محجوب حسين
■ امران مهمان في تقاطعات الازمة السودانية واختزال تشعباتها نحو افق الحل بدون توصيف محدد لفعل هذا الحل وكيف يكون، أهو حل شامل أم حل تجزيئي تلفيقي؟ الامر الاول يتعلق بمبادرة الرئيس السوداني التي طرحها خلال الشهور الماضية على المجتمع السياسي، وعرّفها بـ»الوثبة» في اقــــرار واعتراف منه بأن هناك ازمة سودانية، بدون ان يعترف هو ذاته بأنه يمثل الضلع الاهم والبارز في متن هذه الازمة، ان لم يكن هو الازمة نفسها. فيما الامر الثاني والموازي جاء في حراك الجبهة الثورية السودانية الاخير وبمشاركة عدد كبير من اعضاء البرلمان الاوروبي، الذي انتظم في موقع البرلمان الاوروبي بمدينة «ستراسبورغ» الفرنسية الاسبوع الماضي، حيث تولى المبادرة والاشراف عليها وكذا التمثــــيل ودعوة الاحزاب السودانية لها نائب رئيس الجبهة الثوريـــة، رئيس حركة العدل والمساواة السودانية جبريل ابراهــــيم، حيـــث شارك وانتظم عدد مقدر من الاحزاب السودانية الرئيــسية من الداخـــل والخارج، وتعذر على بعضها الوصول في المواقيت المحددة، رغم موافقتها وتأييدها التام، او تلك التي قدمت لها الدعوة ورفضت او امتنعت تحت حجج ومزاعم معينة.
وبمراجعة مؤشر الجدل العنيف بين شركاء الشأن السوداني، يبدو ان آلية تسوية الازمة الوطنية استقرت الى حد بعيد عبر تقنية الحوار السياسي بين مشاريع مكونات الدولة السودانية عبر تكويناتها السياسية او الاجتماعية او المدنية والدينية والعسكرية، يشاركهم الرأي الشركاء الدوليون، فيما يبقى ضمن هذا السياق استفهام الازمة حول فلسفة هذا الحوار الوطني وآليات دفعه واهدافه وضوابطه وغاياته، في محصلة نهائية لحسم معضلة المشروع الوطني السوداني الغائب في تكوين الدولة منذ سنوات الاستقلال الاول، وهو الشيء الذي دفع بالمناداة علنا باستقلال ثان للسودان عبر تحرير جديد، باعتبار الدولة السودانية واقعة تحت نير كولنيالية داخلية، او قل محكومة بآليات الكولنيالية القديمة ذاتها، وتحت زعم ثوب وطني قسري فوقي محروس باجهزة وعتاد عسكري عنيف وبتزييف كامل لكل اوجه اليومي والتاريخي والثقافي والديني السوداني، لفائدة منطق السيطرة والاستحواذ والاستمرار. وهو منطق يجوز فيه استعمال أي شيء حتى لو ادى الى الكفر بالله، وفي هذه الحالة فقهاء سلطان البلاط التاريخي جاهزون للافتاء لتبرير الكفر. اننا امام عينة سودانية شكلت ظاهرة تاريخية، وهي بحاجة اليوم اكثر من اي وقت مضي الى دراسة آليات تكوينها.. عقلها.. مصدر انتاجها للمعرفة، ومن ثم فهمها ووعيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والاخلاقي ان وجد، حتى يسهل التعاطي والتناظر معها في بحث الحقيقة السودانية أين تتمظهر وتتموقع.
