البشير يعيش لحظات انتظار مقلقة

د. الطاهر الفكى

كثيرون من أفراد الشعب السودانى و من بينهم بعض كبار قادة المعارضة قد سرحوا بعيداً في سماوات التشاؤم, و أستسلم اخرون لليأس القاتل من انعدام الوسائل للتخلص من سلطة الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطنى تحت قيادة البشير. و خلص البعض على أن كل ما يمكن رجائه هو انقلاب من داخل المنظومة المتسلطة نفسها تستعيد تدوير دولة الفساد مهيضة الجناح و موتورة الاوصال.

و لا نشكك أو نقلل في أن الوضع السياسى فى السودان في غاية التعقيد و الصعوبة

في هذه المرحلة الحرجة من التدهور الاقتصادى و الغلاء الفاحش الذي استدعى البشير على الاستنجاد بالحرس القديم وعلى رأسهم الفريق صلاح قوش ليقود الجهاز إلى فارقة يتم فيها بناء منظومة جديدة وفق أجندات خاصة لخدمة مصالح الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطنى تلبى رغبات الرئيس.

لكن, مع ذلك فإن الأمور نسبيا ليست بدرجات تصيب الشعب السودانى بالاحباط و السأم,و الاستسلام. فهناك تحولات إيجابية كثيرة على الصعيد الشعبي الداخلى و الخارجى تستدعى الوقوف عندها. على القوى السياسية السودانية التى تعارض الحركة الاسلامية أن تدرك أنها لم تكن بأفضل مما هي عليه الآن. و لعل ما يشير و يؤكد هذا, أن الشعب السودانى يتململ و كسر حاجز الخوف و تفاعل مع الاحداث بالمشاركة فعلا و قولا. و صار قوة فاعلة في الحراك السياسى و الجماهيرى رغم الاستهداف و القمع بكل الوسائل و الأساليب من قبل عصابات الامن الذين عادوا لما نهوا عنه من قبل, و ازدادوا تطرفاً بعد عودة صلاح قوش و مجموعته الى سدة الجهاز, و تحكّمهم بكل السياسات و التوجهات المتعلقة بالصراع السياسى حيث دفع مناضلون و معارضون كثيرون أثماناً غالية من حياتهم فى بيوت الاشباح و تحت السجن والتعذيب و النفي و تشويه السمعة. و بعودة قوش يكتمل فساد المحاصصة في الأجهزة الامنية حيث يجري تسخير النفوذ في عمليات انتقام شخصي ضد أي فرد على خصام معهم. و في زنزاناته دخلت المئات من الحرائر و من بينهم أطفال دون سن البلوغ و قيادات سياسية بدون تهمة و تعرض الأسرى إلى كافة أنواع التعذيب الجسدي و النفسي و المعاملة القاسية و اللا إنسانية، أثناء الاعتقال و التحقيق.

و مع ذلك فإنه من غير الجائز أن تصل الأمور بالشعب السودانى و قيادات المعارضة إلى التشاؤم و الاحباط و الانهيار المعنوي، ليتخلي عن الحراك الجماهيرى, و ليستسلم الى التعايش مع الحركة الاسلامية التي وصلت بزعمها إلى ذروة استقوائها و يصعب هزيمتها و باتت تتصرف تجاه الاخرين بالللا مبالاة.

و حرى بنا أن نذكر أن معظم حركات التحرر المسلحة منها و المدنية التي برزت عبر القرون قد مرت بمنعطفات تاريخية حرجة من القوة و الضعف أسوأ بكثير من الذي تمر به المعارضة فى السودان الآن. فالقضاء عسكريا على الثوار و دك قواعدهم و هدم مؤسساتهم و استسلام جيوشهم و اقتلاعهم نهائيا نوع من المستحيل دون الوصول الى حلول سياسية عادلة تعالج جذور المشكلة و اختلال موازين السلطة و الثروة فى البلاد. فقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان تم دحرها فى عملية صيف العبور فى القرن الماضى و جرى تشتيتها حتى انسحبت خارج الجنوب و انتقلت مئات الكيلومترات داخل الاراضى اليوغندية. ومع ذلك، بقيت متماسكة لتدور عقارب ساعات النضال إلى أن تمت اتفاقية نيفاشا و عاد قرنق بقواته منتصرا إلى كل الاراضى الجنوبية و العاصمة الخرطوم و عاد معه الملايين من الملاجئ و معسكرات النزوح و الشتات إلى ارضهم و وطنهم لينعموا بالحرية و الاستقلال.

و الان فقد استوعبت المعارضة السودانية بشقيها المدني و المسلح الواقع السياسى المرير و ضرورة الاجتماع على الحد الادنى من اجل العمل الجاد على شحذ الهمم و تصعيد العمل المعارض ليؤجل بالانقضاض على سلطة الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطنى.

أما على الصعيد الخارجى فهناك اعتراف دولي بالمعارضة المسلحة و المدنية حيث يتم دعوتها من قبل المؤسسات و الهيئات الدولية للمشاركة فى العملية السلمية، بينما يحاول النظام فى الخرطوم محاصرتها و استبعادها بكل الوسائل كيلا تستطيع كشف النظام و محاصرته فى جميع المنابر داخليا و خارجيا.
هذه الحقائق توضح ان المأزوم فعلاً هو البشير المطارد من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم الحرب و الابادة الجماعية و جرائم ضد الانسانية. ثم تنتظره قوى الداخل بتهم الفساد و الخيانة العظمى بالتفريط فى وحدة البلاد و قضايا جنائية كثيرة، و التي غدت مربكة لمستقبله و مصيره القريب و البعيد.

البشير و الفاسدون من اعضاء الحركة الاسلامية رغم ما سرقوه من اموال طائلة و ما يحيطون به أنفسهم من بطش الاجهزة الامنية يعيشون لحظات انتظار مقلقة. فهم يشعرون بأن الدنيا قد ضاقت بهم, و أن كل الترضيات التي يقدمونها فى المحاصصات لا تشعرهم بالاطمئنان و الامان على مستقبلهم في السلطة بل تهدد وجودهم و حياتهم الشخصية.

وعليه، فإن القلق و الارتباك الذي تعيشه الحركة الاسلامية جعل قادتها متحيرين بين حلها أو الابقاء عليها. فالحراك الجماهيرى سبب حالة هستيرية تؤرقهم لا يمكن تجاهلها أو اغفالها. وهذا يوضح أنها غدت أكثر ارتباكاً وخوفا مما يضمره لها المستقبل أكثر بكثير مما يعانيه الاخرون.

هناك حقيقة واضحة, أن المعارضة استطاعت ان تعرى الحركة الاسلامية و تنزع منها لباس الدين و تفضحها لتنكشف عورتها متوشحة ثياب الفساد و العهر السياسى و التدنى الاخلاقى.

وهكذا، فإنه, و رغم كل المآسي التي تجري في البلاد فهى مسألة وقت ليس الا و يلفظ الشعب السودانى الحركة الاسلامية و المؤتمر الوطنى كما لفظ كل الذين من قبلهم من متسلطين و جبابرة. و الذين يظنون أنهم اسلاميين حتى النخاع، يفكرون فى النجاة من سفينة البشير التى تدنوا على الغرق, و البشير أكثر من غيره على علم تام بما ينتظره مثلما حدث لصدام حسين و القذافى و ليس ما صار بالرئيس على عبد الله صالح ببعيد. ولهذا يعيش البشير لحظات انتظار مقلقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *