البشير ونظام الإنقاذ: إرهاب الدولة وشرعنة القتل

بقلم: نجم الدين موسى عبد الكريم
[email protected]

السمة الأبرز التى تميز ثورة 19 ديسمبر 2019 التى يقودها شباب وجماهير الشعب السودانى، هو سلميتها وحضارية مسلكها ووضوح شعاراتها وسقوف مطالبها وكذلك عزم الشباب واصراره على بلوغ الثورة غاياتها وهى تنحى النظام وتسليم السلطة. ومع دخول هذه الأنتفاضة أطوارا متقدمة ومع اتساع قاعدة هذه الاحتجاجات لتشمل شرائح مختلفة وقطاعات واسعة من المجتمع السودانى فى مدنه وأريافه، نلاحظ أن ردة فعل النظام تجاه هذه المظاهرات بدأ يأخذ أطوارا جديدة من العنف الوحشى والقتل بإطلاق الرصاص الحى على لمتظاهرين السلميين الذين ليس لديهم غير أياديهم للتصفيق وحناجرهم للهتاف “سلمية .. سلمية” و”تسقط .. تسقط بس”، وهم بذلك يمارسون حقاً مشروعا بنص الدستور والقانون. تزايد وتيرة هذا العنف الوحشى وفظاعة القتل وكثرت التساؤلات عن من يقتل المتظاهرين، تدفعنا وبجهد متواضع الى تأسيس موقف قانونى يحدد ويحصر المسؤولية الجنائية لهذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التى يمارسها النظام ضد المتظاهرين السلميين حتى لا يكون هناك فرصة للإفلات من المساءلة والعقاب.
فالتصريحات التى بدرت من قادة ورموز النظام، والتشكيلات الأمنية والعسكرية وأنشطتها ومهامها التى أنشأها وابتدعها هذا النظام خارج مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية المعروفة، لتكون موازية لها، تدفعنا للقول بأن نظام الإنقاذ يمارس إرهاب الدولة ضد الشعب ما نتج عنه جرائم كبيرة فى مناطق متعددة من السودان، بما فى ذلك الجرايم التى تحصد أروح الشباب بدم بارد اثناء هذه الاحتجاجات التى تدور الآن. بعض هذه التشكيلات تشمل، الأمن الشعبى، الفرق الجهادية، أمن الطلاب، والتنظيمات الاسلامية السرية الموازية لمؤسسات الدولة.
إذن فما هو الارهاب؟ بما أن الارهاب غير معرف قانونيا فى جميع النظم القضائية، ولكن، وبحسب الموسوعة البريطانية، فالإرهاب هو “الاستخدام المنظم للعنف لخلق مناخ عام فى عدد السكان، ومن ثم تحقيق هدف سياسى معين”. وتعرف الموسوعة بان ارهاب المؤسسات هو ارهاب الدولة أو الارهاب الذى ترعاه الدولة. وهناك أيضا تعريف إجرائي يعرف الارهاب بأنه “كل فعل ينطوى على استخدام السلاح أو التهديد باستخدامه لتحقيق أهداف سياسية او دينية او إثنية”. وفقا لهذا التعريف الإجرائي، فان دعم الجماعات التى تقوم بأعمال الارهاب، فهو أيضا عمل ارهابى. ويعد ارهاب الدولة أخطر أنواع الارهاب، وأكثرها عنفا ووحشية ودموية، اذ يقوم بهذه الجرائم الجهات المنوط بها حماية المواطنين، بالاضافة الى أن المتورطين فيه يجدون الفرصة للإفلات من العقاب. حددت منظمة العفو الدولية، أشكال ارهاب الدولة ليشمل الاحتجار التعسفي، والتعذيب، والمحاكمات غير العادلة، والقتل السياسي، أو الإعدام خارج نطاق القضاء. وتعد هذه الجرائم انتهاك صارخ لمبادىء القانون الإنساني الدولى.
فنظام الإنقاذ اتخذ من ارهاب الدولة منهجا لنظامه السياسي، شأنه فى ذلك شأن نظام الجنرال فرانكو فى أسبانيا وفى إيطاليا بزعامة موسلينى وبينوتشى فى الدولة السوفيتة وهتلر فى ألمانيا. فالذى تمارسه أجهزة النظام القمعية هذه الأيام ضد المتظاهرين السلميين، انمأ هو ارهاب وليس أعمالا لحفظ الأمن وحفظا للممتلكات العامة. أما التصريحات التى صدرت من قادة ورموز النظام التى تشرعن وتحرض على مثل هذه الإنتهاكات الجسيمة نوجزها فى الآتى:
(1)
خطاب رأس النظام عمر البشير لقادة الشرطة بدار الشرطة ببرى فى 30 ديسمبر 2018، والذى جاء فيه “أن واجب الشرطة هو حفظ أمن المواطن وليس قتل المواطن، ولكن أحيانا كما قال سبحانه وتعالى ولكم فى القصاص حَيَاة، والقصاص هو قتل وإعدام، ولكن ربنا وصفه بالحياة لأنه ردع للآخرين للمحافظة على الأمن، والأمن سلعة غالية جداً لن نفرط فيها”. هذا الخطاب الموجه من رئيس الدولة والقائد الأعلى للشرطة وهو فى زى الشرطة، لم يفهم على أنه تحريض للشرطة لقتل المتظاهرين فحسب، فهذا واضح وصريح، وانما هو توجيه وأوامر من رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للشرطة لقادة الشرطة. أما أهمية هذه التعليمات من الناحية العملية وعلاقتها بما يدور الآن من استهداف لقناصة أجهزة النظام الأمنية للمتظاهرين السلميين بالرصاص الحى فى الرأس والصدر بقصد القتل، فنجملها فى الآتى: أولا، أنه قد عطل الدستور والقانون واعتمد فى فتواه على النص القراني “ولكم فى القصاص حياة يا أولى الالباب لعلكم تتقون” محرفًا – بحسب فهمه – لمقاصد الشرع الحنيف لتحقيق أغراضه هو، ومتخذا بذلك من حكم الشريعة دستورا أعلى لتبرير قتل المتظاهرين السلميين، وعلى بساطة تأويله للنص القراني يعظم ما يترتب على هذا التأويل من أفعال. ثانيا، بهذا التصريح قد عطل رئيس الجمهورية عمل وفعالية الأجهزة المنفذة للقانون، كالشرطة، النيابة العامة والقضاء، اذ لا يتوقع أن تقوم النيابة مثلا بمهامها فى التحقيق وصولا للجانى والمسؤول عن هذه الجرايم البشعة. ثالثا، رفع المسؤولية الجنائية عن مرتكبى هذه الجرايم البشعة، باعتبار أن الجانى يؤدى عمله وواجبه المهنى وفق فتوى وتوجيهات رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للشرطة. رابعا، عدم إمكانية القيام بأى اجراء قانونى أو قضائى ينصف الضحايا ويحاكم الجناة، اذ لا يتوقع أن تشرع الشرطة أو النيابة العامة أو القضاء فى إجراءات التحرى أو التقاضى فى حال تقديم اى متورط فى هذه الجرائم ولو اكتملت ضده الأدلة وتوافر الشهود. خامسا، عدم جدوى لجنة التحقيق التى شكلها رئيس النظام للتحقيق فى الجرايم التى ارتكبتها مليشيات النظام فى هذه الانتفاضة من الناحية القانونية والإجرائية.
المعروف ان رجل وضابط الشرطة وفق أحكام قانون الشرطة لا يستخدمون السلاح بقصد القتل لفض المظاهرات أو التجمعات، إنما يستعمل الغاز المسيل للدموع والهراوات والعصى والماء لتفريغ التجمعات وفض حالات الشغب، ولا يمكن لرجل الشرطة استخدام الرصاص الحى الا فى حدود ضيقة جدا وباذن النيابة. مثال لذلك أن تكون حياة الشرطى أو حياة المواطن معرضة للخطر الأكيد، على أن يستعمل السلاح من غير أن يقتل بقدر الإمكان. ان الشرطة والجيش وجهاز الأمن والاستخبارات مؤسسات وطنية، الا أن طبيعتها ووظيفتها فى عهد الإنقاذ قد تغيرت وفق مخططات نظام الإنقاذ للسيطرة والتمكين. فى جهاز الشرطة مثلا، معظم قادة الشرطة ينتمون تنظيميا للحزب الحاكم، وهناك الجهاز السرى للحركة الاسلامية داخل مؤسسة الشرطة للسيطرة على مهام وعمل الشرطة. كما ان لهذه التشكيلات الأمنية المذكورة أعلاه أزياء للشرطة والاحتياطي المركزي والجيش ترتديها حسب الحاجة لإخفاء هويتها. خطاب الرئيس لقادة الشرطة، يذكرنا بخطابه للجيش فى عام 2004 بأنه لا يريد أسيرا أو جريحا فى دارفور، معلنا بذلك سياسة الأرض المحروقة التى انتهت به مطالبا للجنائية بجرائم حرب، وجرايم ضد الانسانية وجريمة الابادة الجماعية.
(2)
تصريحات على عثمان طه النائب الأول لرئيس الجمهورية الأسبق، بأن للنظام مليشيات تحميه وتقف خلفه مدافعة عنه ومستعدة للتضحية بالنفوس لو تطلب الأمر ذلك. تأتى أهمية هذه التصريحات من أهمية موقعه فى الحركة الاسلامية والمواقع القيادية الحساسة التى شغلها فى هذا النظام، وباعتباره أيضا راسما لسياسات الإنقاذ ومهندسا لها. وعلى عثمان هو قانونى بالأساس، اذ عمل قاضيا، وعمل بالمحاماة وكان زعيما للمعارضة عن الجبهة الاسلامية فى عهد الديمقراطية الثالثة. لشخص بهذه الدرجة من الأهمية فى أى نظام سياسى شمولي لابد أن تؤخذ تصريحاته مأخذ الجد ويبنى عليها. ويدلى على عثمان بهذه التصريحات ولم تكن لديه صفة تنفيذية أو دستورية فى الدولة ولكن ربما بصفته المعروفة للنظام فى حكومة أو مؤسسات الظل التى تحدث عنها. هذه التصريحات تؤخذ كشواهد دالة على الحقيقة وتدعم الدعوى بأن نظام الإنقاذ يمارس ارهاب الدولة ضد الشعب السودانى وان القتل الذى تنفذه أجهزته الأمنية وتشكيلاته الجهادية من قتل خارج القانون يتحمله رأس النظام والنافذين فى جهاز الدولة والحزب الحاكم وكل قادة هذه المنظومات الأمنية والعسكرية وكذلك الأفراد الذين تثبت فى حقهم شبهة ارتكاب هذه الجرايم.
(3)
شواهد اخرى ندفع بها لدعم دعوانا بأن نظام الإنقاذ يمارس ارهاب الدولة، تتمثل فى تعليمات وزير الداخلية السابق ووالى ولاية شمال كردفان الآن مولانا أحمد هارون المتهم هو الآخر لدى الجنائية فى جرائم دارفور، حين أصدر التعليمات “أكسح امسح ما تجيبو حى، ما دايرين أعباء ادارية”، وهو واليا لولاية جنوب كردفان. ودليل آخر على ممارسة نظام الإنقاذ لارهاب الدولة ويدير الدولة بمؤسسات التنظيم لا الدولة هو تصريحات رئيس المجلس الوطنى (البرلمان) السابق د الفاتح عزالدين “أدونا أسبوع سنقطع رؤوس كل الخونة والمارقين” وهنا يقصد المتظاهرون السلميون. على الرغم من أن ليس للرجل صفة تنفيذية، أو دستورية غير صفته كنائب بالمجلس الوطنى ولكن ربما صرح الرجل بقوة مركزه وسلطته فى التنظيم الموازى للدولة وأجهزة الظل التى صرح بها على عثمان.
(4)
وعليه، فكل ما تقدم يؤكد ممارسة نظام الإنقاذ لإرهاب الدولة ضد الشعب وبالتالي مسؤوليته الكاملة عن هذه الجرائم فى المقام الأول. فرأس النظام يتحمل المسؤولية المباشرة لكونه أصدر الأوامر بصفته رئيساً للجمهورية والقائد الأعلى لكل القوات النظامية. قادة وأعضاء هذه المليشيات والتشكيلات الأمنية مسؤولية مسؤولية مباشرة عن هذه الأنتهاكات الجسيمة. بما أن الشرطة مناط بها حفظ أمن وسلامة المواطن، بالتالي فهى مسؤولة عن الإنتهاكات التى تحصل للمواطنين أمام أعينها، فكان عليها أما حمايتهم أو الإفصاح عن هذه المجموعات المرتكبة لهذه الجرايم وتحميلها المسؤولية الجنائية مع افتراض أن جهاز الشرطة يعرف هذه المجموعات بالضرورة. أما هذه المؤسسات الموازية أو حكومة الظل هى مؤسسات غير شرعية ودستورية وبالتالي كل نشاطاتها مخالفة ومنتهكة للدستور والقانون.
(5)
ردا على وزارة الداخلية بعدم قانونية هذه المواكب والمظاهرات السلمية، نؤكد بانها قانونية ودستورية باعتبارها حق أساسى بموجب الدستور الوطنى والقانون الإنساني الدولى. بل أن مطالب هذه الثورة الجماهيرية وشعاراتها التى التى تقول “تسقط .. بس” أيضا قانونية ومشروعة، خصوصا وأن بين ايدينا الآن تأكيدات من النظام نفسه، أن هناك مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة من أجهزة أمنية وعسكرية وخدمة مدنية كاملة تقف وراءه. هذا يعنى أن النظام يصرف من موارد الدولة على جهاز دولة كامل يجهل الشعب السودانى تفاصيله، فهذا فى حد ذاته مسوقا كافياً لمشروعية تسيير الجماهير المواكب الهادرة والمطالبة برحيل النظام. دعك عن الفساد المؤسسى وأسباب اخرى كثيرة، أقلها ضياع أحلام هذا الشباب النضر الذى يعانى البطالة وانعدام فرص العيش الكريم فى بلاده بسبب ترهل دولاب الدولة وإرهاق خزينتها وعجزها الإقتصادى نتيجة للصرف الغير دستوري وقانونى على مؤسسات دولة وخدمة مدنية تعمل فى الظل لحساب نظام الإنقاذ لا المواطن. المطالبة بإسقاط النظام مشروع وضرورة تقتضيها المصلحة الوطنية لتحقيق الأمن والأمان للمواطن فى مأكله ومشربه وصيانة كرامته وحريته ولاستعادة الدولة الوطنية واعادة الثقة فى مؤسساتها الوطنية التى خربها نظام الإنقاذ.
(6)
دعوة نقدمها لتجمع المحاميين الديمقراطيين والمنظمات الحقوقية والقضاة والمحاميين أن يعملوا على فتح هذا الملف الشائك والمهم وتجميع المعلومات والأدلة وحفظها لتأسيس الدعوة القانونية ضد نظام الإنقاذ ورموزه فى قضايا ارهاب الدول ضد شعبها والخيانة العظمى لهذا الشعب بتخريب مؤسساته الوطنية وهدر موارده المالية والاقتصادية فى إدارة مؤسسات عسكرية وأمنية وجهاز خدمة مدنية كامل يعمل لمصحة نظام الإنقاذ وضد مصلحة الْوَطَن. وعلى حد قول على عثمان “الحساب ولد”. ونناشد أخواننا وأبناءنا من منسوبي هذا النظام اعلان مواقفهم من النظام بالانحياز الى مربع الشعب وفى هذا مصلحة وطنية لأن نظام الإنقاذ قد قسم السودانيين الى انقاذيين فى مقابل الشعب السودانى.

نجم الدين موسى عبد الكريم
لندن فى 21 يناير 2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *