محجوب حسين
زوايا النظر عديدة بالنسبة للتطورات التي تشهدها الأزمة السودانية، سيما في ظل ثورة المقاومة المدنية الجارية، التي عمت كل الأراضي السودانية التي أُفقرت ونُهبت وسُرقت عبر شبكة عمل استعماري منظم وببيوت خبرة داخلية وخارجية. جاء هذا الفعل الثوري الجماهيري المشترك والذي يسع الجميع لإنجاز المهمة التاريخية الحاسمة المرتقبة حتمية الوقوع في امتداد ومراكمة لسابقاتها من ثورات كانت مدنية أو عسكرية خلال الثلاثة عقود الماضية، راح في أكبرها وأوسعها نطاقا وعنفا أكثر من ثلاثمئة ألف قتيل وخمسة ملايين خارجين عن نظام الدولة لأكثر من عقد ونصف وفي أخريات، جاءت مرنة أو عنيفة، كان حصاد الألوف والمئات والعشرات والآحاد، يضاف إليه تطبيق صارم لانتهاك حقوق الإنسان كثقافة أيديولوجية محضة منذ وقوع بلاء الإسلامويين وقوم العسكرتاريا الذي نزل على السودان.كل تلك الأفعال الثورية بعناوينها وأدبياتها والأهداف التي تحملها وتسعى لتضمينها كصك “خلاص وطني” يتمفصل في إحداث قطيعة تاريخية ومعرفية وثقافية مع نسق الاستبداد السياسي السائد في البلاد خلال ثلاثين عاما، وذلك برفع حكم وصايا الجنرال الضال و”شبيحته” عن تدبير الشأن اليومي والحياتي والمستقبلي للشعوب السودانية بعدما عمد على تغيير كل شيء عظيم مألوف إلى شيء شاذ غير مألوف ومعروف ويريده هو وحده أن يبقى مألوفا رغم شذوذه ومعاداته لمنظومة القيم التي اعتاد عليها البشر، ممثلا في سنوات حكمه في الجغرافيا الافريقية المسماة بالسودان يلقبونه بـ “أسد افريقيا” والذي تكرم مؤخرا بقوة دفع إقليمية – مدفوعة الثمن في الغالب من زيارة الأسد والرجل لا يؤمن مطلقا على ما يبدو أن يسبق اسمه عبارة “رئيس سابق محبوس لجرائمه وفساده”، ليفتح معه بذلك أشكالا مختلفة من الصراع وعلى كل الصعد، قد تقع بعمل فردي أو جماعي، لا أحد يدري خصوصا والتجارب ماثلة أمامه، شاهدها وراقبها عن كثب، وبالتالي ليست هناك حصانة تمنع الشعب السوداني من تجديد وتطوير صراعه بالاندحار إلى صراع السفهاء، وهو صراع له أدواته غير المكلفة، قد تكون طلقة طائشة أو معدة أو مجهزة، وهي ذات الطلقة التي استخسرها أحد ولاته في دارفور ضد حرب ما يسمونه “متمردون”، في إشارة إلى دفنهم أحياء، لأن العيار الناري الذي تشتريه حكومته بثمن مالي كما قال هو أغلى من أرواح وأشكال هؤلاء الذين يقارعون “البلاط” و- أنا واحد منهم – والمسألة برمتها لا ترتقي إلى خسارة ثمن قيمة طلقة.استعادة مشروع الدولةان المفارقة الهامة في ثورات القرن الواحد والعشرين السودانية، وفيها الشتاء الثوري السوداني الجاري، ليست هي شأن تلك الثورات التي شهدها السودان في القرن العشرين والتي عجزت عن صناعة دولة بديلة للاستعمار، لتكرس أوضاعا أسوأ من الحالة الاستعمارية عبر بناء طبقة اجتماعية واقتصادية استعمارية حقا، وما تواجد سلطة الوصايا الحاكمة راهنا ما هي إلا امتداد تاريخي عنيف لتلكم الصناعة بعد الاستقلال من الخارج لفائدة أبنية استعمار من الداخل، وبالتالي ضمن الصيرورة التاريخية لتطور ونهوض الشعوب، أهم عنوان سوف تنتجه الثورة السودانية هو استعادة مشروع الدولة بتحريرها من سلطة الوصايا قصد التأسيس لدولة تستجيب لعناوين ثورة الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر مرتكز جوهري، محل الخلل والصراع التاريخي السوداني وهو صراع تكريس مبدأ المواطنة في الدولة السودانية كمحدد يتحدد حوله الصراع لا غيره، فيما الأزمات الأخرى وعلى كثرتها وفظاعتها تأتي في باب التداعيات جراء غياب المبدأ أو تعطيله أو عدم إصلاحه أو صيانته أو صونه. علما أن المبدأ في ممارسته سودانيا لم يكن جزءاً من المنظومة الفكرية المعرفية والثقافية والاجتماعية للطبقات والعصبيات المهيمنة زائدا أنه لم يشكل رابطة عقدية قانونية، بل هو جزء من مفاهيم ثقافية متخيلة لتلك البنى واسقاطاتها نتيجة الارتباط العضوي بين العرق أو الجهة ومن ثم الثقافة مع الدولة/ السلطة، ليتحول تراكميا عند البنى المهيمنة إلى أيديولوجيا تنظر بها إلى نفسها ومن خلالها تنظر للآخرين وتنميطهم أو إعادة إنتاجهم استنادا إلى ثقافة شكلت معها قناعة راسخة لدى كثيرين، والقائلة أن “البشر في السودان غير متساوين بالضرورة”، مقولة تجد أصولها في البناءات الاجتماعية الثقافية السلطوية للنسق الذي ينبذ فكرة المساواة بين المجموعات البشرية في السودان، في تصور مخالف لحقيقة أزلية مفادها، أن البشر سواسية لا فرق بينهم، ومرد هذا التمايز الذي أسس عليه النسق السياسي الاجتماعي تواجده، يرجع بالدرجة الأولى لضمان استمرارية هيمنته الأحادية وصناعة تمايزه وأن أي اتجاه معاكس له، بالقطع يسلبها تلك الهيمنة أو يُوقِف تمايزها المركب تركيبا.قيم المساواة الإنسانيةإذا، نحن أمام حقل اجتماعي يؤمن في حفرياته الاجتماعية بفكرة اللامساواة – إن جاز التعبير – منهجا وسلوكا وثقافة، وبالتالي إعادة تأهليه إلى حقل اجتماعي إنسانوي سوي يؤمن بقيم المساواة الإنسانية، يعتبر أهم استحقاق وطني بالضرورة للثورة السودانية أو أي ترتيبات وطنية جديدة تسعى لها قوى تريد أن تختبر “امكانية” صناعة مستقبل عقلاني في البلاد أو بين تلكم الكتل البشرية المسماة سودانية أو تلك التي تطمح أو قد لا تطمح إلى بناء أسس حياة جديدة مشتركة بعقيدة اجتماعية وثقافية وسياسية ترتكز على المبدأ، بشروطه ومبادئه وأسسه مع منهجية مغايرة تؤصل لمفهوم التعدد بين مجتمعات سودانية مختلفة ذات هويات متعددة وأنساق اجتماعية تتقاطع مصالحها وتتنافس وتتصارع ولا تعرف بعضها بما فيه الكفاية، كما لا تعترف في أحايين كثيرة ببعضها بعض. انه حقل الاختلاف لأمم مختلفة بحضاراتها وثقافاتها وتاريخها، تخضع لحراسة قهرية والغائية لأكثر من ستة عقود رغم الخلخلة التي فضحت مجسم الهيمنة خلال العقدين الماضيين، حيث رسمت وحسمت الطريق، فيما استشراف أفق تحقُقه قد يقع آجلا أو عاجلا. هذه المعطيات وعلى أسفها هي معطيات واقعية معاشة دالة، لا يمكن حلها إلا برفع حجاب الصمت عنها والإقرار بها علانية كمعضلة في بنية الأزمة السودانية المنتجة للأزمات الأخرى، ومفتاح تخطيها يتم عبر ملامسة نقدية للمبدأ، من جهة تعاطي مشروع الدولة معه. ومن جهة ثانية، المجتمع والنسق المهيمن عوض التواطؤ مع انتهاكات دولة مؤسسات القمع في تجريب صك الشعوب السودانية في أمة أو هوية أو دين أو ثقافة النسق الواحدة، أو حتى سحنات مشابهة بجينات مستوردة تتبع لأحد المراكز العربية أو الفارسية أو الافريقية، وإنما مواطنة دستورية عقدية بواجباتها وحقوقها مسنودة بجهاز قانوني تشريعي لصونها وحراستها.انتهاكاتأن ثورة المواطنة السودانية تسعى إلى تأطير المبدأ الدستوري إلى قانوني ينتمي للحقل العام، مفصل بتبويبه ومواده وأحكامه، شأنه شأن القوانين الجنائية والمدنية أو الأحوال الشخصية، بمعنى نقله من التصورات النظرية والمزاجية لدى الفاعلين إلى القواعد القانونية التطبيقية، مما يجعل منه أمرا ملزما في الممارسة الاجتماعية والسياسية والحقوقية والمؤسساتية، تضبط بموجبها أسس هذه المواطنة وتُعرّف ماهيتها وكيفية إعمال عملها في المؤسسات العامة وفي تعدديات اجتماعية فسيفسائية تعني ما تعني، إدارة المصالح المتقاطعة للقوى الاجتماعية السودانية المختلفة وضمانها في إطار مبادئ دستورية تجد تفسيراتها في القوانين والمؤسسات المناطة لها مهام المتابعة والحماية والمراقبة العدلية في إسقاط الجزاءات للانتهاكات التي تمارسها كل مجالات المشترك العام والذي هو الدولة بمؤسساتها. كل ذلك من شأنه أن يجعل من المواطنة والتعدد غير أنهما مفاهيم سياسية وفلسفية، إلى مفاهيم قانونية مسنودة بتشريعات واضحة، تجرم الأفعال العنصرية وتوقف سلوكيات التمييز وتعاقب الأفراد والمؤسسات والجماعات التي تخل بما نسميه بـ “مدونة صون مبدأ المواطنة وإدارة التعدد” في السودان. هذه المدونة إن كتب لها التأسيس بعد محطة المفاصلة الثورية تشكل أهم عنوان واستحقاق ثوري، وربما تكون الأولى في تاريخ البلاد، وقد تشكل نُقلة نوعية في بحث السودانيين عن عنوان جديد لسودانهم، هو عنوان المواطنة والتعدد القانونيين وليس الثقافيين، كنظرية تؤسس للمبدأ وتحميه بأن تجعل من المساواة ممكنة وبقوة القانون وليس بقوة سلطة ثقافة القوى الاجتماعية المهيمنة، وأول محرك لهذا الاستحقاق الوطني هو إرادة الثورة السودانية والتي هي أيضا لها مطباتها ومنعرجاتها ما دام الجنرال الضال ما زال يحتمي بوعاء لوبيات وشبكات منافع ومصالح واسعة تمكن من إنشائها خلال سنوات حكمه، كما أنه مدرك تمام الإدراك أنه يحمي بوجوده مصالح تلك القوى، سياسية أو أهلية أو قبائلية اجتماعية أو حتى بيوتات أسرية، فهو بهذا يحتمي ويحمي، في علاقة جدلية نفعية لتأمين غنيمة السلطة واستمرارها وبما يضمن طمأنته من غدر القوى المتربصة به، وفي هذا يعلم علم اليقين أولى تلك الدوائر هم عموم الشعب السوداني الذي يقابله كرها بكُره، وثانيهما فرق الإسلاميين الذين غدر بهم، هذا غير قوى انتقام أهل الدم وهم بمئات الألوف. إن الرجل على قناعة بأن الكل سوف يغدر به ومن كان رحيما، سوف يدفع به لقصاص العدالة الدولية وفي تلك رمزية محاكمة المشروع الإسلاموي بصيغته السودانية فضلا عن الهيمنة الظالمة التي وقعت في البلاد. إنها مهام ثقيلة لثورة الشعوب السودانية في القرن الواحد والعشرين، غير التحرر، كذلك التأسيس وبناء دولة القيم لصيانة المشترك عبر فصل العرق والقبيلة والجهة عن السلطة لوقف تلاعبها بلعبة دين ودولة.