الانقلاب العسكري على البشير: بين التوقع والاستبعاد

بقلم صلاح شعيب
عدد من المحللين، وخبراء السياسة، أجمعوا على أربعة، أو خمسة سيناريوهات تتعلق بمستقبل مسار النظام السوداني الاستبدادي. مما يبدو ضمن هذه السيناريوهات أن طريق التوافق السلمي الوطني يتعقد يوما إثر يوم، مثلما أن الثورة الشعبية المماثلة لثورتي أكتوبر وأبريل ما تزال بحاجة إلى جهد مخطط، وحراك لم ينضج بعد. اما اقتحام الحركات المسلحة الخرطوم فما يزال محل شك على ضوء تراجع قوتها بسبب انتصارات مليشيا حميدتي. وفرضية وقوع الانقلاب العسكري سواء المدعوم من ضباط إسلاميين ناقمين على الوضع، أو قوى أخرى أيضا، تبقى محل جدل. أما فرضية حدوث “الفوضى الخلاقة” التي يتوقعها آخرون بحسب أنها تعني دخول البلاد في حالة من الصوملة فهي أيضا رهينة المستق

بل.
ومهما كانت هناك سيناريوهات أخرى قد تضاف، فالمؤكد أنه لا يوجد أدنى شك في أن هناك سيناريو ما ربما يفاجئ سدنة النظام، والسودانيين يوما. فحال النظام إجمالا يكشف الآن عن تخبط في الحكم بصورة عميقة أكثر من ذي قبل. فمؤسساته فشلت في تحقيق الاستقرار السياسي، والأمني، والاقتصادي، والاجتماعي، وخلق إجماع وطني، وتحقيق العدالة، والتنمية، وإنجاز علاقات إقليمية ودولية فاعلة يكون لها مردود ملموس في كل بنى المجتمع. أما من الناحية الأخرى فالقوى السياسية التي تطرح نفسها كبديل ما تزال عاجزة عن خلق مظلة قومية واحدة كما هو الشأن عند كل لحظة فارقة في تاريخ التغيير السياسي السوداني. فالأحزاب التقليدية انتهت – بناء على أسباب موضوعية – إلى جهات أشبه بالمراكز الثقافية، أو الفكرية. إنها تصدر بيانات، وتعقد ندوات، وورش عمل، ومؤتمرات صحفية، وتعقد تضامنات هنا وهناك مع جهات متظلمة، ولكنها لا تفعل أكثر من ذلك. بل إن طبيعة الاستبداد المتعاظمة في البلاد تحاصر حيويتها، وفوق كل هذا استقطب النظام عددا من كوادرها، وشتت شملها، فضلا عن هجرة خيرة كوادرها.
على ضوء الإرهاق الذي أصاب النظام، ومعارضته، وعدم تبلور قدرات الكتلة التاريخية لقواعد المواطنين فإن هناك كثيرا من الكتابات لامست في الفترة الماضية فرضية وقوع الانقلاب العسكري على البشير آن عاجلا أم آجلا. ذلك بحسب أن الأوضاع تتدهور كل يوم في كل المجالات، وأن البلاد تعيش في ما يشبه الانهيار الاقتصادي. والحال هكذا تضرب سياستها الخارجية خبط عشواء، تارة ذات الشرق، وذات الغرب تارة أخرى. ضِف أن قمة الاهتمام الجمعي للسودانيين الآن تتمثل في البحث عن أي نوع من الخلاص من نظام فعل ما فعل بهم.
وبرغم أن هناك من يرى أن كل السيناريوهات المتعلقة بمستقبل النظام ما تزال واردة الحدوث فإن هناك الكثيرين الذين استطلعت رأيهم يستبعدون الانقلاب العسكري على ضوء سياسة التمكين التي بذلها الإخوان المسلمون. إذ بدأت الحركة الإسلامية في إدخال كوادرها في الكلية الحربية منذ العام الثاني للإنقاذ وهذا يعني أنها أقامت مصفاة لكل المتقدمين لنيل الشرف العسكري. وعليه استبعد الإسلاميون بعضا من اشتموا فيهم رائحة أيديولوجية. وبالتالي فإن هناك خبراء عسكريين يستبعدون قيام انقلاب بذيول وطنية مستقلة، أو أيديولوجية يسارية، ويرجحون أن هذا النوع من الانقلاب انتهى بنهاية تسييس القوات المسلحة، والتي أصبحت أداة من أدوات حكم الاخوان المسلمين. ولكن لا يستبعد بعض هؤلاء الخبراء أن تكون هناك محاولات لشباب إسلاميين للمغامرة، ومن ثم الإطاحة بنظام البشير بدعوى أنه فشل في تحقيق نظام إسلامي حقيقي كما قد يظنون. ويرون أنه مثلما كانت جماعة العميد ود إبراهيم تنشط لتحقيق ساعة الصفر قبل اكتشاف خليتها السرية فإنهم يتوقعون أن ارتباطات هؤلاء الضباط الإسلاميين الكامنين بالآلاف داخل الوحدات العسكرية لا بد أنهم يتأثرون بحركة الواقع السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، ويتداولون الرأي وسطهم اختلافا واتفاقا، وربما كانت لديهم قروبات في الواتساب سرية. وأضاف لي لواء، أ. ح، متقاعد أن “..العساكر عموما فصيل أساسي داخل الشعب السوداني، وأنهم يتعاطون الحديث في السياسة في كل لحظة، وإلا لما حدثت ثلاثة انقلابات ناجحة في تاريخ البلاد..بالإضافة للانقلابات الفاشلة”.
أحد الضباط المحالين للمعاش، حكم عليه بالإعدام في التسعينات، قال لي إن هناك صعوبات جمة إزاء حدوث انقلاب عسكري على نظام جاء بانقلاب مماثل. وحجته في ذلك أن معظم الانقلابات الفاشلة في تاريخ البلاد حدثت تحت ظل الأنظمة الديكتاتورية. وضرب لي مثلا بانقلابات عديدة حدثت في فترة عبود، ونميري، وأشار أيضا لمحاولتي انقلابي ضد النظام القائم.
وبشان الانقلاب المدعوم من الأحزاب أشار مصدر آخر إلى أن النظام استغل انفتاح العمل السياسي للأحزاب، ووجد سهولة في اختراقها، مشيرا إلى أن أسرارها غير مؤمنة. ولذلك استفادت الحركة الإسلامية من اختراق حزبي الأمة، والاتحادي، خصوصا، منذ فترة الستينات، وأدخلت كوادرها في التنظيمين، والذين دعموا الإنقاذ من موقع انتمائهم الأصيل للحركة. وقال إن هذا الاختراق ما يزال ماثلا، وتعددت طرق التجسس حتى على الضباط، ولذلك يستبعد أن يحدث انقلاب ضد النظام من خلال كوادر أنصارية، أو ختمية، إن وجدت متخفية. بل يقول المصدر إن النظام دجن الموجودين من الضباط المستقلين، وكذلك الذين أدرك انتماءاتهم الطائفية. وأضاف أنه حتى لو حدث انقلاب ذي طبيعة إسلاموية فسيكون صوريا، ولكنه عاد فقال إن التحدي الكبير لأي شكل من انقلاب ضد البشير لا يعدو – إن حدث – إلا أن يبقى مثل انقلاب مشابه لما حدث في زيمبابوي دون أن يكون هناك تغيير هيكلي في بنية السلطة.
حميدتي والذي يقوم مقام القائد العام الفعلي لقوة التجييش الحكومية يمثل معضلة جديدة ربما تواجه الذين يفكرون في احداث انقلاب. فـ”الرئيس البشير الذي يشرف مباشرة على هذه القوة، وتكتسب أهميتها من منتهي دعمه لها، كان ذكيا حين لم يحدد تمركز قوات الدعم السريع في العاصمة. فحركتها السريعة حول المدن السودانية مقصود منها انسيابية الحركة حتى إن انقلب أحدهم على البشير جاءت من الخلاء لتحاصر أي انقلابي في الخرطوم بعتادها” قال هذا أحد الضباط المتقاعدين.
إذن تتنوع رؤى الخبراء العسكريين. ولكنها لا تستبعد أي شكل من أشكال الانقلاب على البشير بناء على معطيات متعددة تتخلق في رحم الغيب. والسؤال هو إلى أي سيناريو يسوق النظام السودانيين بعد انسداد أفق حلوله لأزمات البلاد من جهة، وفي ظل غياب حلول الإسلاميين السودانيين لورطتهم المستحكمة. ذلك في وقت تشابكت علاقة النظام بالصراعات المذهبية، والإمبريالية في المنطقة، ولم يستطع إلى الآن تحديد وجهته: الالتزام بشروط الحلف السعودي أم الحلف القطري، والى أي مدى سيسير في اتجاه تحقيق الطموحات الروسية، والصينية، الأمريكية، والأوروبية، وفق شروط الإصلاح داخل بنية السلطة، كما يطالب الغربيون تحديدا تحت دعوى ما يسمى “الهبوط الناعم”؟
كثير من القرّاء يعتقدون أن هناك ضرورة لكل كاتب صحافي لوضع روشتة للخروج من مأزق هذه السيناريوهات، بعضها ذات كلفة سهلة، وبعضها صعبة. ولكن الحقيقة هي أن النزاعات التاريخية للشعوب تحل عبر توفر إرادة جمعية صلبة مثل التي حققتها شعوب كثيرة من حولنا. وهذه لم تتوفر لنا طيلة سنوات ما بعد الاستقلال نظرا لغياب جدية المثقفين، والذين يمثلون رأس الرمح في كل تغيير. ولو أن وجود فاعلية للمثقفين تمثل مدخل الحل لمقاومة الاستبداد، والسلطات الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي دعمت الانقلابات العسكرية الثلاثة فكيف السبيل لوجود ميكانيزيم لإنجاز الحلول التي يتطلع إليها القرّاء الكرام. ولكن الأهم من كل هذا أن منع تحقيق السيناريوهات ذات الكلفة الكبيرة المتعلقة بالأزمة المستعصية يحتاج فقط إلى استشعار المسؤولية من كل السوداني راشد حريص على مستقبل وضاء للبلاد. إذن فمتى يحدث هذا الاستشعار…هنا مربط الفرس؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *