الأزمة السودانية ونهاية استبداد المتسلطين
صلاح شعيب
في الوقت الذي تعايش فيه البلاد غياب المشروع السياسي المتفق حوله، والهادي، والهادف، إلى وضع حلول لأزمات الدولة المستعصية، وصلت الأزمة السودانية المتعددة الأوجه إلى ذروة ذروتها. الآن تملك المعارضتان السلمية والعسكرية ثمة ما تريان أنه المشروع الفكري الذي بواسطته تخفت أصوات إطلاق النار. وهكذا تظنان أن ثيمات أفكارها ستحاصر هذه الأزمة من جذورها. من الناحية الأخرى توجد لدى الحكومة، وبعض حلفائها، من التصورات السياسية ما تبرر به إمكانية التوصل إلى رضا سياسي لكل فرقاء الوطن، وكذلك يتصور النظام، عبر الحوار، استكفاء المؤمنين، شر القتال، أو مخاطر الثورة العارمة.
ولكن كلا التيارين يفتقدان إلى ماكنيزمات تنفيذ غالبة، وحاسمة، وعملية على الأرض. فلا الحكومة سيطرت على الدولة بجدارة لتحقق كل تطلعات الحركة الإسلامية، ولا المعارضة هزمت هذه التطلعات بما يساعد على استرداد الديموقراطية، وتحقيق سودان خال من الظلم، والتهميش، والكبت.
برغم غياب المصداقية في أي حراك للمؤتمر الوطني بشأن إنهاء أزمة الحكم التي فاقمها إلا أن فكرة “الحوار الوطني” المطروحة ما تزال تعضد تخوفات القوى السياسية المعارضة من استغلالها في هذا التوقيت العصيب الذي تئن فيه الحكومة داخليا، وإقليميا. ونحن نعلم أن حكم الوقت الآن يقتضي، إذا صدقت نوايا البشير، بناء الثقة الحكومية قبل توظيف مسألة الحوار لصالح المزيد من سياسات التمكين. وهذا الإجراء السلطوي الانتهازي أفقدنا، على الأقل، مئات الآلاف من ضحايا الحكم، وساهم في تشرد الملايين بحثا عن مكان أفضل للحياة وللرزق، ناهيك عن فقدان جزء كبير من القطر.
ذلك ما بدا على صعيد واقع الحاكمين الساعين للحوار بعد أن جعلوا الأرض يبابا. ولكن كل المؤشرات تدل على أن الحكومة، أو بالأحرى تنظيم الحركة الإسلامية، يريد أن يستغفل القوى السياسية مرة أخرى. ولعل الاستغفال هذه المرة يتمظهر أقوى حيلة. إذ هو مسنود بإمكانيات التمكين الإعلامي الضخمة. وإن لم ينفع الاستغفال فإن التمكينين الاقتصادي والأمني يقفان بالمرصاد لكل من يعارض، كبر حجم تزعمه، أو صغر. وهناك أذرع أخرى للحكومة داخل الأحزاب، وما قصة الدكتور إبراهيم الأمين ببعيدة عن الأذهان.
على صعيد تحالف الإجماع الوطني، والجبهة الثورية، مجتمعين، ما تزال هناك فجوة بين أمان وتطلعات ثورية وبين الآليات التي تحقق المشروعين السياسيين المتمايزين في الطرح السياسي، والغايات النهائية. خلافا لذلك فإن هناك تباينات جوهرية بين فصائل الجبهة الثورية في ما تعلق بشكل الدولة، وما ينبغي أن تكون عليه. وهناك خلافات آيديولوجية أخرى وسط الكاريزمات القيادية للجبهة. وذات هذه التباينات سمت تحالف الإجماع الوطني لفترة طويلة. وهو التحالف الذي يمثل جماع المدارس الآيديولوجية والسياسية في البلاد. وبرغم انسحاب القوى اليمينية من التحالف إلا أن هذه التباينات على مستوى الخطاب والحراك لا بد أنها ملحوظة بشدة. ولكن الهدف الوطني الأسمى، وهو إسقاط النظام، يغطي مؤشرات التباينات المتعلقة بكيفية قيام أسس الحكم.
قد لا تعني هذه التباينات المنهجية، والآيديولوجية، والتكتيكية، وسط المعارضة، بشقيها، شيئا إذا كانت فكرة التحالفات السياسية إنما تنزع أصلا إلى تحقيق الحدود الدنيا من الاتفاق بين هذه القوى، وإرجاء ما هو مختلف عليه، أو حوله، لمستقبل يتسنى فيه الحوار الموضوعي الذي يعالج حقائق التباينات المذكورة. ولكن إذا كان الحال كذلك، فما – أو من – الذي منع التحالفين المعارضين من عقد لواء العزم في تحالف واحد يستضمر هذه التباينات الفكرية، والسياسية، والتكتيكية، لتطرح بعد إسقاط النظام؟.
هذه هي نقطة الضعف لدى المعارضتين والتي استطاع النظام توظيفها لصالحه، وذلك ضمن استراتيجية المؤتمر الوطني لتفتيت وحدات السودانيين إجمالا. ذلك لأن أي توحد يعد خصما على فاعليته السلطوية، والتمكينية، والمستقبلية.
الثابت أنه في الوقت الذي استمات فيه حزب المؤتمر الوطني في تخويف القادة السياسيين من التقرب، أو مناصرة الحركات السياسية العسكرية، استغل قدرات الدولة لخلق المليشيات التي تؤدي عمل التنظيم العسكري للحزب. فإذا تركنا قوات الدفاع الشعبي التي كانت تنشط خارج إرادة المؤسسة العسكرية، وضمرت فاعليتها الآن، فإن قوات الدعم السريع التي تتحرك خارج إرادة المؤسسة العسكرية ليست سوى العمل الموازي، والمضاد، للحركات المسلحة المعارضة. أي أنها الجناح العسكري للتنظيم الحاكم الذي ما يزال برغم ما فعله في القوات المسلحة لا يستأمنها.
ولقد انطلت هذه الخدعة على الزعيمين المهدي والميرغني اللذين ظلا يهاجمان العمل العسكري للحركات المسلحة المعارضة، ويغضان الطرف عن الحركات المسلحة التابعة للمؤتمر الوطني، والمتمثلة في قوات الدفاع الشعبي والمليشيات التي تم تكوينها لا على أساس قومي، وإنما عرقي محض. بل إنهما ما صرحا أصلا ضد ما ارتكبته قوات الدعم السريع من جرم مؤخرا ضد مواطنين عزل في دارفور وكردفان. ولعل المصيبة تكون أكبر إن كان الزعيمان يدركان الأسس التي تكونت بها الحركات المسلحة للمؤتمر الوطني، ولا يريان مشاحة إن كانت هذه القوات تؤذي المواطنين في المناطق التي لا يتحدران منها، ولا يحسان بما ينتج من هجماتها من قتل، وترويع، وقصف جوي يعمق وظيفة هذه القوات، ويخلق لها غطاء من الفاعلية، والحماية في الوقت نفسه.
أغلب الظن أن المهدي والميرغني يحرصان فقط على سلامة قلب الدولة التي تمنحهما الأمل في المحافظة على مكاسبهما في التسيد على الآخرين. وما دام أن أطراف الدولة لا تعنيهما إلا بقدر إنتاج الأصوات الانتخابية فإنهما لا يدركان عمق الغبينة التي حملت ابناء الأطراف لحمل السلاح مكرهين للدفاع أمام وحشية الحركات المسلحة التابعة للحكومة، والتي تقوم بعمل القوات المسلحة التي لم تعد فاعلة بعد أن تم تخريبها، وإفقادها الصفة القومية.
المهم في أمر الأزمة السودانية أن مستقبلها مفتوح على غالب السيناريوهات التي عددها الكثيرون من الخبراء السياسيين. ولكن الأحتمال الأقوى هو أن لا مستقبل البتة لحكم في السودان قائم على فكرة الإسلام السياسي. فإذا تجاوزنا حتمية التغيير الداخلي، واسبابه المتوفرة، رغم المعوقات التي تواجه حركة التغيير السلمية والعسكرية فإن المتغير الخارجي سوف يضعف النظام كثيرا. وفي آخر المطاف ستتمكن الإرادة السودانية من إسقاطه، ووضع الحد لهذا التدهور الخطير في قوة الدولة، ونسيجها القومي، وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
ما لا يدركه من هم في السلطة والمعارضة من الإسلاميين هو ما ستكون عليه نتيجة انفجار الاحتقان السياسي الذي وصلت إليه البلاد. ولكنهم يدركون حتما أن هذه الاحتقانات السودانية تتجاوز الاحتقانات التي نتجت عنها النهايات المعروفة للأحزاب الحاكمة في ليبيا، ومصر، وتونس. ومهما تكن قدرة المتسلطين في تزييف الواقع، وإخفاء جرائمهم، وشراء أصوات وجهود القواعد والنخب، فإنهم لا محالة سيفرون من السلطة يوم تتهيأ فرص نضوج الإرادة السودانية لتحقيق حريتها، وكرامتها، وعزتها. وليس أمر سقوط أنظمة القهر مرتبط بعام، أو عقد، وإنما بتكامل عناصر المقاومة التي تصنع اللحظة التاريخية للتغيير نحو الأفضل.