الانتخابات لعبة خرطومية ؛ ولهذه الانتخابات استثناءات أربعة
ان انتخاباتهم الحالية بالنسبة للسودانيين مثل انتخاباتهم طوال خمسين عاما الماضية باستثناءات تالية. تجري تداول سلمي عبره للسلطة لكن خاص بين أقلية الجلابية صفوة أغنياء الخرطوم و التي تعيش وضعا اجتماعيا واقتصاديا مميزا عن جميع السودانيين الفقراء المحرومين ؛ أو في إقليمهم الجغرافي شمالا والذي ينعم دون غيره من أقاليم الحروب والنزوح بالسلام والأمن والاستقرار. حتى وهم في المدن الأقاليم المحرومة هم الطبقة الغنية الحاكمة .
تعيش الأقلية حتى في عواصم البلدان الأخر يستمتعون فيها بكل أسباب الراحة في ماليزيا ودول الخليج والقاهرة ؛ بالمقابل يعيش السودانيون ضحايا سياسيات التميز العنصري نتائج حرب دولة : نزوح ولجؤ وفقر و أمراض وسؤ المعيشة وتخلف وأمية وجهل .
انتخابات اليوم في الخرطوم كما هي لنصف قرن مضى مسالة تخص الجلابة لا تخصنا في السودان . والانتخابات ضمن مسائل أخرى كركوب الطائرات وسكن العمارات تعنيهم لا تعنينا ؛ ونحن السودانيين لا نزال نعاني الأحوال المعيشية والاقتصادية الصعبة ؛ ونعيش آثار الحروب المدمرة والتخلف الحاد ؛ ونسعى لحماية رؤوس أبقارنا وأغنامنا من غوائل الطبيعة ؛ ونعمل في مزارعنا من ان نعيش و لندفع منها جباية للدولة كي نعيش آلاما وأوجاع حادة لا تخففها عنا سوى أغانينا وأصوات النقارة التي هي من إنتاجنا.
مثال الحال الذي كان يقوم بها الافريكانوز البيض في جنوب إفريقيا كانوا يجرون الانتخابات ويحرمون السود من السكان الأصليين من الترشح أو التصويت إذ ان قوانين اللعبة بيدهم ؛ ويفوز بحكم المستعمرة السوداء من يفوز بأصوات البيض . المعادلة في الخرطوم بالضبط ما في جوهانسبورغ مع تغير طفيف هو انه يحق للمجولبون ( السودانيون المخدعون في بصيغة الدولة الأجنبية ) بالمشاركة في انتخاب السيد الجلابي .
يتساءل أهالي قرى اديكونج و برونقا أو دوكا وتمبلة عن معنى كلمة (الانتخابات) وتنطقها العجائز (انتقامات) كما (انتفاخات) للاتفاقيات؟ وما الجدوى من أي منهما في الأساس ؟ . قد سمعن ببعض تلك الأشياء ربما من أحاديث الأبناء العائدين من الجنينة والقضارف بعد التسوق . فليس بتلك القرى أجهزة تلفاز أو حتى كهرباء أصلا لتوصيل جهاز التلفزيون ؛ ولن تصل إليهم الإصدارات الصحية أو يزورهم صحفيون؛ ليس بالقرى من يقرا ليعرف ما كتبته الصحافة الخرطومية أصلا . ولم يتعرف القرويون على مخلوقات مثل (السياسة ؛ والاقتراع ؛ والمرشح ؛والحزب و قصر غردون) ومن في الأخير ومن سيدخله .
وعلى أية حال فان تلك الأشياء (التلفاز ؛ والكهرباء ؛ الصحف ؛ قصر غردون……. ) في حاجة إلى شرح وشرح استخداماتها في الحياة الدنيا كما الانتخابات والتصويت والترشيح لأهالي قرية برونقا والقرى الأخرى.
وبالمناسبة فان سكان برونقا سودانيون أصليين؛ ويتمتعون بكل الحقوق في الترشيح والانتخاب لو تكون لهم دولة ولو يجرون لأنفسهم انتخابات نزيهة وديمقراطية ؛ لكن خمسين عاما حرموا منها حينما حرموا من أشياء أساسية تسبقها ؛ تعليمهم وكرامتهم ومساواتهم والعدالة في توزيع الدخل (القومي )بدولتهم . برونقا مثل ملايين من السودان لا تعنيهم الانتخابات ولا تعني لهم أي شئ . برونقا واديكونج مثال لفوق 15 ألف قرية في السودان تضم فوق أربعين مليون سوداني لا تشملهم انتخابات الرئاسية ؛ وان شملتهم الانتقامات الرئاسية .
لا تعني لنا الانتخابات اليوم أي شئ ؛ كما لم تعني لنا في السابق أي شئ ولا تعني لنا نتائجها واجراءتها السابقة لولا الاستثناءات التالية . وعلى العموم كوني ضمن السودانيين أعي سلفا ما هية هذه الانتخابات ؛ واعي ان النتيجة سيفوز فيها رجل من سلالة التجار الجلابة في الخرطوم ؛ ويستمر وظيفة المستعمرة الجلابية فوق أرضنا من اجل تدميرنا وإفناءنا ؛ وأي من الفائزين فيها سيمضي قدما في تنفيذ إستراتيجية دولتهم ذات المحورين:
1.تمكين الجلابة الشماليين في السلطة والثروة.
2.تدمير الطاقة البشرية والاقتصادية للسودانيين.
أربعة ملاحظات استثنائية ؛ يجدر إبداءها في هذه الانتخابات الخرطومية التي هي الأول في الألفية الإفرنجية الجديدة ؛ ملاحظات ما تجعلها تختلف عن الانتخابات التي سبقتها ؛ وكذالك عن القادمة و الملاحظات تجل انتخابات الجلابة استثناء عما سواها :
الاستثناء الأول :
مشاركة سكان الشطر الجنوبي لأول مرة وربما لآخر مرة في الانتخابات ؛ ويأتي مشاركتهم في الانتخابات تحت مبرر ديمقراطي مفهوم وهو ان الانتخابات الخرطومية هذه المرة تمهد لهم فرصة لممارسة حق طبيعي حرموا منها يتعلق بتحريرهم وتحرير أرضهم إلى الأبد من سيطرة اليقارشية الجلابة الشماليين .ستسفر النتيجة المترتبة للانتخابات الجلابية بالنسبة للجنوبيين إما استقلال نهائي بعد عملية “حق تقرير المصير جنوب السودان” و في هذه الحالة سوف يتمكن سوداني الشطر الجنوبي من حكم أنفسهم بأنفسهم لصالح أنفسهم مدى الحياة . وإما وحدة وفق أسس جديدة؛ ففي حالة الوحدة سيحكمون أنفسهم أيضا بأنفسهم إذ إنهم سيوافقون على وحدة الدولة وتأسيس نظام حكم جديد لا يكون فيها الإنسان الجنوبي مواطني من الدرجة الثانية في ارض عاش فيه أسلافه منذ الأزل ( أو بالأحرى الطبقة الخامسة كونهم زنج غير مسلمين) فقط لدينهم غير الإسلام ولعرقهم وثقافتهم الزنجية.
الاستثناء الثاني:
في هذه الانتخابات ؛ فقد تفضل احد الأحزاب الجلابية بترشيح (مجولب زنجي) من أتباعه تمهيدا لتقديمه لسدة الرئاسة (إذا فاز ). فقد تقدم حزب الشعبي الإسلامي ( من تيار اليمين الجلابي) بترشيح دينج نيال المعروف (بعبد الله) لخوض انتخابات الرئاسة في دولة الجلابة . فهو عب (بلفظة الجلابة) لكنه لله لا للجلابي ؛أو للعربي ؛ و في السودان الجلابة يعتقدون ان الله قريبهم. وعبد قريبهم عبدهم أيضا المعادلة واضحة.
ليس ثمة أي احتمال هنا لمناقشة هل فرصة أمام السيد دينج في إمكانية اشتمال برنامجه بندا جوهريا يتعلق بتغير أسس دولة الجلابة إلى دولة إنسانية في حالة نجاحه إذا نجح ؛ لكن بنقاش السيد دينج نفسه وبرنامجه الانتخابي يتضح استحالة عرض توفر كهذه له ؛ فالسيد دينج (وهو سيد رغم الجلابي) لا يتسابق مع الجلابة في ميدانهم بوعيه الطبيعي بل بوعي سيده الجلابي ويحمل فوق رأسه عقل ليس له ؛ وللعلم فقد تعرض السيد نيال دينج عبد الله خلال حياته لعملية غسل منظم لدماغه من كل رواسب تتعلق بأصله العرقي وثقافته وماضي أسلافه وحقوقهم الإنسانية والوطنية ؛ ثم مليئ عقله بقاعدة بيانات جديدة مشرقية عنصرية الطابع تعمل بعضها في مهمة عكسية ضد الإنسانية تضر بالسد دينج نفسه .
فمن هنا ؛ هل من المحتمل ان يعلن السيد دينج نيال عبد الله الجهاد ضد الكفار من بني جلدته الذين جريمتهم- طبيعتهم كبشر ليسوا متعوربون وليسوا متمسلمون – وقتما يصل إلى السلطة في دولة متعوربة بكونه أميرا للمؤمنين ؛ علما ان البلد الذي سيحكمه يضم غير المسلمين وغير العرب والمتعوربون وهم -بتعاليم عقل أمير المؤمنين الزنجي –بقاءهم مخالفين لتعاليم الله ومزعجين للسماء.
ولا يمكن للذاكرة السودانية ان تنسى ان المنظم ومزع الأفكار في برنامج أمير المؤمنين الزنجي هو السيد حسن الترابي ؛ وللترابي سيرة ليست حسنة في بلادنا -فحين قدم لحكم السودان قبل عشرين عاما أمير المؤمنين الراقص – لم يرض هو بمهمة راعيه كرسول يتلقى الوحي بأمر الحكم ؛ بل تسلق حتى بلغ نصب نفسه نائبا لله في الأرض ؛ وبفرمانا إلهيا مصدرا من السماء أعلن الترابي الجهاد المبيد ضد شعب هم بشكل دينج نيال ولهم جواهرهم الخاصة ؛ فأبيدوا أبرياء وكان النائب الإلهي يضحك؛ و لم يتمكن الضحايا ان يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون.
لن يختلف كثيرا دولة الترابي -دينج عن دولة الترابي- البشير؛ عن دولة البشير- طه ؛ فجميعها قدمت من رحم فكرة (دولة المدينة للترابي) ؛ ويمثل العشرين عاما الماضية الاسؤ من نوعها في تاريخنا هي احد تجارب حسن الترابي الذي جعل شعبنا فئران تجارب وأرضنا حقل للأفكار الدينية .
للسودانيين يشكل ؛ ترشيح دينج عبد الله احد الصور المخادعة للمتذاكيين الجلابة ؛ إذ قدم الرجل لقبيلته الزنجية وللونه الأسود ولم يقدم لفكره وراية وذلك محرج لدينج نيال وليس مفخرة للدينكا .
الاستثناء الثالث :
ان الانتخابات الحالية تجري في ظل حكم دكتاتور مطلوب دوليا لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة . والجنرال سوف لن يترك جلابي آخر يفوز بالانتخابات سلفا يعلم انه سيقوم بتسليمه إلى الجنائية الدولية . ومنذ البداية اخذ الجنرال يجعل من الانتخابات برنامج خاص لحماية نفسه من الملاحقة والمسائلة التي تجري بحقه بسبب دارفور .
وقد أسفرت عمليات الملاحقة الدولية المحمومة من المحكمة الجنائية إلى خلق عزلة دولية ومقاطعة عامة للجنرال ؛ وصار السودان مقبرة السودانيين يشكل له المكان الوحيد الآمن في الكون ؛ ويشكل رئاسته السودان البرنامج الوحيد لحماية نفسه من جرائم نفسه .
ويعيش الجنرال البشير حالة نفسية يدنو به إلى حد الجنون ؛ ويظهر ذلك في سلوكه وتصرفاته نحو المقربين إليه ؛ وخطاباته المضطربة تظهر الهلوسة التي يعيشها الرجل ؛ فالجنرال البشير مع احتفاظه بكامل غبائه الذي عرف به منذ عشرون عاما وهو يرسل خطاباته العامة الشاتمة للسودانيين بدا يظهر استعدادا غريبا للسقوط بالسودان كله في آخر الهاوية وسحق ما تبقى من حياة المواطنين في المدن الأخرى ؛ نموذج لذلك خطابه الأخير في جلاب سنجة.
من المحتمل ان دماء الضحايا الأبرياء من القرويين في برنقا واديكونج من ماتوا دون حق بيد الجنرال شكل هلوسة دائمة. لحظات من الهلوسة والهلع سيطرت على الرجل ؛ ونوبات من الفزع تتكرر وهو يتقدم للفوز بولاية جديدة وهذا يجعل أمر إكمال ما لم يكمله في دفتر الإبادة الجماعية بالسودانيين محتوم ؛ وهي مسالة زمن فقط ؛ وحتى شكل إيقافه هي احد إجراءات مسلسل الإبادة المقبلة في بلادنا كما تقول هلوساته. الاستثناء انه لأول مرة يتقدم رجل دكتاتور ومطلوب للعدالة الدولية ومشهود له بالإجرام يتقدم لإعادة انتخاب نفسه وهي مسالة لم تحدث من قبل في دولتنا المستعمرة.
استثناء أخير :
عادة تكون الهدف من انتخابات الجلابة هو اختيار جلابي خرطومي برنامجه يتمحور حول السيطرة على المستعمرة وهذا يعني وضع سرج جديد فوق ظهر السودانيين المحرمون والضحايا ؛ أي ان الفائز سيكون أفضل السيئين للجلابة؛ وهو الاسؤ بالنسبة للسودانيين؛ وذلك تجعل من انتخابات الخرطوم عكس ما هو في انتخابات المتبعة في الأمم والشعوب الأخرى بمعنى آخر ان الجلابي الفائز هو أكثرهم تقدما في النفاق والدجل والكذب والاهانة للسودانيين .ومن هو أفضل شخصية من الجنرال الراقص في قائمة المرشحين.
كي تكون هذه الانتخابات مدخل لانتقال نهر الدماء المتدفقة في دارفور إلى الخرطوم ؛ وتلك مسالة مفهومة وتجد تأييد سوداني ؛ فشعبنا لا يمكنه ان ينتقل مرة أخرى وإلى مرحلة جديدة داخل نهر الدماء دون مشاركة الجلابة ؛ نقل النهر إلى الخرطوم يمكن ان يساعدنا في وقفه نهائيا . لأول مرة تلوح في الأفق بوادر تغير قد تكون مقدمة للفوضى الخلاقة التي هي بدورها مقدمة للمباراة النهائية . وهي فرصة لم تتوفر في الانتخابات الجلابية الماضية.
منعم سليمان
مركز السودان المعاصر