الاغتيال جريمة تخالف الثقافة السياسية السودانية

محجوب حسين

جري خلال الايام الماضية حدث اقليمي مهم، بحيث يمكن ان يشكل سانحة لتتبع مساره ورسم منحنياته وانعكاساته على السودان، لولا ان هناك ما هو اكثر الحاحا ـ في اعتقادي- من حدث الوضع الاقليمي العربي في المنظور المرتقب، جراء الخلاف القطري ـ الخليجي بزعامة الرياض، التي اتخذت اجراءات ضد منظومة حركات الاسلام السياسي في شبكاته العربية والعالمية، التي تحظى من وجهة نظرهم برعاية دولة قطر، في حين ترى شقيقاتها الاخريات ان ذلك يشكل تهديدا جديا لأمن وسلطات الخليج ،على اي حال هو صراع له ما بعده، وفيه قد يغير من اعمدة التحالفات العربية الكلاسيكية، بالاخص حول تحالف البيت الخليجي، الذي يعيش نوعا ما حالة من الثبات والوحدة، رغم التغييرات التي عصفت بالمنطقة بصفة عامة، والخليج العربي في محيطه الجيواستراتيجي بشكل خاص خلال العقدين الماضيين. هذا الخلاف القطري ـ السعودي سوف تتبعه حالة استقطاب حادة بين دول الخليج من جهة، ومن جهة ثانية بين القوى العربية الاخرى او الدولية المتحالفة معها او ضدها، او تلك التي تلعب لمصالحها بالضرورة، واول ردود الفعل التي نجمت عن اعادة التوازن في منظومة الخليج بين قطر والسعودية، رغم الفارق الشكلي او الموضوعي بين الامارة الطموحة والمملكة المتزعمة خليجيا واقليميا، هي تلكم الاجراءات السعودية الاخيرة ضد المنظمات الاسلامية، في ضوء قراءة جديدة للسياسية الخارجية السعودية بعد تجربة ‘ثورة’ الربيع العربي، قد تدفع بنشوء تحالف ايراني ـ قطري ضد تحالف المركزية الاقليمية التي تتزعمها السعودية ومصر والاردن ودول الخليج الاخريات، وبعض دول المغرب العربي، وفيه قد تعزل قطر عن محيطها وفلكها الذي تناور معه، وبالطبع الامر له انعكاساته على جميع المسارات العربية، لاسيما راهنا المسار السوري الذي اختلت فيه المعادلة، ويتبعه حتما المسار الفلسطيني وينضم اليه اللبناني مع المجال العراقي كمواقع مفتوحة للاجندات، في ظل الانتصار مصريا والتحكم فيه على الاقل مرحليا.
اما الان ومن بين اهم التداعيات سودانيا جراء النفوذ القوي لدولة قطر في السودان خلال السنوات الاخيرة، هو تصاعد الازمة المسكوت عنها مسبقا بين الرياض والخرطوم، بسبب التعاون الايراني السوداني على ساحل البحر الاحمر القريب من سواحل السعودية، حيث اشارت الانباء الى ان الرياض رفضت مرور طائرة الرئيس السوداني عبر اراضيها بغرض العلاج في الاردن، كما رفضت الاخيرة منحه التأشيرة لدخول اراضيها وهو الشيء الذي نفته الخارجية السودانية، وبالمقابل اكدته صحف سعودية في عناوين بارزة، في ذات الشأن اوقف، في اول سابقة، عدد من دول الخليج، ومنها العربية السعودية تعاملاتها المالية والبنكية مع السودان، مع شحنات محددة تتبع للحكومة السودانية، ومعلوم في هذا الاتجاه ان الامر الملكي السعودي رقم ا/44، الفقرة الرابعة الواردة في احد عشر بندا، القاضي بحظر حركات وتنظيمات الاسلام السياسي، مع مرفق لقائمة اولى واردة بالاسم عبارة ‘محظورة وقابلة للتحديث’، فضلا عن ذلك تعميم وارد في نهاية النص/القرار يتسم بالشمول والمرونة في التفسير، وتوسيعه وفق سلطة تقديرية في النص الذي يقول ‘..علما ان ذلك يشمل كل تنظيم مشابه لهذه التنظيمات، فكرا وقولا او فعلا، وكافة الجماعات والتيارات بقوائم مجلس الامن والهيئات الدولية عرفت بالارهاب وممارسة العنف’. ويتضح بقراءة المسكوت عنه في القرار/النص وفي مرونته الواقعة تحت السلطة التقديرية في التفسير، بدون الاشارة اليه نصا، ولكن يشمله كما يستشف من خلال روح النص، ان الحظر السعودي قد يشمل ايضا نظام عمر البشير، باعتباره احد الانظمة التي تدعم الارهاب وفق لائحة الخارجية الامريكية للدول الداعمة للارهاب، التي تجدد كل سنة، وبالنظر الى النص واللائحة الامريكية، نجد ان القرار يتعاطى مع اللائحة، ان لم يعتبرها ضمن مرجعياته في تفسيره الواسع، كما وضعه المشرع السعودي، الذي يريد من خلاله تحقيق تغطية كاملة لمشروعه الاستراتيجي، بدون التنصيص عليها حتى يرفع عن كاهله عبء التقييد والجمود، وبهذا يكون نظام حكم البشير، واستنادا الى الاجراءات الاخيرة، قد اصبح محظورا ضمن التنظيمات المشار اليها في القرار، او ما شابهها او الواردة اسمها ضمن اي مؤسسات دولية. ومن المتوقع ان يتزايد التصعيد ضد الخرطوم، خصوصا بعدما اكتملت مراسم ‘هجرة شيخ حسن الى منتجع كافوري مصدر الحكم’ والتأسيس او قل اعادة التأسيس لدولة التمكين الاسلاموية الثانية، بعدما اكملت الاولى رسالتها السماوية في ربع قرن، على امل ان ُتكمل الثانية دورتها في الربع القرن المقبل، وفيه نأمل وقبل بلوغنا بداية التمكين الثاني ان تسقط مؤسسة الدولة السودانية وتهزم التمكين الثاني لانتاج مساواة جديدة بين الشعب السوداني في قيم الخسارة، ما دمنا فشلنا في تحقيق المساواة في قيم الربح، ولا غضاضة ان الجميع متساو في الخسارة اكانوا اسلامويين يعملون ضد الاسلام وباسمه، او شيوعيين او ليبراليين او علمانيين او طائفيين اوعنصريين او هامشا او مركزا او بين سكان نازحين وسكان قصور او قتلى وضحايا حروب ومستمتعين واغنياء حرب الخ.
ومع اهمية ما اشرت اليه في السابق من مقدمات وتلاقيها في رسم الخريطة الكونتيرية للازمة السودانية التي يمسك بمفاتيحها حكام الخرطوم، الذين لا يسمحون بتسليمها قصد فك طلاسمها قوميا وشاملا، ثمة موضوع اخر غير الذي اشرت اليه، له اهمية قصوى وخطرة في نفس الوقت، والموضوع يخص ما تابعته صدفة من نقاش في احدى بوابات التفاعل الاجتماعي، وفي حوار مفتوح- رغم محدوديته- بين شباب سودانيين، اعمارهم يمكن حصرها ما بين 21 – 32 سنة، هؤلاء الشباب ابتدروا حوارهم او قل نقاشهم بمساءلات ذاتية تستنطق واقعهم الراهن في ظل غياب افق لمستقبلهم، لدرجة بعضهم يتساءل باحباط شديد ومؤلم عن عدم وجود معنى لميلادهم، ما دامت كل اوعية الاستقبال فاشلة في استيعابهم، وهم بذلك يقصدون الدولة، ومع ذلك ارجعوا الازمة السودانية الى الساسة وليس السياسة، واضافوا ان مستقبلهم كجيل في خطر ومعلق بفعل الساسة والامن والجيش والعسكرة، وتزييف الوعي والفساد والحروب، وانهم فقدوا الامل في الجميع، قوى حاكمة ومحكومة ومعارضة! مما دفع احدهم ليطرح السؤال المركزي بقوله ‘ما الحل؟ في ظل فشل كل الحلول؟’، ليعقب عليه اخر: ان الحل يبدأ باسقاط حكومة عمر البشير، وقناعاته تقول ان ادوات الاسقاط المجربة سودانيا فاشلة، وسنظل نحن اي هم في هذه النقطة الى الابد. مناشدا شباب جيله بالاعتماد على نفسه وابداع وسائل اخرى.
اول ملاحظة في متن هذا التفاعل او قل الحوار بالاستفادة من وسائل الاتصال، ان هذه الفئة من الشباب السودانيين ووفق تواريخ ميلادهم، اما ولدوا في عهد حكم البشير او استلمهم الجنرال اطفالا رضعا، وبالتالي المفترض انهم خضعوا لنظام تربوي تعليمي تأطيري عبر المناهج والشعارات الخاصة بالتكوين الانقاذي لصناعة عينة معينة من الاجيال، قوام هذه الصناعة الغاء العقل ومكوناته في التفكير والتحليل والانقياد كمادة او اجسام متحركة لتحقيق لاهوتيات شعاراتية غيبية، الغرض منها شد لحمة السلطة وحماية عرش البابوية الاسلاموية السودانية. والطبيعي في هذا ان تعضد هذه الفئة من قوة السلطة واستبداديتها لا تعارضها ما دامت هي جزء من تكوينها، والاخطر ما في هذه التدوينة هؤلاء الشباب، الذين كفروا بكل شيء، قد يمثلون عينة عشوائية تعبر عن السواد من السودانيين ومنحنى زاوية قياس تفكيرهم، هؤلاء يريدون البحث عن مخرج للازمة السودانية التي اغلقت وعقدت مستقبلهم، ليس عبر الوسائل المعروفة الثورية او السلمية وانما عبر فكر الاغتيالات، وهو فكر انحرافي اجرامي تماما، لا يعالج الازمة بقدر ما قد ينتج ازمات كبرى في البلاد تنهي حتى الامل في اي مستقبل لهم او لغيرهم، اما منهج ادارة الصراع السياسي السوداني عبر فكرة الاغتيالات فهي ثقافة سياسية لا تجد لها مرجعا في ادب الصراع السوداني الحديث، ان لم يكن القديم نفسه، الا ان هناك مسببات دفعت هؤلاء الشباب لهذا المنهج الانحرافي في التفكير، واهمها بنية العنف المؤسسي الذي جسدته الدولة عبر اجهزة عديدة، ولغة التصادم والحرب والقتل والبقاء للاقوى وليس الاصلح، كما تزعم بعض الايديولوجيات، لان الدولة كلها اصبحت عبارة عن مقاطعات للعنف، وشرعية السلطة نفسها تستمد من عنف الافراد والاشخاص والجماعات واجهزة مليشات الحزب، لا ارادة الشعب الاختيارية والطوعية، انها ‘ردة’ اختفت فيها كل شروط البقاء والموضوعية والعقلانية في مشروع الدولة السودانية، التي وزير دفاعها الحقيقي هو زعيم احدى الميليشات. ان المرحلة القادمة ليست للاعداد للحوار او الانتخابات او… وانما الاعداد والتجهيز للحرب الاهلية السودانية، وهنا تصح نظرية البقاء فيها للاقوى حيث اللادولة وغياب البديل الواقعي الموضوعي. وحتى لا يصل السودانيون لهذا الدرجة التي يفكر فيها هؤلاء الشباب في اغتيال ‘رأس البلاد’ كمخرج لازمتهم وازمة مجتمعهم، وفي الحقيقة تعميقا لازمتهم وازمة مجتمعهم السوداني، نعم الرئيس وفكر الاسلامويين السوداني اجرما في حق الشعب. والرئيس قد يحاكم اليوم او غدا، لذلك ليست هناك حاجة للترويج لمثل هذه الثقافة التي قد تجد سبيلها الى الواقع الاجتماعي السوداني المسلح في اغلبه والجاهز للقيام بامر كهذا، متى ما وجد التغذية وان كانت الحكومة عملت به في وقت سابق، ولكن بذكاء شديد كما حصل في عملية اغتيال زعيم ‘دينكا نقوك’ لتصفية صراعات حول منطقة ‘ابيي’ الغنية بالنفط، واعادة التوازن الديمغرافي فيها بدون استقطاب اطراف تعتبرها الدولة السودانية معادية.

كاتب سوداني مقيم في لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *