الواثق كمير
بعد نجاح الوساطة السودانية في حث الحكومة وقوى المعارضة للتوقيع على اتفاق يوقف الحرب في الجنوب، طغى وساد في وسائل الإعلام، خاصة الموالية للحكومة، ما يفيد وكأنما النخبة الجنوبية على قلب رجل واحد. فدعك من مباركة الاتفاق، فإن النخبة قاطبة سعيدة وتدعم وساطة السودان بحكم إلمام ومعرفة قادته بطبيعة الصراع في جنوب السودان.
يبدو أن الأمر ليس كذلك. فمن متابعتي لنقاشات النخبة الجنوبية في منبر اسفيري واسع يضم أطياف متباينة من هذه النخبة، منهم من في الداخل ومن الدياسبورا، في تبادل للأراء حول الوساطة السودانية لفض النزاع بين الفرقاء الجنوبيين المتصارعين، انقسم الرأي إلى تيارين. أولهما، تيار يزعم بأن الخرطوم حولت نفسها بفضل ضخ دماء جديدة بتعيين رئيس وزراء شاب (وهناك في المجموعة من يعرف معتز موسى وعمل معه خلال فترة الانتقال). وهذا هو ما ظل مكان نقاش ساخن وسط الشباب في جنوب السودان، ويسمونه بال generational exit. وأيضا، الخرطوم تضحك على وتستهزا بجوبا، وذلك بتوصية جوبا إلى توسيع الحكومة لدرجة أن يكون هناك 5 نواب رئيس في سابقة لم يسمع بها أحد من قبل، من جهة، بينما تقلص الخرطوم هياكلها الحاكمة، من جهة أخرى.
وذلك تعبير عن رغبة الخرطوم في عدم تمكن الجنوب من حكم نفسه. يشدد هذا الرأي على أن هدف الحكومة السودانية الرئيس هو خلق منطقة عازلة حول آبار البترول، وطالما ضمنت أمنها بالخرطوم لا يهما أن قضى الجنوبيون على بعضهم البعض في أي مكان خارج محيط مناطق ضخ النفط. ويثير هذا الرأي الشكوك حول مصالح عمل بين بعض المتنفذين في الحكومة السودانية مع رصفائهم من الفاسدين kleptocrats في حكومة الجنوب.
وعلى كل حال، يرى أصحاب هذا الرأي أن الخرطوم لها من العضلات ما يمكنها من التعامل مع الحكومة والمعارضة، على حد سواء. حقا، فعدد كبير من قيادات المعارضة الجنوبية تقيم في الخرطوم, بل وبعضهم كان يقاتل بالوكالة عن الحكومة السودانية نفسها. وبحسب هذا التيار، يظل هؤلاء القوم رهن إشارة صلاح قوش!
أما التيار الثاني، يحتج متبنوه بأن ترهل الحكومة وأجهزة الحكم هو من صناعة الفرقاء الجنوبيين بأنفسهم. فهم من أجهض كل الجهود التي بذلت، في أديس أبابا وكمبالا ونيروبي وجنوب أفريقيا، لتحقيق السلام في جنوب السودان. ولكنهم وقعوا، بإرادتهم أو بدونها، في أيادي العدو القديم في الخرطوم. بينما بعضهم اتخذ موقف الدفاع عن اختيار الخرطوم كمضيف للمفاوضات كأفضل وسيط في النزاع، و ذرفوا الدموع في نهاية المطاف. وبالرغم من هذه التحفظات على اتفاق السلام، يرى أصحاب هذا التيار أنه من واجب اللاعبين الرئيسيين إبداء الالتزام بما توصلوا إليه من اتفاق في الخرطوم.
وعلى خط تحميل مسؤولية نتائج اتفاق سلام الخرطوم إلى الفرقاء الجنوبيين، أكد بشدة أحد مندوبي المجتمع المدني، في منبر جنوب السودان رفيع المستوى لإعادة تنشيط اتفاقية السلام HLRF، أن الهياكل المترهلة للحكومة، 5 نواب رئيس و35 وزير و550 عضوا في المجلس التشريعي، لم تفرض على أطراف النزاع من قبل أي جهة خارجية. بل أن حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية الحاليه هي التي ظلت تطالب بانتظام بتوسيع هياكل الحكومة، في أديس أبابا وفي الخرطوم، على حد سواء. وبينما كان الموقف الرسمي لمجموعات قوى المعارضة الثلاث هو الدعوة الى هياكل رشيقة، إلا أنهم قبلوا في نهاية الأمر. وعلى نفس طول الموجة، يقول ممثل المجتمع المدني أنه سأل أحد كبار أعضاء وفد وساطة السودان *لماذا تسمحوا بهذه الهياكل المترهلة في جنوب السودان، بينما لم تقبلوها لأنفسكم؟ وكانت اجابته*حاولنا أن نوضح ذلك لكن “الكل” يريد أن يكون في الحكومة!* ومضى ليقول إن الجدل الساخن حول موضوع تقاسم السلطة، الذي يشار إليه في المنبر رفيع المستوى بعبارة “تقاسم المسؤولية”، انتهى بسرعة بعد أن ضمن كل فصيل معارض موقع نائب الرئيس ونصيب مقدر من التمثيل في الحكومة الانتقالية المترهلة هذه! ومع ذلك، فإن أغلب من استمعت إليهم يضع خطأ اللوم على السودان بخصوص هذه الهياكل. ومن يشك في ذلك عليه أن يطلب من الفرقاء، على الجانبين، لتبني نموذج الخرطوم، ومثال اقتراح المجتمع المدني الهيكل من 18 وزيرا و3 نواب رئيس و200 عضوا للمجلس التشريعي، فسيتم اتهامه بسرعة بمحاولة الدفع بأجندة *تغيير النظام*! كما يشترك كثيرون في هذا الرأي بأن الجميع في حاجة للخروج من ممارسة إلقاء اللوم على الآخرين وتحميلهم مسؤولية فشل أصحاب المصلحة في الجنوب.
تورونتو، 12 سبتمبر 2018