صفقة أم كارثة القرن؟
بينما ننتظر نحن حتى يكشف ترامب عن خطته للتوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني ، فقد جعل في الواقع إمكانية تحقيق “صفقة القرن” أبعد مما كانت عليه بالفعل. لقد أثار اعترافه بالقدس كعاصمة إسرائيل غضب الفلسطينيين الذين قرروا تعليق أي مفاوضات أخرى مع إدارته. أي تدبير عقابي لاحق اتخذه ترامب ضد السلطة الفلسطينية لإكراهها على استئناف المحادثات جعل الأمور أسوأ. فبدلاً من تعزيز فرصة التوصل لاتفاقية سلام، قوض الرئيس الأمريكي بشدة هذه الفرصة.
إن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس الغربية كان من الممكن أن يؤدي إلى تقدم عملية السلام بشكل دراماتيكي لو ذكر أن الولايات المتحدة ستنشئ سفارة أمريكية لفلسطين في القدس الشرقية بمجرد توقيع اتفاقية سلام بين الجانبين.
ترك في بيانه مسألة الحدود النهائية التي تفصل القدس الشرقية عن الغربية مفتوحة بين الطرفين. كان من الممكن للفلسطينيين أن يرحبوا بالخطوة الأمريكية لو أنه تعهد بإنشاء سفارة إلى فلسطين ، وهو ما كان سيشير إلى أنه ملتزم بالفعل بالتوصل إلى اتفاق سلام قائم على حل الدولتين – لكنه لم يكن كذلك.
ومع ذلك ، فإن خطوة ترامب الأحادية الجانب لم تزل ببساطة الصراع حول القدس من على طاولة المفاوضات ، كما قال. هذا يدلّ فقط على أنه يفتقر إلى أي تقدير لارتباط الفلسطينيين بالقدس. ونتيجة لذلك ، جعل من احتمال إيجاد حل مقبول من الطرفين بشأن القدس أمرا ً صعباً بشكل غير عادي. لقد منح ترامب نتنياهو من حيث المبدأ أعظم أمنية له دون أن يطالب بأي شيء في المقابل لدفع عملية السلام إلى الأمام.
كان قطع المساعدات المالية عن الأونروا فرصة كبيرة أخرى ضائعة لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. صحيح أنه كان ينبغي إنهاء وصاية الأونروا قبل عقود لأنها دأبت على استمرار مشكلة اللاجئين بشكل مباشر وغير مباشر. ويعلم الجميع أن اللاجئين الفلسطينيين لن يكونوا قادرين أبداً على ممارسة “حق العودة” ، وكلّ من قام بالبحث في المشكلة من شأنه أن يشهد على أن الغالبية العظمى من اللاجئين أنفسهم لا يتوقعون أو يرغبون في العودة ، حتى لو تم منحهم الخيار.
ومع ذلك ، يتمتع اللاجئون بحقوق يجب معالجتها إذا كان هناك حلّ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهكذا ، وبدلاً من رفض مساعدات الأونروا المستقبلية ، كان ينبغي على ترامب أن يقول بوضوح إن حل مشكلة اللاجئين يعتمد بالكامل على إعادة التوطين و / أو التعويض. ولتحقيق هذه الغاية ، كان بوسع ترامب أن يقول إن مهام الأونروا يجب أن تنتهي، على سبيل المثال خلال عامين. وفي غضون ذلك تقوم الولايات المتحدة إلى جانب الإتحاد الأوروبي والدول العربية الغنية بالنفط بجمع مبلغً أولي بقيمة 10 مليارات دولار مخصصة حصريًا لإعادة توطين اللاجئين و / أو التعويض.
صحيح أن الفلسطينيين يرفضون التخلي عن مبدأ حق العودة ، لكن هذا من الأسهل معالجته في سياق عملية إعادة التوطين / التعويض ومع إعادة توطين مئات الآلاف من اللاجئين في بلدهم في الضفة الغربية وغزة. واللاجئون الحاليون في هذه المناطق هم واقعيّا ً المشردون داخلياً وينبغي إعادة توطينهم و / أو تعويضهم هناك.
الخطأ الثالث الفادح كان قرار ترامب بمعاقبة السلطة الفلسطينية بإنهاء الدعم المالي الأمريكي (باستثناء الأمن الداخلي) لإجبار عباس على الحضور إلى طاولة المفاوضات. هنا أيضاً أظهر ترامب جهلاً كاملاً لعقلية السلطة الفلسطينية وموقف عباس الضعيف في هذا المنعطف الخاص. صحيح أن السلطة الفلسطينية في أمس الحاجة إلى المساعدات المالية ، ولكن بالنسبة للفلسطينيين إجراء ترامب العقابي هذا لم يفعل شيئًا سوى تعزيز عزمهم على عدم القدوم إلى طاولة المفاوضات زاحفين على بطونهم.
