د. الطاهر الفكي
الذين يظنون أن البشير صادق أو جاد فيما يقوله عن محاربة الفساد فعليهم مراجعة أنفسهم. على كل حال فهو رئيس الجمهورية. و معروف بالتهور و العنتريات و اصدار قرارات هوجاء و بليدة يصعب حصرها. فما يُصدَّق منها و ما لا يُصدَّق من قرارات سابقة كانت وليدة الهياج اللحظى فالبشير يعلم فى قرارة نفسه ان لا أحد يصدقه الا المطبلون. ً و ما لم يتم تحقيقه و واجه النقد لم يعره أى اهتمام و واصل مسيرة الكذب كأن لم يكن من شيء.
فعندما يهرج الان ليعلن تصديه شخصيا لمحاربة الفساد، ينصب فخا لنفسه كثرت حوله التسريبات و الإشارات الى استياءٍ عام بما في ذلك فى أوساط المؤتمرالوطنى، و عن انزعاج بين المقربين منه. كل ذلك يشير الى أن الفكرة ما هى الا أفيون يخدر به الشعب و يسحب به البساط من أى جهة مستقلة لتولى الملف لانه شخصيا رأس الحية فى تأصيل الفساد فى البلاد. لذلك رمى تلك الجمرة الملتهبة لتحرق أيدى كل من يريد الاقتراب من هذا الملف المستعصى و المزمن.
فالبشير خلال الحصار الاقتصادى مكن مفاصل الاقتصاد لشلته من الفاسدين من الحركة الاسلامية مقابل ما وفروا لنظامه من مليارات الدولارات. و المشكلة ليست فى توفر الادلة و هى كثيرة, و ليست فى المجرمين و انما فى البشير نفسه الذى صار يتجاهل بصورمتعمدة كل الصرخات لفضح الفساد و المفسدين لانه يعتبر تلك الصرخات جرأة و هجوما عليه شخصيا و خطرا على نظامه. فان يعتبر الآن أن مهمة شلة الفساد قد انتهت أو هي في صدد الانتهاء، و حان التخلى عنهم بان يوجّه لهم ضربتين أولاهما بتقديمهم كباش فداء و ثانيهما الاستفادة من أموالهم التى يتحللون عنها أو يصادرها, فانه أما مخادع أو أراد الانتحار. فالذين سارعوا لأسباب متفاوتة الى تصديق نواياه أصابهم الاحباط حين علموا باعتقالات طالت بعض الفاسدين ثم تم الافراج عنهم نتيجة تضارب المصالح بأن أصدقاء اليوم يصيرون أعداء الغد، والعكس كذلك. لذا فالقطط السمان يعلمون هذه الحقيقة و ليست لهم أى ثقة فى النظام مخافة أنقلاب الامور فجأة لظروف لم تكن في الحسبان. لذلك فقد اعدوا عدتهم لهذا اليوم و لن يستسلموا بسهولة
القطط السمان و فاسدو الحركة الاسلامية يعلمون أن البشير لن يتراجع عن التزاماته لهم لأن بيدهم أوراقا تدينه وتفضحه. اذا يعلمون أنه لا يريد أكثر من السمسرة بموضوع الفساد كمخدر و أفيون لنقل الاهتمام الشعبى بعيدا عن شبه الانهيار لنظامه و الدعاية لاعادة ترشحه للانتخابات فى 2020 و لا يهتم بتحديات القرار و تداعياته. فهو يلتقي مع صلاح قوش على دوافع العمل سويا اذ كلاهما غارق فى استغلال موقعه فى الثراء الحرام، و لن يذهبا أبعد من التصريحات. وهناك ناصحون قريبين من الرئيس بعدم أطلاق الحبل كليا فى يد قوش لنواياه المعروفة، و قد فسّرت جهات لها وزنها مهادنة البشير لصلاح قوش بأنه يرمي على المدى البعيد الى استغلاله للتمهيد و الاعداد لتعديل الدستور ليترشح لولاية جديدة. و لما لصلاح قوش من معلومات عن فساد الذين يريدون ألا يترشح البشير مرة أخرى يسهل ابتزازهم بها و لى أذرعهم.
من يظن أن البشير قد تبنّى مواجهة القطط السمان و يستعدّ للوصول الى غاياته مهما كانت النتائج فاما واهم أو غافل عن ادراك طبيعته الثعلبية. فحتى ان أراد المضى فى خطه فالمؤكد أنه لا يملك حرية الاختيار و لا يستطيع التخلص من هيمنة الفساد الذى هو أسه و ركيزته. و لأن النظام ضعيف من الداخل و سمح للفساد أن يتغلغل حتى تمكنت القطط السمان, فالان لا يقدر على التحكم فيها و القضاء عليها شبه المستحيل الا أذا قرر البشير الانتحار. أما الشعب فعليه أن يتعايش الى ما لا نهاية مع نظام على رأسه فاسد أو يسعى الى تغييره.
و أن كان هنالك بعض من الصدق فى توجه البشير فليس من الواضح كم من الوقت سيستغرق؟ و هل سيحرص على ترتيبات تستثنيه و أسرته من ألافلات و التحايل على الأجراءات؟ أسئلة كثيرة ستبقى بلا إجابات لفترة طويلة مقبلة تمتد الى ما بعد انتخابات 2020 ان قدر لها ان تقوم. و ما يدور الان يجعل البشير فى موقف الطرف الضعيف من حيث فاعليته فى القضاء على الفساد يضطره الى الاعتماد كليا على اجراءات أمنية يمهدها له صلاح قوش بكل سلبياتها التى لن تحقق نتائج ملموسة على الواقع و انما تمهد الطريق الى القطط السمان ليتحولوا الى قوى مناوئة للنظام ان لم يتراخي و يعرض عن ذلك. و من يعتمد على الفساد و المفسدين و مكنهم في السابق و مهد لهم فسوف يعاود تمكينهم لتوظيفهم مرة أخرى بعد الانتخابات.
الذين كانوا يدعون الي التصدى للفساد بصدق و ليس من أجل المناكفة السياسية قابلوا الاجراءات ببرود شديد و أحباط و خيبة لعلمهم أن البشير ليس مؤهلا للقيام بالمهمة. و اعترافه بالفساد عزز لاتهامهم له شخصيا و للحركة الاسلامية و تعريتها. الجانب الايجابى لهذا هو فتح المجال لهندسة رؤى سياسية جديدة تحدد دور المعارضة فى المستقبل السياسيى للبلاد يدفعها الى مراجعة حساباتها و إعادة النظر في تقاسم السلطة مع الحركة الاسلامية أن نجحت القرارت، لا يورّطها فى انقاذ البشير من السقوط و لا يقلل من حسّها بالمسؤولية تجاه الشعب. مع العلم أن الاجراءات قصد بها خطوات استباقية لتنصب فخّاً لاصطياد الذين يعارضون تعديل الدستور لاعادة ترشيح البشير لولاية جديدة و بالأخص ضد مشاكسين عليهم أن يضبطوا خطابهم العام عاجلاً أو أن تمتد اليهم أيدى صلاح قوش فى مواجهة تتفجّر ليس لهم فيها من نصيب.
السودان لا يملك حصيلة من العملات الحرة و لا ينتج ما يثير الاهتمام في العالم. و بدون حصته في قليل من الذهب فالبلاد ليست الا دولة تستهلك أكثر من رصيدها النقدي، وتعجز عن توفير العملات الحرة لاستيراد الدواء و السلع الاساسية و دفع رواتب العاملين و موظفيها بصورة منتظمة. و ليس من نموذج يتبعه البشير ليخوض به حربا ضد مافيا المفسدين، و ضد ترسانة هائلة من الاجهزة الامنية ولغت فى الفساد ليست لها أى مصلحة لخوض صراع يرتد عليها و عليه، إلا إذا كانت لدى البشير نوازع انتحارية قاهرة.