د عمر القراي
الاتفاق الذي تم صباح الجمعة 5 يوليو 2019م، بين قوى الحرية والتغيير، والمجلس العسكري الانتقالي، ما كان له أن يحدث، لو لا الجموع الهادرة، التي خرجت في 30 يونيو، بالملايين، في العاصمة والاقاليم المختلفة، بصورة أدهشت كل من شاهدها عن قرب، أو نقلت له عبر كثير من الوسائط، والقنوات الإعلامية.. وفاقت كافة التوقعات، لأكثر الناس تفاؤلاً، وثقة بهذا الشعب العظيم.. وكان ذلك الإجماع يطالب بالحكومة المدنية، وبتنحي العسكر تماماً من السلطة!! ولم يغب عن فهم المجلس العسكري، بعد مليونيات 30 يونيو، أنه لا يمكن له أن ينفرد بالسلطة، أو يخلق حكومة مصطنعة من الإدارة الاهلية، وفلول النظام السابق، أو يفتعل انتخابات عجولة، بدعوى أن البلاد تعيش فراغاً سياسياً، أو يستمر في التسويف والتلاعب بمقترحات الوساطة الأثيوبية، وادعاء انتظار مبادرة إفريقية اخرى.. خاصة وأن مليونيات 30 يونيو، صاحبها ضغط من المجتمع الدولي، ومنظمة الدول الأفريقية، والوسطاء، الذين لم يستطع المجلس العسكري تضليلهم ليوافقوا على تسويفه، وتهربه من الاتفاقات، أو التراجع منها.
على أن أعضاء قوى الحرية والتغيير، شعروا بصعوبة الوضع، وعلموا أن المجلس العسكري لن يتنازل عن السلطة بصورة تامة، إلا بالمزيد من التصعيد الطويل، والمزيد من الشهداء، مما يجمد الوضع الاقتصادي، ويزيد من معاناة الناس، خاصة وأن البلد قد توقف تماماً، وساءت الحالة المعيشية للناس.. كما أنهم شعروا بعدم مصداقية المجلس العسكري، وأنه يمكن أن يلجأ الى المماطلة، والتسويف، واتهامهم أما الوسيط الأثيوبي والمجتمع الدولي، بأنهم هم الذين يرفضون الاتفاق.. ولما كان في الاتفاق بعض الإنجازات، قبلوا به، على أمل أن يستطيعوا من خلال مجلس الوزراء المدني، أن يسهموا في إصلاحات ملموسة وعاجلة.
لقد خرجت جموع كبيرة من الشعب السوداني، في العاصمة، تعبر عن فرحها بالاتفاق، وإن أصرت على رفع شعار المدنية.. مما يعد دعماً كبيراً لموقف قوى الحرية والتغيير، وقبولاً بموقفها في الاتفاق، الذي أشهدت عليه العالم. فمن إيجابيات هذا الاتفاق، أنه أوقف البطش، والقتل، والاعتقال، واخرج البلاد من حالة الجمود، التي عطلت كافة نشاط الدولة. ومن إيجابياته أيضاً، أنه جعل قوى الحرية والتغيير، فاعلاً في المشهد السياسي، ومشاركاً في السيادة، ومنفردة بالحكومة، ولديها معظم البرلمان في الفترة الانتقالية، فأصبح لها منصات يمكن أن تسهم منها في التغيير.. ومن إيجابيات الاتفاق أنه حجم سلطة المجلس العسكري، بأن جعل قوى الحرية والتغيير، شريكاً فيها، يدعم موقفه شعب قادر، على إخراج المسيرات المليونية. ومن إيجابياته أنه أظهر قوى الحرية والتغيير، للمجتمع الدولي وللوساطة الأفريقية، كمجموعة واعية، حريصة على تهدئة الأوضاع ووحدة السودان، وليس كمعارضة مشاغبة، تسعى للكسب السياسي، كما صوّرها المجلس العسكري الانتقالي.
ومن سلبيات الاتفاق، أنه جاء مقصراً عن آمال الشعب، وتطلعاته لحكومة مدنية، لأنه قبل بحكومة مختلطة وليست مدنية تماماً. ومن سلبياته أنه أعطى العسكر، رئاسة مجلس السيادة للفترة الأولى، وهي الأطول 21 شهراً، وهذا قد يؤدي الى عرقلة مساعي السلام، مع الحركات المسلحة، والتي حددت لها الاتفاقية الستة شهور الأولى. ومن سلبيات الاتفاق، أن سلطة مجلس السيادة، في الفترة الأولى، تتضمن الموافقة كشرط على تعيين النائب العام، ورئيس القضاء، ويمكن للمجلس أن يصر على شخصيات غير مؤهلة سياسياً، وأخلاقياً، لمحاكمة رموز النظام البائد. ومن سلبيات الاتفاق، أن سياستنا الخارجية، سيحددها مجلس السيادة برئاسة العسكر، وسوف يستمر في تبعيته لمحور السعودية، وتضحيته بالسودانيين في محرقة حرب اليمن، دون أن يكون السودان معنياً في الأساس بتلك الحرب. ومن سلبيات الاتفاق، أن أعضاء المجلس العسكري الذين تولوا المفاوضات، سيكونون ضمن مجلس السيادة، بينما مفاوضي قوى الحرية والتغيير، عليهم اختيار شخصيات وطنية مستقلة، لتشارك في المجلس، دون ان تكون لها خبرة واضحة، في التعامل مع العساكر في مجلس السيادة. ومن سلبيات الاتفاق، أنه ذكر لجنة التحقيق، ولكنه لم يذكر باللفظ مجزرة فض الاعتصام، وكأنه يراعي لمشاعر أعضاء المجلس العسكري، الذين قاموا بهذه الجريمة النكراء، ويريدون الآن أن يشكلوا اللجنة التي ستحقق فيها.
لقد قبل الشعب السوداني، داخل وخارج البلاد، في جملته، هذا الاتفاق على ما به من علل. ولكنه قبله بتوجس، وحذر، وخوف، وترقب من نقض العسكر للعهود والمواثيق.. وعلى قوى الحرية والتغيير، أن تتحلى بنفس التوجس، والحذر، فلا تأمن المجلس العسكري، وأن تستمر في تواصلها مع الشباب، ولجان الأحياء، حتى تحرك الشارع مرة أخرى، إذا حدثت أي انتكاسة في الاتفاق أو التفاف عليه .. ولعل أهم ما تشغل به قوى الحرية والتغيير نفسها منذ اليوم هو:
1-الإصرار على إشاعة جو الحرية، باعتبارها المطلب الأول للثورة، وذلك بفتح المنابر الحرّة، وفتح وسائل الإعلام، والصحف والمجلات، أمام الشعب السوداني، بكافة أفكاره، وثقافاته المتنوعة، لتصبح الحرية واقعاً معاشاً. كما لابد من فتح جميع مراكز الاستنارة، ومنظمات المجتمع المدني، التي أغلقها النظام البائد، وفتح الباب أما المنظمات الدولية للإغاثة، وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل الطوعي.
2-التفكير الجاد في الشخصيات التي ستختار لمجلس الوزراء، والبرلمان، فالكفاءة الاكاديمية وحدها، لا تعني التأهيل المطلوب، إذ لابد من الاعتبار السلوكي والأخلاقي، بالإضافة الى الوعي السياسي، المطلوب في هذه المرحلة الحساسة، من مراحل تطور بلادنا.
3-تكوين لجنة لتكريم الشهداء، منذ انتفاضة سبتمبر 2013م ، وحتى آخر يوم في ثورة ديسمبر 2019م. وذلك بالتواصل مع أسرهم، وتوفير الدعم المادي والمعنوي لهم، ووضع أسماء الشهداء على الشوارع القريبة من أماكن سكنهم، ووضع أسمائهم وصورهم في جامعاتهم، وأماكن عملهم، أو الأندية الرياضية والثقافية، التي كانوا يشاركون فيها.
4-لابد من جلوس قوى الحرية والتغيير، مع السودانيين، ذوي الخبرة في السياسة والشأن العام، داخل وخارج السودان، والتباحث معهم حول وضع خطة محددة، لسياستنا الخارجية، في ظل وجود المحاور، والمطامع، والصراعات الدولية التي تحيط بنا.
لقد رعى الله هذا البلد الطيب، عبر تاريخه الطويل، وحفظ على أهله، جميعاً، من أصيل القيم، ما سيجعلهم ينهضون قادة لشعوب هذا الكوكب الحائر. فله الحمد من قبل ومن بعد.
شاركها