وعلى بينة استقرار مؤشر الحوار الوطني، رغم عنف الخطاب السوداني بين الاطراف جاءت عسكرية او مدنية، يلحظ مما تقدم ان هناك مشروعين، اولهما هو مشروع «الوثبة» الذي يمثل البلاط السوداني التاريخي والقوى المتحالفة معه، الذي دعا اليه الرئيس السوداني. والثاني هو مشروع «القوى الوطنية» الدولي – ان جاز التعبير- الذي انعقد مؤخرا في فرنسا لبحث قضايا السلام في السودان. وبمقاربة المشروعين نجد ان الاول، بما ان مصدره السلطة وتحت مرجعية السلطة محل النزاع، افتقر لاهم عنصر من مقومات الحوار الوطني، وهو عنصر الثقة الذي لم تسع السلطة لوضع اطار يؤهلها ويدفع الحقل السوداني لبحث القضايا الوطنية، من خلال آليات معروفة ومعلومة لمن يود الخوض في بحث قضايا الازمة السودانية، وهو الشيء الذي دفع العديد من القوى السودانية الى التشكك، بل العزوف ورفض مبادرة الرئيس منذ بواكير طرحها، كل حسب مسوغاته التكتيكية او المبدئية لشكل التحول او التغيير الذي يجب ان يقع بقوانين الحتمية، ومع هذا وبمرور الايام تكشف ان «وثبة» الرئيس كانت تسويفية، بل تحولت الى خطاب سياسي اكثر من كونها فعلا وطنيا، والغرض كان لغاية
امتصاص حالة الاحتقان الداخلي السوداني، وتعليق القوى المتهافتة للسلطة في توهيمات وتوظيفها لاعادة انتاج نظام الحرب نفسه بسيناريو انتخابات او انقـــــلابات كلها فاقدة للشرعيـــة، للحفاظ على نسق بنية النظام السياسي والاجتماعي السوداني، ولو بتحالفات اخرى ضرورية كجزء من اعمدة نظام التمــــركز، حتى تضمن استمرارية بنية «تابو» التمركز التاريخي القائم في السودان، ولو بأدواته الحــربية ضد الشــــعوب السودانية، كما تجري الان، وهذا امر معلــــوم ومفروغ عنه.
وبموازة مشروع «الوثبة» الذي توقف وتعطل، بل فشل، جاءت خطوة الجبهة الثورية في نقلة مهمة للتأسيس أو قل نواة لبلورة حوار وطني جديد حول قضايا الوطن السوداني، بمشاركة كل مكونات الدولة ضمن الترتيب النهائي لمؤتمر «ستراتسبورغ» الذي من المتوقع ان يواصل مشاوراته واتصالاته، بمساندة الاتحاد الاوروبي كقوى دولية مراقبة ومشرفة قد تكون مهمة لدفع او اجبار القوى المهيمنة للخضوع والاقرار بحقائق التحول والحراك، الذي وقع بالسودان والذي بموجبه لا يسمح مجددا ببقاء كيان الفشل والانحطاط التاريخي مستمرا. من شأن مؤتمر كهذا وقف العبث والتسويف بالقضية الوطنية السودانية داخليا، فضلا عن انه يمثل المخرج الوطني تحت اجندة وطنية تحاول ان تجمع الشعوب السودانية تحت مشروع وطني جديد يؤسسس لمواطنة حقة لا ممنوحة او خاضعة لمعايير وتقدير «الاخر». تكييف هذه المواطنة والنظر اليها بهذه الطريقة يمثل المعيار الاهم في تقاسم خيرات السلطة والثروة والاجتماع والدين بين الشعب السوداني، وتلك من اهم اوجه الازمة السودانية التي لا يمكن ان تحل الا بالحديث بشفافية واضحة حول بنية السلطة السودانية ومكوناتها، وهو الرأي الذي من المتوقع ان يتبناه الاتحاد الاوروبي في مؤسساته المختلفة، لدفع السودانيين لحل ازمتهم. اننا في الحقيقة امام ميدانين متقابلين ومتصادمين، وكل له شرعيته ومشروعيته، مشروع قوامه استنساخ نظام التمركز السوداني بحلول تجزيئية، يقابله مشروع قوامه تفكيك التمركز او التوصل معه الى تسوية تاريخية تسمح باحتوائه بشروط جديدة، لتجنب الحرب كخيار نهائي لحسم القضية السودانية، وفيها من باب المؤكد ان يكون البقاء للاقوى، وليس مهما من اي جانب، وعلى المهزوم حينها ان يستسلم لشروط المنتصر.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين