بقلم د. سعاد مصطفي الحاج موسي
30 مايو 2020
الحالة التي ورثتها وزارة الصحة من الإنقاذ وممارسات المواطنين هما وراء الكارثة الصحية التي تحدث حالياً في السودان. فالمؤسسات الصحية من مستشفيات ووحدات صحية حكومية ونظام صحي اتسمت منذ الاستقلال بالتدهور المستمر في خدماتها، خاصة في الهامش، مما دفع ولا يزال بمواطني الهامش الي الاعتياد على السفر الي الخرطوم للعلاج ومنهم من أجبرته ظروف المرض على عدم العودة. ولا نستطيع أن نستوعب ما يجري في ولاية شمال دارفور، خاصة في مدينة الفاشر، دونما الرجوع الي سياسات وممارسات جميع الحكومات المركزية التي تعاقبت على حكم الوطن والمواطن، خاصةً الإنقاذ التي عملت على تقوية مبادئ واصول التهميش وحرمان المواطن من حقوقه الدستورية والإنسانية في توفير العلاج الفاعل المجاني. واستهدفت المواطن المسكين عبر وزارة الصحة فخصخصت العلاج وحولت المستشفيات العامة والوحدات الصحية في الهامش الي بنايات متهالكة تعاني ضعفاً مريعاً في الخدمات الصحية من كوادر طبية وأدوية وأجهزة فحص وعناية وعمليات وغيرها، وشجعت علي قيام المراكز العلاجية والعيادات الخاصة باهظة التكاليف ولسان حالهم نطق به وزير الصحة الاتحادي بحر أبوقردة في 13 نوفمبر 2017 بقوله “الحكومة بتصرف قروش على مرضى السرطان كتيره جدا وفي النهاية يموتوا،” (https://www.alrakoba.net/2914021/7). فوزارة صحة الإنقاذ قامت بمعاقبة المرضي المساكين علي مرضهم وضنّت عليهم بالإعانة الصحية والعلاج الذي هو حق دستوري وانساني علي الدولة نحو المواطن، وتسببت عمداً في موتهم.
ولاية شمال دارفور لا تختلف عن غيرها من ولايات الهامش في تردي الخدمات الصحية الموروثة عن الإنقاذ وما قبلها من الحكومات المركزية. فسكان الولاية يقارب تعدادهم الثلاثة ملايين نسمة وبها أكثر من 500 ألف نازح يتردد معظمهم الي مدينة الفاشر حاضرة الولاية. توجد بها تقريباً ثلاثون مستشفى وما يفوق الأربعين مركز صحي جميعها شحيحة الموارد ضعيفة في أدائها الروتيني، أما إمكاناتها في التعامل مع كوفيد – 19 فحدث ولا حرج. المعروف أن الاوكسجين هو منقذ للحياة ومستشفيات الولاية تعتمد علي الاوكسجين التي تعبأ في أسطوانات في الخرطوم التي تبعد أكثر من ألف كيلومتر من الفاشر، أو من نيالا التي تبعد 195 كيلومتراً من الفاشر، وملئها وشحنها ومتابعتها وترحيلها يكلف الكثير من المال والوقت والجهد. تستجلب الولاية شهرياً ما بين 100 الي 150 أسطوانة أي ما يعادل أقل من 15% من الحاجة الشهرية على أقل تقدير في وقت تحتاج فيه مستشفى الأطفال والمستشفى التعليمي إضافة الي الحوادث لما لا يقل عن خمسين أسطوانة في اليوم، واذا تضايق المريض في التنفس قد يحتاج في ليلة واحدة الي ثلاثة أسطوانات. تمر أحياناً عدة شهور تخلو فيها المستشفيات تماما من الاوكسجين فيموت الأطفال المرضي وحديثي الولادة وكبار السن والنساء في غرف الولادة بسبب نقص الاوكسجين بينما باقي المستشفيات والوحدات الصحية تكاد تخلو من أية أسطوانات كما أوضح أحد الأطباء العاملين بالمستشفى.
ويفهم عن كوفيد -19 أنه يستهدف الجهاز التنفسي، أي الشعب الهوائية والرئة مما يفترض أن أولي الإجراءات الوقائية للمصاب الذي نقل الي المستشفى هو التأكد والعمل على استقرار تنفسه، وخاصة ًعندما تستدعي حالته التحويل الي العناية المركزة. فعندها يكون الاوكسجين هو المعين الأساسي لإنقاذه وطالما لا يوجد اوكسجين بالمستشفى فبديهي أن ترتفع حالات الوفيات في ظل غياب مصل أو علاج. الكثير من المستشفيات في السودان لديها معامل مركزية لتصنيع الاوكسجين وتوفير ما لا يقل عن 100 الي 150 أسطوانة في اليوم للمستشفى الواحد بينما لا تتوفر تلك الخدمة في شمال دارفور.
يقول بعض الأطباء أنه لا يوجد نظام فرز في المستشفى فلا زالت حوادث الفاشر بشكلها القديم منذ انشائها ايام المستعمر بصغر حجمها وضيق مساحتها وتستقبل المرضي بجميع أصنافهم المصاب منهم ب كوفيد-19 والغير مصاب، الصغار والكبار معاً. فصارت الحوادث نفسها مركزاً لنقل العدوي للأصحاء وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي لا تشجع مواطني الفاشر للذهاب بمرضاهم الي المستشفى التعليمي خوفاً من أن يصاب المريض أو مرافقيه داخل المستشفى. ابتعد المواطنين أكثر عن المستشفيات منذ ظهور كوفيد-19 وهذه أيضاً ساعدت في ارتفاع نسبة الوفيات. هذا بجانب قلة الكوادر الصحية وضعف معينات الوقاية لهم بالرغم من أن أبناء الولاية بالداخل والخارج بادروا بجمع المساهمات وقدموا الكثير من المساعدات الوقائية والطبية للمستشفيات ولا يزالون. وهكذا كشفت لنا كوفيد-19 جزء يسير من التردي الموروث في الخدمات الصحية وكيف ان الإنقاذ حولت وزارة الصحة الي ثكنة للأمراض من يدخلها لا يلقي العلاج بل يدرج اسمه في عداد الأموات جراء انتقال أمراض اخري اليه. ولذلك صارت مدينة الفاشر بأكملها بيتاً للعزاء وضاعف الخوف والتوتر الذي غمر المدينة وأهلها من عدم الثقة عند غالب المواطنين للتوجه الي المستشفى وطلب العلاج.
علي الجانب الآخر، اتخذت الحكومة الانتقالية حزمة من الإجراءات الاحترازية لحماية المواطنين منها حظر التجوال لبعض الوقت، وشددت على التباعد الاجتماعي وعدم المصافحة والتزام البيوت الاّ للضرورة، وغسل الأيدي بصورة متكررة، خاصة عند الدخول الي المنزل ودعمتها بمضاعفة المرتبات بصورة غير مسبوقة. كذلك ساهمت منتديات أبناء المنطقة ومنظمات المجتمع المدني المحلية ولجان المقاومة وطلاب الجامعات والمنظمات العالمية ومنظمات الأمم المتحدة بفعالية ومهنية عالية في نشر رسائل التوعية وتوزيع معينات الوقاية للمواطن ويقوم أبناء الفاشر برش المستشفيات وتعقيمها. ولكن من مساوئ الديمقراطية في بلادنا أن كل شخص يعتقد أنه حكومة قائمة بذاتها له نظامه وقوانينه وسياساته التي تعاند الامتثال لتوجيهات الدولة وتبخيسها. فنري غالب المواطنين يتعاملون بلا مبالاة مع الارشادات الصحية وتمادوا في مخالفة أوامر وارشادات الحكومة وتجاوزها، وتحصنوا بالروحانيات وخزعبلات الشيوخ الأفاكين وما يحزن أن فيهم أطباء – فالأسواق في دارفور مكتظة بالناس، وبيوت العزاء لا ينقطع عنها المعزون ويرد الي المقابر المئات للدفن، وأينما تلتفت تري الناس ذاهبين قادمين، وهناك من يتسكع بلا سبب، وقلما تجد أحدهم يضع كمامة. وعند دخولهم لمنازلهم لا يغسلون أيديهم ولا يغيرون ملابسهم. والمعلوم أن الشعوب لا تتقدم الا باحترام النظام والالتزام الصارم به، ودولة شعبها لا يحترم القانون والنظام هي دولة متخلفة لا يمكن أن تقوم لها قائمة في عالم التقدم. فالتطور والنماء مرتبطان بالتزام الأفراد والجماعات بموجهات الدولة وبالقانون والتشريعات والتوجيهات التي تصب في مصلحة المواطن وحمايته ورفاهيته، ودعمها وحمايتها والدفاع عنها.
كان ولا يزال بالإمكان التقليل من معدل الإصابات والخسائر في الأرواح في السودان بأكمله إذا التزم المواطنون بالإجراءات الصحية الاحترازية وأوامر الحكومة الانتقالية. ولكن يجب أن يتكامل هذا بقيام وزارة الصحة الاتحادية بوضع خطة عاجلة لإعادة تأهيل المرافق الصحية، خاصة المستشفيات المركزية بالولايات، وإصلاح هياكلها وتعزيز مواردها المادية والبشرية وتنشيطها لتؤدي دورا فاعلا في وقاية المواطن وحمايته وعلاجه. عليها بالمبادرة بالتنسيق مع الولايات، بعمل تقييم لحالة المؤسسات الصحية ومراجعة البرامج والخطط والسياسات الصحية الموجودة وتعديلها لتتضمن إجراءات محاربة كوفيد-19. وأولها توفير معامل للأوكسجين بالمستشفيات المركزية بالولايات ومعامل للفحص والتشخيص، وتوفير الأدوية المنقذة والمعالجة والكادر الطبي، وفتح الباب لتوظيف خريجي التخصصات الطبية والصحية ممن لم يجدوا عملا منذ سنين، على أن يشمل ورش عمل أسبوعية لتدريب وتأهيل الكادر والطاقم الصحي علي الطرق المستحدثة. ولا يفوتنا أن ننتبه الي اقتراب موسم الخريف حيث تكثر فيه الأمراض، خاصة الملاريا مما يستوجب على الحكومة التحرك منذ الآن لسد الثغرات وتوفير المعينات الصحية والعلاجية، أي انشاء نظام صحي متكامل من حيث الأدوية والأدوات والكوادر الصحية والتخصصات ذات الصلة مثل الباحثين الاجتماعيين، خريجي علم النفس، ضباط تغذية، ومتخصصين في الإدارة والموارد البشرية والخدمات، لتفادي التعامل مع الأمراض كحالات طارئة ومنفصلة عن النظام الصحي. أي انشاء نظام قادر علي التنبؤ بما سيحدث للإعداد له مسبقاً بهدف التقليل من آثاره. وجود مشروع للنهضة الصحية بولايات دارفور يشارك فيه أبناء الولاية من داخل وخارج السودان سيسهم في حماية انسان الولاية ودعم حكومة الثورة في برنامجها للتنمية الصحية والاجتماعية والاستقرار السياسي.
أبقوا جووة البيوت، والسلام بالإشارة، أغسلوا أياديكم بالصابون مرات ومرات، يحفظكم الله
سعاد مصطفي الحاج موسي
[email protected]