش من ضمن هولاء شخصية تعرف ب (ود السما ) كان الفخر يملأ جوانحه لانه أصبح طباخ الوحدة فكان يطهو طعامنا والذي لا يخرج من فول اسود مسوس تعافه البهائم وكما هو متعارف عليه طريقة طهي الفول لا تخرج من مقدار من الفول مضاف اليه 3 مقادير من الماء في نار هادئة الا أن ود السماء كان يضيف الي مقدار الفول مقدارين من الملح ومقدار من الماء حتي يحرق الفول ويتشرب بالملح ويضيف له الماء كالزيت عند تقديمه لنا وكذلك الحال بالنسبة لفتة مرقة الماجي لا أحد منا كان يذكر أنه له علاقة بدورة المياه .
الضحية كما هو معروف لا يمكن ان تنسي جلادها ولو بعد قرن ، يمر شريط الاحداث أمامك عندما تلتقي جلادك أو تصادف من يشبهه وهذه كيمياء العقل التي تفرز في الذاكرة مادة مغلفة حتي لا تنتقل الاحداث الي رامات النسيان أو سلة المهملات Recycle pin. بعد انقضاء فترة الاعتقال بأعوام ثمانية التقي الاستاذ عاكف اسماعيل المحامي بالحصاحيصا بود السما الذي ترك العمل وعمل طباخا في إحدي مطاعم الخرطوم بحري.فاجأه استاذ عاكف عندما ناداه باسمه وبدأ حوار طويل بينهم ..عرق وتوتر ورجفة و(تنطط ) عيون اعترت ودالسما والذي كان يظن ان استاذ عاكف سوف يفتك به ويفرج فيه بحري وحلة حمد الا أن استاذ عاكف برقته المعتادة وادبه الجم طمأن ود السما الذي تنفس الصعداء وبدأ يتحدث لعاكف بصراحة متناهية كاشفا له ( المغطي والملان شطة ) وفي إفاداته لعاكف إعترف بأنه كان يستغرب كيف كنّا نأكل ما يقوم بإعداده من طعام لان التعليمات تفرض ان تكون كميات الملح في الحلة او الصحن تقارب من نصف الرطل وهي عبوة الكيس . لم يتركه عاكف يمضي هكذا فقام بنفحه بعض الدنانير جعلته يذرف دموعا بللت كل وجهه وهو يلوح بيده لاستاذ عاكف مودعا واليد الاخري تغطي وجهه تماما من الخجل.
الجوع كان ولا يزال كافرا ..إقامتنا في داخل تلك الزنزانة الضيقة اصبح تعليمات تطبق بصرامة بعد وصول وحدة المكافحة من مطاردة المهربين وعودتهم بخفي حنين . في صبيحة اليوم التالي تأخرت وجبة الافطار عن مواعيدها ( الغير) معتادة لتتجاوز الساعة صلاة الظهر ونحن علي لحمة بطوننا من الطوي والجوع . الاستاذالمحبوب يخرج نظارته السميكة يتفقدها ويمسحهها بكف جلبابه المتسخ ويعيدها الي عيونه يبحلق الي اسفل وأعلي وكأن هنالك بقعة متسخة في عدسات النظارة تشوش الرؤية وهو لا يدري أن ارتفاع الاسيتون بسبب الجوع احدث زغللة في النظر . عبدالكريم عبدالنور يصطنع في النوم ولكنه يمروح في عمامته لطرد الذباب . عبدالوهاب هنداوي انشغل بتحريك صوابعه مثل عازف الفلوت تارة وتارة أخري يقوم بطقطقتها مستمتعا بالمراقبة الصامته لزروق الناجي الذي فقد القدرة علي (المنطق) جالس القرفصاء مدخلا كامل جسده النحيل في جلباب يبدو أنه كان(شدّة ) من كثرة تفقده اما معروف علي احمدلم تفارقة الخرمة للتدخين راح في نومة لا داع لها . ود العمدة الشاعر ازهري محمد علي يتسلي بمشهد مختلق واضعا سبابته اليسري بين عينيه وكأنه يعدل في نظارته عند أعلا الانف ينظر في إتجاه الارض يتابع خط سير نملة ضلت طريقها في زنزانة مليئة بالاجساد البشرية التي تعيق سيرها. البقية في حالة صمت لا أحد ينطق أو يتحرك.. بعد فترة .. وقع أقدام قادمة وحديث بين شخصين من أفراد القوة امام باب الزنزانة وفي برش الصلاة الممزق وضعوا صحنين علي غير العادة وكيس مملوء بالخبز واخرج أحدهم مفاتيح الزنزانة وقام بفتحها لتناول وجبة فاتت مواعيدها . لا أحد يتحرك ..الجميع فقد الطاقة للوقوف وبعد برهة ابتدأت تدب حاسة الحوجة للطعام ما يؤكد تجربة كلب بافلوف. نهض الجميع في إعياء لتناول أول وجبة بين العصر والظهر بدأنا ننظر الي ما بداخل الصحنين والجميع مستغربون لم يمدوا أياديهم لتناول الطعام حتي نطق المحبوب ..أخيرا.. الجماعة ضبحوا ليكم !!،انسحب عفيف لانه نباتي ولم يك يدرك ان المحبوب لجأ الي اسلوب الاشاعة للتحفيز بعد ان اعدم حاسة الشم للطعام بفعل الملح الذي دبغ حاسة الشعور للطعام وحجب حاسةالجاذبية للاكل إنهاقمة تعذيب للحواس.