د.الشفيع خضر سعيد
في السودان سُرق الأمان، فأضحت «نيالا» لا تنام. ومثلما الصراخ والأنين، ظلا ممزوجين بحشرجة الموت وهو يختطف خُضرة الحياة في قرى ومدن الحرب الأهلية في أطراف البلاد، ها هما الآن يُعتمان ويُشبّعان سماوات الخرطوم وغيرها من مدن وقرى المركز، بغيوم الأسى وبرودة الموت البطيء جوعا وغبنا ومعاناة. والمفارقة العجيبة، والمؤلمة جدا في الوقت ذاته أن المسؤولين عن الرعية يسمعون الصراخ والأنين وكأنه موسيقى هادئة مريحة للأعصاب، لا يكترثون، ويواصلون همهمتهم تسبيحا وحمدا، بينما نحن نكرر، في عبط ببغاوي، لا حياة لمن تنادي…!! أما الضحايا والمكلومون، فلا يواسيهم إلا رجع صدى صراخهم وأنينهم.
الملاريا والفئران وعطش الأرض، تفتك بالمواطن وتقض مضاجع الأرض الخصبة في الجزيرة والمناقل والنيل الأبيض! الموت بالسيانايد أو الزئبق يعانق فرحا، وبخبث، حرائق النخيل في شمال السودان، والبعض يهمس، أو يجهر: ربما الحريق بفعل فاعل. وبورتسودان، ثغر البلاد ومتنفس اقتصادها، تفغر فاهها دهشة وألما وهي تشهد قيادات البلاد يتبارون في تجهيزها عروسا بهية لأكثر من متقدم، من أصحاب الإستراتيجيات الدولية والإقليمية، ويتلهفون لقبض المهر والثمن، بينما عمال الميناء يفترشون صخر التلال ويستنشقون ملح الأرض جوعا وموتا. أعداد كبيرة من شباب السودان، عقول وسواعد التغيير، رفعت الشراع الأبيض، وأعلنت الرحيل عن البلاد، بحثا عن مأوى جديد يوفر الأمن والحياة الكريمة التي افتقدوها في وطنهم. وآخرون، أعداد أكبر من شباب السودان، يصرفون النظر عن السياسي المباشر، ويصمون آذانهم عن سماع الشعارات السياسية الرنانة الطنانة، ليذهبوا إلى ما فيه فعل ملموس يمسح دمعة من وجنة طفل محروم، أو يبني طوبة في مدرسة دمرها إهمال الحاكم اللاهي عن مسؤولياته كما تقتضيها وخزات الضمير الصاحي، وتنادي بها تعاليم دينه التي يعيدها صباح مساء، ومع ذلك لا تنهاه عن الفساد والإفساد، ولا يرعوي.
المجتمع الدولي، دائما أياديه حاضرة في المشهد السياسي السوداني. وهي ليست بالأيادي الخفية، ولا حركتها غير مرئية، بل ظلت تتحرك بحرية ونشاط، تجوب ملعب السياسة السودانية في كل الاتجاهات، ومنذ فترة ليست قصيرة، وبعلم وموافقة الجميع، معارضة وحكومة. وبما إن أيا منا، نحن اللاعبين الداخليين، لن يستطع التحكم في حركة جسم مستقل عنه تماما إلا بالتصادم معه، بينما يمكنه التفاعل الإيجابي معه، فلا داعي للفرار والانعزال، ولا معنى للتقوقع والصراخ الحاد داخل القوقعة، فهو لن يؤثر إلا في حبالنا الصوتية. وشخصيا، أفترض أن الفعل الثوري في هذه الحالة هو أن نحدد مبتغانا بدقة، وننخرط في اللعبة دون التفريط في أي من مصالح الوطن والشعب. وتاريخيا، يدخل الفرسان ساحة المبارزة بعد حوار وشروط، قبل أن يهم كل منهما بالآخر. المجتمع الدولي، لن يستطيع المسك بتلابيبنا ليجرنا على الطريق، ثم يضعنا حول طاولة التسوية مع المؤتمر الوطني تنفيذا لمؤامرة ما. ذلك لم يحدث، ولن يحدث. والأفضل لأي متخوف من التعامل مع المجتمع الدولي، أن يعمل على استعادة ثقته في نفسه، ويبحث عن كل ما يساعده على مسابقة الخطوات الحيوية للفاعلين السياسيين. وفي الوقت ذاته فإن الاستجابة لصافرة هذه الدعوة أو تلك من دعوات المجتمع الدولي، لا تعني إيقاف أي قاطرة تتجه في أي اتجاه آخر، أي أن أي حراك يسير في أي طريق معين، لا يعني بالضرورة وقف التحركات الأخرى في الاتجاهات المغايرة. البعض يرى أن مجرد الكتابة عن سوءات النظام وكشف جرائمه هو نقلة كبيرة. صحيح، هو نقلة كبيرة وهامة جدا، لكن الأهم والأكبر منها، هو أن تتطور هذه الكتابة وتتحرك، بما تثيره من قضايا، لتصبح فعلا ملموسا، جماهيريا في سقفه الأعلى، أو وصولا إلى المحاكم مثلا، في أحد مستوياته الأدنى، حتى ولو كانت ثقتك في هذه المحاكم ضعيفة. المهم هنا ليس الفعل الجماهيري أو النزاع القانوني، فهذه مجرد أمثلة، ولكن المهم هو تحول الكشف عن الجرائم وتبادل القصص حولها إلى فعل ملموس، ولو كان الفعل اليوم صغيرا وضعيفا، فغدا لن يكون كذلك. إن القول الذي لا ينتج عنه فعل، ربما يبرئ الذمة، لكنه لا يحقق الغرض المنشود، ويؤدي إلى شعور القائل، ناشطا سياسيا كان أو كاتبا صحافيا، بالامتلاء الكاذب بأنه وبمجرد حديثه في الموضوع المعين، قد أدى واجبه كاملا. الفضاء السياسي السوداني، لا يزال معتما وغائما، ولكنه أيضا، يظل مفتوحا على كل الاحتمالات بما فيها الاحتمالات المرعبة. فالأزمة الطاحنة، والتي ظلت تنخر في البلاد لعقود مضت، وصلت اليوم مرحلة أصبحت فيها حياة المواطن، أي مواطن في أي بقعة من البلاد، مهددة فعليا، وأضحى انهيار الدولة على الأبواب. وبالأمس القريب، أعلن وزير مالية السودان، للعالم أجمع، إفلاس الدولة وفشلها في إيقاف انهيار البلاد..! وعلى لسان كل من سمع، جاءت ردة الفعل الطبيعية: وماذا ينتظر النظام الفاشل إذن؟ ولماذا لا يرحل؟
الوضع في السودان، لم يعد يحتمل المماحكات وسياسات التجريب، ولا التكتيكات غير المدروسة جيدا، بل يصرخ فينا بخيارين لا ثالث لهما: البدء، الآن وليس غدا، لإنقاذ الوطن أو الطوفان. أصحاب الخيار الأول، لا سبيل أمامهم سوى الانتظام والتوحد في أوسع كتلة ممكنة، بغض النظر عن أحزابهم وتوجهاتهم السياسية، متناسين، أو مؤجلين، تناقضاتهم السياسية والفكرية، ليعملوا على تحقيق تكامل مناهج وخطوات الحراك السياسي، بدلا عن تصادمها، وليتوافقوا على كيفية انتشال الوطن ومنع انهياره. فالوطن كله، وليس الحزب الحاكم وحده، أصبح في مهب الريح، والخطر الداهم يتهدد الجميع، والتفكير السليم يقول بأن ما يجمعنا من مصالح في حدها الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقنا، وأن المتقاعس عن فهم ذلك، لخلل في الإدراك السياسي أو استجابة أنانية لأجندته الخاصة، لن يرحمه التاريخ ولا الشعب.