إتفاقيات ألسلام: هل لإعادة الديمقراطية، أم تعزيزاً للإستبداد؟
بقلم: محمود أ. يوسف – جوبا
E-mail: [email protected]/
إستهلال: كتبت هذه المقالة في يناير 2006، ونشرتها في بعض الصحف الالكترونية، وكذا في صحيفة أجراس الحرية بتاريخ 16 يونيو 2008. خلال الفترة الماضية إزدادت قناعاتي بما توصلت لها في هذه المقالة، وعن ما ستؤول إليها إتفاقيات السلام، وبخاصة بعد حديث الرئيس عمر حسن البشير الاخير في القضارف حيث قطع بعدم وجود تعددية إذا إنفصل الجنوب والذي يعني فرضيات العروبة، وقوله بأن الشريعة الاسلامية ستكون المصدر الوحيد لمجمل التحكيم في ما يتبقي من السودان. وبذلك سيكون المجال مفتوحا لكل العنصريين من الطيب مصطفي ورفقائه من مدرسة منبر الشمال العادل لزيادة عبثهم.
لذا رأيت أهمية إعادة نشرها مرة اخري حتي تعم الفائدة ويتم التبصير والإفاقة حول المصير المجهول الذي نحن فيه جميعا مقبلين والذي يحتاج لمراجعات كثيرة من كل حادب علي مصلحة الاجيال القادمة، وبخاصة أن جنوب السودان قد تم له الانعتاق الآخير هربا من هذه ألمأساة ألآإنسانية.
المقدمة: عندما تم التوقيع على الإتفاقية الشاملة للسلام بين حكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى نيروبى فى العاشر من يناير 2005، تم خلق إنطباع عام بان تلك كانت النهاية لأطول واكبر أزمة أفريقية، وان مايحدث فى دارفور ليس سوى مسألة صغيرة وقابلة للحل، مع إمكانية التحول نحو الديمقراطية وعدة تغييرات إيجابية اخرى فى السودان.
مرت ثلاثة أعوام على ذلك والأمور لم تجرى كما كانت متوقعة، بدأ بالرحيل المفاجئ لدكتور جون قرنق دى مبيور، والكثير من العراقيل التى واجهت تطبيق الاتفاقية ، القوانين القمعية لم يتم تغييرها تمشيا مع الدستور، واثناء ذلك يواصل حزب المؤتمر الوطنى فى تعزيز سلطاته، احزاب المعارضة معاقة فى آداء أدوارها الايجابية، وابعاد ماحدث فى دارفور بدأ فى الانجلاء رويدا، بينما الحالة العامة المؤسفة لاتفاقية سلام دارفور، قد قام بإظهارها مؤخرا كبير مساعدى رئيس الجمهورية السيد منى أركو مناوى أثناء مؤتمر الحركة الشعبية بجوبا، الذى كان حدث مبهج اهتز جمعها بالإحداث الغير إنسانية في ابياى والتي سببت صدمة للإنسانية، لتشابه نمطها مع مجازر دارفور، من حيث القسوة وسياسة تنظيف الارض.
إن ألآمال والتوقعات لتغييرات ديمقراطية في السودان قد تحولت لحاجة مأساة لمراجعة أحداث الفترة السابقة وتحليلها لمعرفة الأهداف الفكرية وراء النزعة السلمية التي أبدتها المؤتمر الوطني عند توقيعها للسلام ومن ثم رؤية كيفية تحقيق الديمقراطية، ولكن لن يتم ذلك إلا بعد معرفة بعض الخلفيات التاريخية التى ساهمت فى إيجاد واقع السلام الحالى، مع وجود كثير من الاسئلة. مثل، لماذا يحدث كل هذا الآن؟ وما هي الأهداف الحقيقية من وراء الإتفاقية الشاملة للسلام؟ وماهو المخرج من كل ذلك؟
رغم ان هذا المقال قد تم كتابته منذ سبتمبر 2007، لكن محتواه يزداد قوة فى تعبيره للمرحلة التى نجتازها، وسيقوم المقال بالإجابة على هذه الأسئلة وأخريات من منطلق سوداني، مع بعض المقترحات.
السودان الجديد، والبعد الاستراتيجى:
حتى مارس عام 1970، ظلت المشكلة السودانية تعرف بمشكلة جنوب السودان، إلى أن قام الرئيس الاسبق جعفر محمد نميرى بالتوقيع على اتفاقية اديس ابابا للسلام مع حركة تحرير جنوب السودان، برئاسة اللواء جوزيف لاقو، وللأسف كان نميرى الذى وقع على الاتفاقية اول من يخرقها فى مارس عام 1983.
رغم وجود قبول كبير للإتفاقية فى الجنوب، إلا أنه وبعد ثلاثة اعوام فقط من تنفيذها، اى فى عام 1975، بدات بعض المجموعات فى الجنوب الدخول الى الغابة سخطا على تنفيذ الاتفاقية، وبدأوا مرة اخرى شن حرب عصابات مجددا ضد حكومة الخرطوم، حتى عام 1983، عندما تمردت كتيبتين، أحداهما فى مدينة بور بقيادة الرائد كاربينو كوانين بول والاخرى بفشلا بقيادة الرائد وليم نيون بانيي. تزامنت هذه الاحداث مع عطلة للدكتور جون قرنق دى مبيور فى مدينة بور، والذى لحق بكاربينو بالمناطق الشرقية فى أعالى النيل، حيث اعلنوا فى 16 مايو 1983 مع القائد سلفا كير ميارديد وآخرين ، عن قيام الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، من أجل بناء السودان الجديد العادل والديمقراطى، حينها إعترض بعض الجنوبيين على مبدأ تحرير كل السودان، ولكن نجح وساد الراى الغالب للحركة على تأكيد وتأييد هذه الرؤية .
قام هذا الشعار بجذب الآلاف من ابناء جبال النوبة بوسط السودان، والبعض من النيل الازرق ودارفور، وإنعكس ذلك إيجابا فى تحييد الكثيرين من هذه المناطق والذين كانوا سيتم انخراطهم فى الجيش الحكومى لمحاربة الجيش الشعبى.
وجه رئيس الحركة الشعبية الراحل دكتور جون قرنق نداء للشمال، الذى كان متذمرا من سوء الاوضاع فى فترة النميرى، وعدم الرضى عموما وخصوصا بين ابناء المناطق المهمشة، والذين يمثلون اكثر من 70% من سكان السودان، الذين سحبت منهم اراضيهم الخصبة وبخاصة فى كل من النيل الازرق وجبال النوبة، وتم إعطاءها للأفراد والشركات.
لاقت دعوة السودان الجديد القبول بين المثقفين وذوى النزعة الإنسانية بين الشماليين، الذين شاهدوا الظلم والإضطهاد فى كل اوجه الحياة، مثال على ذلك ما تم الكشف عنه عن ممارسة الرق فى السودان [1].
فى 28 أغسطس 1991، قامت مجموعة من الجيش الشعبى لتحرير السودان بقيادة دكتور رياك مشار ودكتور لام أكول بالإعلان فى مدينة الناصر عن الإنقلاب على الدكتور جون قرنق رئيس للحركة الشعبية لتحرير السودان والقائد عام للجيش الشعبى، وقاموا لاحقا بالهجوم على مواقع الجيش الشعبى تجاه الاستوائية. فى تلك الاثناء كانت حملة النجم الساطع الجزء الثانى والتى حررت غرب الاستوائية مكونة من عشرة آلاف جندى، 90 % منهم من أبناء جبال النوبة وكانوا علي وشك الهجوم علي مدينة جوبا. تم تحويل الجزء الاكبر منهم نحو الجبهة الجديدة، وقاد القائد سلفا كير ميارديد ثلاثة من هذه الكتائب وإستطاع مواجهة ودحر القوة المهاجمة بالقرب من جميزة (تقع بين مدينة بور وجوبا)، بينما قاد القائد وليم نيون بانى كتيبتين اخرتين، تم إنزالها بالزوارق فى مدينة بور، وبذلك تم قطع الطريق أمام المهاجمين وإسترداد مدينة بور، وبذا إستطاعت هذه القوات إرجاع القوات المهاجمة، وأهم من كل ذلك النجاح فى دعم وحدة الحركة.
كان للمشاركة الكبيرة لأبناء النوبة وآخرين من أبناء المناطق المهمشة القدر ألأكبر فى تعزيز الاحساس بوحدة الهدف والانتماء بين الجنوبيين وشمالييي المناطق المهمشة فى الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، وباهمية تأسيس السودان الجديد ليحل مكان السودان القديم، ومن ثم تم فى سبتمبر 1991، إرسال قوة إلى دارفور ، من أجل تحقيق هذه الرؤية، كانت القوة تحت قيادة ألقائد عبدالعزيز آدم الحلو ومساعدة ألشهيد القائد المهندس داؤود يحيى بولاد، حاربت القوة وهزمت الجيش الحكومى والمليشيات العربية (وهى التى تحولت لاحقا إلى مايعرف حاليا بالجنجويد) فى 41 معركة، ولكن ونتيجة لعدم وجود دعم إمدادى، وكثرة المعارك التى خاضتها فلقد اوجهدت فإنسحبت من دارفور [2].
من جانب آخر، فمنذ مبادرة كوكدام السلمية بإثيوبيا عام 1986، لحل المشكلة السودانية، عبورا بمبادرة مولانا محمد عثمان المرغنى ودكتور جون قرنق دى مبيور فى نوفمبر عام 1988، مرورا بأبوجا الاولى والثانية عام 1993، حتى بداية محادثات السلطة مابين الحكومات للتنمية (ألإيقاد) فى عام 1994، والتى إنتهت بالتوقيع على الاتفاقية الشاملة للسلام فى العاشر من يناير عام 2005، كانت الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، تقوم بإدارة كل المفاوضات بالإنابة عن المناطق المحررة للسودان الجديد، ولقد تم تحويل ذلك التفويض الثورى لتفويض ديمقراطى فى كلا من مؤتمرى عموم النوبة بكاودا، فى 2-5 ديسمبر 2002، ومؤتمر عموم أبناء الفونج بديم منصور، جنوب الكرمك فى 18-20 ديسمبر 2002.
قال دكتور جون قرنق فى خطبته التاريخية مفتتحا مؤتمر عموم النوبة بكاودة يوم 2 ديسمبر 2002: “النوبة فى مشاكوس وألإيجاد عشان الحركة ونضالهم، الفور والبجة مهمشين وهم مش فى مشاكوس؟ عشان هم ما فى الحركة رغم أنهم مناضلين” وقال “أهلنا فى الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل لأزرق وفى ابياى قد تم تمثيلهم بواسطة الحركة وأنا أريد أن أكد لهم بأننا سوف لن نخذلهم، أنهم لم يخذلوننا وما فى محل فى الجنوب عسكرى بتاع نوبة ما مات فوقه، القوة ألأنا مشيت بية فى سنة 90/ 1991م لغرب الأستوائية كان مكون أغلبيتها من أبناء النوبة فانهم لم يخذلونا فى النضال، فى الشكلة فنحن سوف لن نخذلهم فى الكلام، دى أسهل حاجة كيف أنهم ماخذلونا فى الشكلة وأنحنا نخذلهم فى الكلام؟ فدى واحدة من الحاجات لازم يلقو ليهو حل فى الايجاد” وكان قد ذكر “ورؤية الحركة دى رؤية السودان الجديد نحن متمسكين بالوحدة دى حتى فى الظروف الصعبة وأنو انحنا قد إهتزينا فى عام 1991م وماتخلينا عن الرؤية ديه“
وهكذا فإن الطموحات نحو ترجمة احلام السودان الجديد الى واقع اصبحت مترادفه مع الآمال نحو قيم الديمقراطية والعدالة والحياة الكريمة لكل الشعب السودانى، والتى تستطيع القوى الديمقراطية من خلالها تحقيق التغييرات التى ستنعكس إيجابا فى كل السودان.
دارفور وتعجيل محادثات سلام الايقاد:
منذ إنقلابه العسكرى بتاريخ 30 يونيو 1989، لم يأخذ الإنقاذ أو المؤتمر الوطنى محادثات السلام مأخذ الجد، كانوا فقط يحاولون كسب الوقت لإلحاق الهزيمة بالجيش الشعبى، وطردها من المناطق التى تحت إدارتها، مثالا لذلك، ففى ديسمبر عام 1994، واثناء محادثات الايقاد بنيروبى قدم الوسطاء مقترح بوقف لاطلاق النار يوم الخميس، لكن الحكومة وافقت على ان يبداء وقف اطلاق النار فى منتصف ليل السبت، و فى يوم الجمعة قام جيش الحكومة بالهجوم على كبرى أسوا بهدف إحتلال مدينة نيمولى المتاخمة للحدود اليوغندية، ومن ثم الإدعاء بأن الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان لايسيطر على أية اراضى فى السودان، حينها سينسحبون من طاولة المفاوضات، لقد حدث عكس ماتمنوه، إذ دافعت قوات الجيش الشعبى لتحرير السودان عن مواقعها عند الجسر المكسور بكل بسالة، فكانت ملحمة أسوا وفشلت الخطة. ومرة اخرى أثناء محادثات الايقاد فى أديس أبابا عام 1998، قال الوفد الحكومى وفى محاولة منة لخلق صدع مابين الجنوبيين والنوبة/الفونج، بأنهم كانوا يودون إعطاء حق تقرير المصير إلى الجنوبيين لولا وجود النوبة والفونج فى الحركة، رد عليهم القائد الراحل يوسف كوة بشجاعة قائلا” لقد قررنا مع مالك أقار ألموافقة على إعطاء الجنوب ذلك الحق بمعزل عن قضيتنا“،قام الوفد الحكومى فورا بسحب الإقتراح عندما شعروا بالمقلب.
ويقال أنه عندما تم التوقيع على بروتوكول مشاكس فى الثانى من يوليو 2002، قيل ان غازى صلاح الدين العتبانى، كبير مفاوضى الحكومة وقتها قد ذكر عندما سئل لماذا اعطوا الجنوب تقرير المصير؟ رد قائلا “مش احسن نوقع مشاكس قبل دارفور ماتقوم؟”.
دون اعتبار لامثال ذلك وآخريات، فإن بعض مراكز صنع القرار بالتشاور مع آخرين، ظنوا بأن محادثات سلام الايقاد ستمتد بلا امد، مالم يتم فصل رؤية السودان الجديد من الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، وذلك بحل مشكلتى النوبة والفونج بمعزل عن الايقاد، او عن مشكلة الجنوب، لتحقيق ذلك قامت منظمة العدالة الافريقية برئاسة دكتور الكس دى وال، بعقد مؤتمر فى كمبالا بيوغندا فى اكتوبر عام 2002، تم دعوة الوفود إليها من الاراضى التى تحت سيطرة الحكومة السودانية، ممثلين لبعض النشطاء والوطنيين وممثلين عن المؤتمر الوطنى وآخرين.
قاطعت الحركة الشعبية المؤتمر، واصدر الراحل دكتور سامسون كواجى امين الاعلام بالحركة حينها بيان ادان فيه المؤتمر، ذاكرا بانه تم تنظيمه لخدمة مصالح حكومة الخرطوم وتقويض نضال الشعب السودانى المهمش. لم يكن هنالك مايبرر ذلك الموقف، لانه كما شاهدنا فى اديس ابابا فى عام 1998، والكثير من خطب ومحادثات شخصية مع القائد يوسف كوة مكى، وكلها توضح عن قناعاته وكذلك القادة من المنطقتين، بأنه إذا كانت طموحات الجنوبيين هو الإنفصال، فإن من حقهم أن يقوموا بذلك، ولكن مؤتمر كمبالا كان قد هدف لإعطاء انطباع عام بان المواطنين فى المنطقتين لا يعترفون بتمثيل الحركة الشعبية لهم، وانهم يريدون ان تحل مشكلتهم بمعزل وفى إطار السودان الشمالى، كان موقفا غريبا وهو شبيه للإتجاه الذى يهدف إليه دكتور الكس من خلال مفاوضات دارفور، وهو تقزيم طموحات المهمشين فى الشمال.
قامت الحركة الشعبية بالرد على ذلك بإقامة مؤتمر كل ابناء النوبة بكاودا، فى 2-5 ديسمبر 2002، والذى حضره وفد كبير من النوبة ممثلين عن الاراضى التى تحت ادارة الحركة الشعبية والحكومة والمهجر، ساعد فى ذلك إتفاق وقف إطلاق النار للدواعى الإنسانية بجبال النوبة فى يناير 2002، بينما تم عقد مؤتمر عموم الفونج بديم منصور بجنوب الكرمك فى 18-20 ديسمبر 2002، ورغم ان الحكومة قامت بمنع وفد الفونج بالمشاركة فى المؤتمر، لكن كان التمثيل العام جيدا فى المؤتمر.
قرر كلا المؤتمرين تفويض الحركة الشعبية بالتحدث بالانابة عن مواطنى الاقليمين، ورغم هذه الضغوط الشعبية، لم تتمكن الحركة الشعبية على إبقاء المنطاق الثلاثة، وهما جبال النوبة وجنوب النيل الازرق وأبيى فى اطار محادثات الإيقاد للسلام، ومن ثم قامت جمهورية كينيا برعاية محادثات هذه المناطق، وفشلت الحركة بالحصول على حق تقرير المصير لهذه المناطق، ولكنها كسبت المشورة الشعبية، تحت البند رقم 3 فى اتفاقياتهما المعنية، وهو فهم فكرى موازى.
بعد التوقيع على بروتوكول مشاكوس، توقف تطور المحادثات، ثم قدمت الإيقاد مقترح للطرفين بناكورو فى 2003، فاتهمتها الحكومة السودانية بالإنحياز، للدرجة التى طلب الرئيس البشير منها فى خطاب له “ب بل الوثيقة بالماء وشربها“.
إجتمع الطرفين مرة اخرى فى مدينة نيانيوكى فى مايو 2003، وفجأة بدأت المواضيع فى التحرك وبخاصة بعد مشاركة كلا من دكتور جون قرنق وعلى عثمان طه لاحقا فى نيفاشا. وتم التوقيع على الترتيبات الامنية بنيفاشا فى سبتمبر 2003، وقسمة الثروة فى 26 يناير 2004، وقسمة السلطة فى 26 مايو 2004، وقرارات منطقة أبيى فى 26 مايو 2004، وكلا من منطقتيى جنوب كردفان والنيل الازرق فى 26 مايو 2004. واخيرا اتفاقية السلام الشاملة بنيروبى فى 10 يناير 2005.
لم تكن هذه التطورات المفاجئة من الخرطوم نحو السلام نتيجة لإعتراف الحكومة بهذه القضايا، ولا للضغوطات الدولية (هنا يمكن تذكر ماحدث ويحدث فى دارفور بخصوص القوات الدولية)، لقد كان ذلك النزوع نتيجة لتصاعد الانشطة العسكرية للحركات الدارفورية المسلحة، لقد بدأت الحكومة السودانية بفقد التحكم فى دارفور منذ بداية عام 2003، او كما ظهرت جليا بعد العمليات الجريئة لحركة وجيش تحرير السودان عندما تحكمت على كلا من قاعدة الفاشر العسكرية ومطارها الحربى فى 25 ابريل 2003، وكتم فى الاول من اغسطس 2003. ففى هجوم الفاشر تم اسر قائد سلاح الطيران السودانى. لقد كان الموقف فى غاية من الخطورة للحكومة السودانية، وبخاصة مع تشتت نيران الجيش السودانى فى جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق وشرق السودان، مع إمكانية توقع هجوم من الجيش الشعبى على العاصمة الخرطوم، لذا كانت الحكومة فى حاجة ماساة لوقف اطلاق النار مع الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، ولقد تم لها ذلك فى نيفاشا بكينيا يوم 25 سبتمبر 2003، لتركيز قواتها فى دارفور، لذلك فإن ماحدث فى نيانوكى بكينيا تعتبر نقطة تحول لشعوب السودان المهمشة، (متضمنا الجنوبيين).
مقارنة أبوجا مع نيفاشا
بدأت مراحل محادثات سلام الإيقاد عام 1994، وبعد عشرة اعوام، إنتهت فى 9 يناير 2005، بمظاهر من الاحتفالات، وبدأ بعدها أعضاء الحركة فى مغادرة كينيا بكل مظاهر التكريم والاحترام والكرامة.
عكس ذلك تماما كان الحال مع حركات دارفور، فلقد بدأت مراحل السلام فى دارفور فى مدينة أباشى التشادية فى 4 سبتمبر 2003، ومن ثم بدات الوساطة الافريقية فى 8 ابريل 2004 بأنجمينا بتشاد، حيث تم التوقيع على وقف لاطلاق النار، كما تم التوقيع بأديس ابابا فى 28 مايو 2004على نماذج إنشاء مفوضية وقف اطلاق النار ونشر المراقبين فى دارفور.
تم عقد ستة دورات بأبوجا النيجيرية، حيث تم التوقيع على بروتوكولين، وهما تحسين الحالة الانسانية بدارفور، وتحسين الظروف الامنية بدارفور فى 9 نوفمبر 2004، وفى السنة التالية تم التوقيع على إعلان المبادئ لحل المشكلة السودانية بدارفور فى 5 يوليو 2005.
عكس مراحل سلام الإيقاد، قام الإتحاد الافريقى بإعطاء الحركات الدارفورية المهلة حتى يوم 5 مايو 2006 للتوقيع على الإتفاق النهائى للسلام، كانت تلك من الاخطأ الجسام، لأنها اوضحت بان هنالك قوى متلهفة لإيجاد أى حل وبأية طريقة، أن ذلك هو التملية وفرض للإرادة، بغض النظر عن مصالح الدارفوريين، وذلك لتمرير الكثير من المواضيع تحت السجادة.
إنتهت المفاوضات مع توقيع البعض بقيادة منى أركو مناى، بينما رفض الاستاذ عبدالواحد محمد نور رئيس حركة وجيش تحرير السودان ودكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة التوقيع على الإتفاق، رغم الضغوطات الكبيرة والتى سبقت وقد ممارستها فى حق كل هذه الحركات من قبل الرئيس النيجيرى والمبعوث الامريكى، لدرجة التهديد بأخذ القادة إلى محكمة جرائم العدالة الدولية.
فى هذا الاطار، هل كان يمكن توجيه هذه الإهانة للقائد الراحل دكتور جون قرنق دى مبيور؟ وهل يعلم هؤلاء الوسطاء ردود الافعال التاريخية لإهانات القادة؟ يمكن للافراد النسيان، ولكن ليس الشعوب، وعربة المقطورة فى الحرب العالمية الاولى والثانية بين الفرنسيين والالمان لخير مثال على ذلك.
إذا كانت محادثات السلام بين الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان والحكومة السودانية، تحت رعاية ألإيقاد قد تم السماح لها بالإطالة لمدة عشرة اعوام، لماذا لم تعطى دارفور مجرد شهور او مجرد أيام؟
لقد رفضت كل من حركة وجيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة اتفاقية سلام دارفور، تبع ذلك رفض أغلبية الذين كانوا مع منى اركو مناى من السياسيين والعسكريين وانضموا الى معارضى الاتفاقية. وظهر جليا أن المجتمعون لايريدون أية عقبات لتنفيذ اتفاقية السلام الشاملة .
ضحايا ام مخربين؟
فى العقود الماضية بدارفور كانت دائما ما تحدث معارك قبلية بين الحين والآخر بين بعض القبائل، وكان اغلبها نتيجة للمشاكل بين الرعاة والمزارعين، ولكن عندما اصدر التجمع العربى اول بياناته عام 1988، متضمنا اتجاهات عرقية وسياسية وثقافية واقتصادية، تم ادانته من قبل القوى السياسية والنقابية المختلفة، حينها ظن الجميع بان الفكرة قد تم هجرها، ولكن عندما إعتلت الجبهة القومية الاسلامية السلطة عنوتا عام 1989، إحتضنت التجمع العربى سرا فى كل من دارفور وكردفان، من اجل عدة اهداف، منها مواجهة الجيش الشعبى فى الحدود الجنوبية.
وكما تم ذكرها، فلقد دشنت الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان حملتها المشهورة الى دارفور [2]. وسط تلك الاجواء والتي تزامنت مع حرب الخليج الاولى وتكوين ألتجمع العربى الاسلامى الشعبى والذى ترأسه زعيم الجبهة الاسلامية القومية الدكتور حسن عبدالله الترابى، وزديادة التوجه العروبي، إنفعلت قيادة الجبهة الاسلامية القومية بحدة لمحاولة خلق تحالف جديد بين دارفور وألحركة الشعبية لتحرير السودان، وهكذا ففى يونيو 1992 توصل الدكتور حسن عبدالله ترابى الى نتيجة مفاده ان:
“الإسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الاسلامية. وتهدف خطة الجبهة الاسلامية إلى تأييد القبائل العربية بإتباع الخطوات الاتية: التهجير القسرى للفور من جبل مرة وحصرهم فى وادى صالح ونزع سلاحهم كليا؛ وإعادة توطين المهريا والعطيفات والعريقات (قبائل عربية)، ونزع السلاح من الزغاوة وتهجيرهم من كتم إلى ام روابة (ولاية شمال كردفان)، وتسليح القبائل العربية وتمويلها بحيث تكون نواة التجمع العربى الإسلامى” [3].
كان تلك إستراتيجية عامة، وتم تطبيقها على عدة اوجه، ردت القبائل الافريقية على هذه السياسات بتنظيم انفسها، ورفضت بعض من زعماء القبائل العربية التورط فى هذه العمليات، لم يكتفوا بالتنديد فقط، بل رفضوا مشاركة قبائلهم فى تلك المجازر. ولملئ هذه الفجوة، تم جلب افراد وجماعات عربية من دول غرب افريقيا، مثل تشاد ومالى والنيجر ومورتانيا، وتم تجنيدهم فى مليشيات الجنجويد.
ومن جانب آخر، فعندما إنشق المؤتمر الوطنى على نفسه عام 1999، تم ذلك على اسس عرقية، فناصر جل الدارفوريين والجنوبيين الدكتور حسن عبدالله الترابى، بينما كان جل مؤيدى الرئيس عمر حسن البشير من الشماليين. لم يكن هذا الإنشقاق غريبا فى المجتمع السودانى، ولكنها كانت شاذة من حركة إسلامية، ومن مجموعة تدعى الإخوة الإسلامية، لذلك جلبت معها الكثير من الحقد والكره، ظهرت فى الكتاب الاسود: إختلال ميزان السلطة والثروة في السودان، الجزء الاول، الذى زاد من إزدياد الوعى بين الدارفوريين.
منذ عام 1999،بدأت الاوضاع ألامنية الخاصة بحقوق الانسان فى التدهور التام بدارفور، وقامت مجموعات المجتمع المدنى بكتابة مذكرة للرئيس البشير وممثلين الامم المتحدة لحقوق الانسان.
وفى دارفور اصبح الجنجويد، والذين معظمهم من ألاجانب، يمتلكون سلطات واسعة، تمكنهم من ألإعتقال والتعذيب والإغتصاب والقتل، والحرق والتشريد ولقد اصبحوا دولة داخل دولة، كل ذلك من خلال مباركة الدولة. وفى أوائل عام 2001، بداءت الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان ومجموعات اخرى فى التخطيط لإرسال قوات إلى دارفور مرة اخرى، وإستطاع التحالف الفيدرالى السودانى بقيادة الاستاذ أحمد إبراهيم دريج، والدكتور شريف الحرير إيجاد قوة فى جبل مرة، ولقد لعبوا بعض من الادوار فى إنشاء جيش تحرير السودان [4].
كانت المؤشرات فى دارفور تدل على تصميم ألأفارقة على مواجهة تلك الإغتيالات، ومع تشتت الجيش السودانى فى جنوب السودان وجنوب النيل الازرق وجبال النوبة وشرق السودان، ومصادفة ذلك للإنقسام الحاد بين البشير والترابى، وكحيلة لكسب الوقت، فلقد قامت الحكومة بالتوقيع على بروتوكول مشاكوس حول حق تقرير المصير لجنوب السودان، فى 20 يوليو 2002، كما تم ذكرها.
لم تكن تكوين كل من حركة جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة فى مارس 2003، مفاجئة للخرطوم، وكذلك هجومها الجريئ على حامية ومطار الفاشر فى 20 أبريل 2003، ببساطة لأنهم يمثلون أكثرية القوة المقاتلة فى الجيش السودانى، لذلك قررت الحكومة كسب الوقت مع الجنوب، لذلك ورغم التوقيع على إتفاقية السلام الشاملة، وتوقع إيجاد حلول حول دارفور، فلقد أشترت الحكومة السودانية الأسلحة الهجومية الثقيلة من روسيا والصين، وتم تحويل الجيش من جنوب السودان وجنوب النيل الازرق وجبال النوبة وشرق السودان، إلى دارفور وذلك لتحقيق نصر مفاجئ، ولكن ماحدث كان عكس ذلك، كما حكاها السيد يان برونك الممثل الشخصى للأمين العام للأمم ألمتحدة فى السودان، فى موقعه الشخصى عبر الشبكة العنكبوتية.
حاليا، هنالك بعض من أعضاء المؤتمر الوطنى من يترجمون إتفاقية السلام الشاملة كترجمتهم لماوقعوا عليه فى الفترة مابين94/1998، مع الفصائل الجنوبية وحزب الامة والمنشقين من الحركة الشعبية (جنوبيين و نوبة)، والكثير من ألأفراد، وكلها إتفاقيات لم يتم إحترامها.
مثلا فى العام الماضى، صرح نائب رئيس المؤتمر الوطنى بأنه إذا أيدت الحركة الشعبية لتحرير السودان دخول القوات الدولية إلى دارفور، فإن الحكومة ستنسحب من إتفاقية السلام الشاملة!
مرت ثلاثة أعوام منذ تطبيق إتفاقية السلام الشاملة، ومازال النقاط التالية تمثل مواقف مستعصية:
– لم يتم تنفيذ أى من البنود التسعة لحل مشكلة أبيى، رغم أن بعض شباب المنطقة قد قاموا بتكوين إدارة، وهى مؤشر لتنفيذ البند (2).
– لم يتم ترسيم حدود 1-1-1956.
أن ماحدث ويحدث فى دارفور لمؤامرة كبيرة، لا يمكن تبريرها، لذلك يتم العمل على مالا يمكن تخيله من اجل الحماية وتفادى الجر لرمالها المتحركة رغم وجود القوم في أوساطها، كل ذلك لتفادى الكشف، وبذلك يتم الهشم على كل الأعراف والقوانين، لذلك فإنه يمكن إعتبار إتفاقية السلام الشاملة وإتفاقية سلام دارفور مناورة تاكتيكية هدف لكسب الوقت.
ألخلاصة:
إن المناخ السياسى العام حاليا فى السودان متجه نحو التعقيد، التنبوء به سيساعد فى المساهمة فى إيجاد التغييرات الديمقراطية التى طال إنتظارها. لقد قام حزب المؤتمر الوطنى وبتمكين من إتفاقية السلام الشامل بإضعاف ألأحزاب السياسية المعارضة والقيام بالكثير من الممارسات المتناقضة، وهو بذلك يقوم بإعادة تقوية ذاتية للمكتسبات السياسية والدينية التى إهتزت من خلال الأنشطة السياسية والعسكرية التى شنتها الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان وحلفاءها فى التجمع الوطنى الديمقراطى والحركات المسلحة فى دارفور. بقيامها بذلك فإن المؤتمر الوطنى يقوم بخرق الإتفاقية، وتحدى الحركة الشعبية فى جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق. ويمكن للمؤتمر خلق تحالفات محلية واقليمية وصداقات جديدة ووعود مالية لاحتواء مضاعفات ذيول مجاذر دارفور.
لقد أثبتت تجارب العقود الثلاثة الماضية على أن طموحات وآمال شعوب السودان المهمشة والقوى الديمقراطية كلها متشابهة، ودلت على ان وحدة الهدف فى ميادين القتال والتفاوض، قد نجحت فى حماية الحركة ألشعبية وألإبقاء عليها قوية، رغم حدة تلك التجارب.
ومن جانب آخر، فإن رؤية السودان الجديد كما أعلنها مؤسسي الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان، قد جذبت ألملايين من شعوب السودان المهمشة والقوى ألإنسانية والديمقراطية، والذين من خلال تضحيات كثيرة وكبيرة ، قد أبقوا على روح وإستمرارية هذه الرؤية (ومنها حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان) لذا، وكما دلت تجارب السنوات الثلاثة الماضية، فإن البقايا المشتركة للذين تعودا على الظلم، يظلون أحياء ويتحولون أقوياء من خلال ضعف وتفكك المهمشين والديمقراطيين، لذلك فإن الوحدة تحت هذه الرؤية حتي وإن تم فصل الجنوب، سيثبت بأنه الضمان والخيار ألأمثل لتحقيق القيم ألإنسانية، كالحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية، لكل شعوب السودان.
إن عملية السلام بدارفور، ومراحل الديمقراطية المتوقعة لكل السودان، يجب النظر إليها كعملة ذات وجهين، وأن المؤتمر الوطنى ليست جادة فى تحقيق سلام حقيقى، لأن ذلك سيقلل من سلطاتها الحالية المطلقة، مالم يتم إكثار الضغووط عليا.
يشهد كل من دارفور وكردفان حاليا تفكك وتكوين لتحالفات جديدة، هذه الاحداث والمتمثلة لإكتساب تجارب جديدة ونبذ للقناعات الموروثة، ستؤدى إلى تكوين لتحالفات كبيرة قائمة على المبادئ الإنسانية والمصالح المشتركة.
هذه التحالفات والأهداف يمكنها ان تتحقق من خلال تحالفات واسعة من عدة قوي اخري، والتى تتطلب العمل وبإيجابية لتحقيق ضمن أخريات سلام عادل لشعب دارفور، والذى سينعكس على الجوانب الإنسانية والرفاهى لشعب السودان العظيم.
المراجع:
1- عشارى محمود وسليمان بلدو، مجذرة الضعين (الخرطوم: 1987).
2- محادثات مع القائد عبد العزيز آدم الحلو- ناكورو- كينيا- ديسمبر 2007.
3- ألدكتور محمد سليمان محمد، حروب ألموارد والهوية، تحقيق وإستهلال ألدكتور صلاح آل بندر، دار كمبردج للنشر، كمبردج، 2000، صفحة 382.
4- خلفية مجازر دارفور – ومنشورات التجمع العربى – موقع: http://darfurna.com//