بقلم: صلاح شعيب
شغلت عودة زعيم حزب الأمة إلى البلاد الكثير من الناس، وماتزال. في الأسافير تراوح الجدل حول ما أنجزه في الخارج، وما قد ينجزه في الداخل الذي فيه احتضنه استقبال مريديه. لكن الأهم هو أن هناك تباينا دائما كلما تناول الناس ماضي الإمام وراهنه، وأيضا حينما يتداولون في تصور خطواته المستقبلية. وهكذا سدر قسم من الأسفيريين يعنف كل مسيرته بعد فقدان حكمه بواسطة الحركة الإسلامية لمجرد أنه لم ينجز شيئا سواء عبر “تهتدون”، أو “تؤوبون”، أو “تفلحون”.
على أن هناك من أنصار الزعيم الذين يضعون الكثير من الأمل فيه، وليس ه
ذا بالضرورة يعني أنهم لم يوطنوا أنفسهم بموقف نقدي تجاه حراكه المتواصل. فأنصار الإمام، وكل إمام، يتنوعون في أهدافهم. فهناك الذي يحرمه الحب الأعمى من رؤية مثالب نظرته، وبعض مواقفه، وتحالفاته. وهناك الذي يحبه بقدر من الصدق الذي يردفه ببذل المناصحة نحوه. وربما هناك الذي لا شأن له بحركة الإمام وإنما يفضل السكوت حتى ينال مبتغاه الوظيفي.
أما نقدة الإمام من خارج كيان الأنصار وتنظيمهم الحزبي فمشاربهم شتى. فالمنافسون الأيديولوجيون حكموا عليه مسبقا بنظرياتهم التي نورتهم بالقوى الدينية التقليدية المسيسة. وثمة إسلاميون رغم أنهم ظلموا الإمام ومع ذلك يبينون درجة من الكراهية نحوه. بل إن هناك من هم من آل البيت المهدوي الذين تأتي انتقاداتهم محملة بأسباب موضوعية، وبعضها “شنشنة أعرفها من أخزم”.
والحقيقة أن نقد الشخصيات الناشطة في العمل العام تعد من أصعب الأمور في البلاد. فما بالك بنقد الشخصيات التي تتلبسها هالات روحية، وتاريخية، مثل الإمام، والمرشد، والشيخ. ونقد الشخصيات، والزعامات، والأفراد، لا يعني بالضرورة تبخيسها، وإنما التأمل في مختلف تراثياتها، وغربلته بالشكل الذي يوجد الاستلهام، والمراجعة، والتدبر. ولكن الذي وقر في فؤاد الناشطين أن النقد لا يعني سوى الزراية بالخصم الثقافي، أو السياسي، وتجريده من كل الخصائص الإيجابية.
إذا فكرنا بهدوء سنجد أن هناك أزمة في نقد الصادق من حيث إنه زعيم وطني له ما له من الإيجابيات، وله ما له من السلبيات. فأغلب ما كتب عنه تمثل في شكل مقالات لا تفي بغرض البحث العميق عن مساره السياسي، أو الفكري، أو الأبوي، أو الديني المذهبي، أو تأثيراته من خلال مشاركاته الدولية، وغيرها من المجالات التي شهدت حضوره.
وربما من هنا تأتي ضرورة قيام منتدى فكري يتناول مواقف المهدي، ومقولاته، وكتبه، بشئ من الهدوء بعيدا عن العاطفة، أو الكراهية، أو الصمت. واعتقد أن تبشيره بالتقاعد يتيح فرصة جيدة لخليفته للاستفادة من هذا المنتدى لبناء حزب يليق بالعصر، ويستجيب إلى التحديات الكثيرة التي تجابهها التنظيمات السياسية التقليدية في ظل انفتاح الناس على المعرفة. وقد تناولت من خلال صحيفة الصحافة قبل عشرة أعوام جانبا من هذه الفكرة، وما ظلت أرى ضرورتها من حيث تأثيرها على المشهد السياسي، ومجمل المجالات العامة. وقد يكون في انعقاد المنتدى المعني سبقا لحزب الأمة في التأثير على تياراتنا السياسية الأخرى للتداول حول رموزها، وذلك في وقت ما عادت فيه ملامح القداسة السياسية للزعماء مقنعة للأجيال الجديدة.
ولعل من خلال التجربة في العمل الثقافي، والفني، والإعلامي، والرياضي، لاحظت أن هناك مشكلة شبيهة تتعلق بغياب النقد العلمي تجاه الشخصيات الناشطة في هذه المجالات من جهة، وتجاه إنتاجها المبذول للقراء، والمستمعين، والمشاهدين، من الجهة الأخرى. ولا شك أن ذلك المنتدى المقترح لمراجعة سيرة الإمام سيساهم، إذ تم الإعداد له بشكل جيد، وضم مرجعيات فكرية متباينة، في خلق حيز رحب للتداول حول شخصياتنا العامة بكثير من الموضوعية العلمية التي نفتقدها حين يتعلق الأمر بتناول جانب من جوانبها المتعلقة بشؤون الحياة.
الحقيقة أنه بالنظر إلى حركة العصر أننا نعيش في بلاد فقيرة جدا. إذ لا توجد بها مجلة فكرية، أو ثقافية، أو دوريات جامعية محكمة. وهذا إن دل على شئ إنما يدل على خيبتنا الوطنية. فالمساقات القومية التي كان يمكن أن تتعهد رعاية المعرفة، والنقد العلمي، أهملها حزب الصادق نفسه حينما كان رئيسا للوزراء. بل إنه أتى بوزير لم يكن همه سوى تحطيم التماثيل، وتوزيع المثقفين إلى شيوعيين وغير شيوعيين، ولهذا انتهى في خاتم المطاف إلى الانضمام إلى الحركة الإسلامية وحين تناقص لحمه رمي عظما.
لقد كان المؤمل أمام المهدي الذي يصدر كثيرا من موقع المفكر الاهتمام بحركة النشر، والتأليف، وتثوير دور جامعة الخرطوم، وبقية المؤسسات التعليمية، والأكاديمية الرائدة، حتى تكون لها الفاعلية في ضخ الإنتاج الفكري، والأدبي، والسياسي في البلاد. ولكن طوال ثلاث سنين لم يثبت حزبه اهتماما مفارقا بالثقافة إلا في حدود توكيل أمرها لتلك الشخصيات التي جلبها للوسط الثقافي بتطرفها، وافتعالها للمشاكل. فضلا عن ذلك فإن صحيفة “صوت الأمة” نفسها لم تكن قادرة على منافسة إعلام الجبهة القومية الإسلامية الذي لعب دورا كبيرا في تشويه سمعة حكومات الفترة الديموقراطية.
والملاحظ أن النظام بعد سيطرته على البلاد، واعتماده على ما سماه المشروع الحضاري الذي لا بد أن قوامه هو التجذر على الفكر والثقافة، أهمل الاهتمام بالتعليم، والثقافة، والفن. وطوال ما يقارب الثلاثة عقود لم يجد مبدعو الحركة الإسلامية، ناهيك عن مبدعي التنظيمات الأخرى، متنفسا للإبداع عبر مجلة ثقافة شهرية ينزلون فيها تصوراتهم للنهضة الثقافية الإسلاموية التي ينشدونها. الشئ المؤكد أن سدنة المشروع الحضاري بعد كل هذه السنوات المنقضية لم يؤثروا في خلق بنى فكرية، وثقافية، وفنية، وإعلامية، تستطيع أن تحمل المضامين التي يريدون طرحها بكثير من التبديع.
فلتكن عودة زعيم حزب الأمة فرصة لتنشيط حراك الحزب الذي دل من خلال استقبال عضويته للإمام أن هناك قاعدة عريضة ما تزال قدراتها كامنة. وليكن ذلك الحشد دافعا للمهدي لتنشيط المعارضة في الداخل ولم شعثها عبر الإجماع الوطني، والذي هو صمام الأمان لوحدة المعارضة الداخلية. ولا شك أن قواعد حزب الأمة والإجماع الوطني بحاجة إلى بعضها بعضا في إطار تنشيط العمل الجماهيري ضد النظام، خصوصا وأن المهدي بذل محاولات مقدرة في الخارج للتجسير بين المعارضة السلمية والمسلحة، وخلق قاعدة تفاهمات معتبرة مع المجتمع الدولي.