عند الفلسطينيين عزة نفس. سوف يناضلون ، بل ويموتون جوعًا قبل أن يستسلموا لإجراء ترامب غير المستصوب تمامًا. حتى لو لان عباس ، أشك كثيراً في أنه يستطيع البقاء على قيد الحياة في غضب الفلسطينيين في الشارع الذين سيشعرون بحق بالتهديد من ترامب وأن قضيتهم المشروعة قد تم تدميرها من أجل المال دون أي أمل في التوصل إلى إتفاقية سلام بكرامة.
وبدلاً من ذلك ، كان بإمكان ترامب تحسين فرص السلام لو أنه زاد من المساعدات المالية وشجع السلطة الفلسطينية على التركيز على بناء البنية التحتية للدولة. هذا ، إلى جانب تدابير أخرى ، كان يمكن أن يقتنع الفلسطينيون بأن ترامب جاد ، وهو ما من شأنه أن يجعل السلطة الفلسطينية بلا شكّ أكثر تقبلا لخطة السلام التي سيقترحها.
قد يبدو أن قطع مساعدات بقيمة 25 مليون دولار للمستشفيات الفلسطينية في القدس الشرقية مبلغ ضئيل ، لكنه مبلغ ضخم للمستشفيات التي تعاني نقصًا كبيرًا في التمويل والتي هي في أمس الحاجة إلى المزيد من المساعدات المالية. وبأي طريقة يمكن اعتبار مثل هذا العمل سوى أنه إجراء شرير وغير مكترث بالمرضى والمعوقين الفلسطينيين الذين يتلقون العلاج الطبي الأساسي ، إن لم يكن المنقذ لحياتهم ؟
ومن المفارقات أن العديد من المرضى الذين يلتمسون المساعدة الطبية في هذه المستشفيات هم أولئك الذين تضرروا نتيجة لإصابات متهورة ، إن لم تكن متعمدة من جنود إسرائيليين أو مستوطنين إسرائيليين. ما هو إذن المنطق من حرمان المستشفيات الفلسطينية من المساعدات المالية التي تمس الحاجة إليها دفع عملية السلام أو إجبار السلطة الفلسطينية على طلب المساعدة ؟
وعلى النقيض من هذا العمل اللاإنساني ، كان ينبغي على ترامب أن يعلن عن نيته مضاعفة المساعدات المالية لهذه المستشفيات لمساعدتها في شراء معدات طبية متقدمة وجذب المزيد من الأطباء ذوي الخبرة والمهارة ، الأمر الذي كان من شأنه أن ينقل إلى السلطة الفلسطينية مخاوفه وتعاطفه تجاه إحتياجاتهم.
وأخيراً ، ربما يكون أمر إغلاق البعثة الفلسطينية في واشنطن القشة التي قصمت ظهر البعير. فتحت أي ظرف من الظروف كان استمرار الحوار مع الفلسطينيين أمرا ً ضروريّا ً، فإن لم يكن لأي سبب آخر، فهو لإبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة لأسباب عملية ورمزية.
كيف يمكن لإغلاق البعثة الفلسطينية أن يساعد في عملية السلام ؟ هذه الخطوة في تناقض تام مع أحد المبادئ الرئيسية لحل النزاع. إن ترك البعثة الفلسطينية مفتوحة سيوحي على أقل تقدير بأن ليس كل الأبواب مغلقة ، خاصة بعد كل الإجراءات العقابية الأخرى التي اتخذها ترامب دون تفكير.
والشيء الغريب في كل هذا هو أن نتنياهو كان يهلّل لترامب وكأنّ كلّ الإجراءات العقابية مفيدة لإسرائيل. فبقدر ما يتألم الفلسطينيون وقد يستمرون في المعاناة لسنوات عديدة قادمة . وبالقدر الذي سيطال فيه أمد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سيزداد الضرر الذي سيلمّ بإسرائيل أيضا ً.
لقد مكَّن ترامب ، أكثر من أي من أسلافه ، إسرائيل ، وخاصة تحت قيادة نتنياهو ، من مواصلة ترسيخ نفسها في الضفة الغربية ، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية وإصدار قوانين عنصرية تميِّز بشكل واضح ضد الفلسطينيين والإقتصاص بشكل ٍ منهجي مما تبقى من حلّ الدولتين.
ما زلنا ننتظر الكشف عن خطط سلام ترامب العظيمة التي تعتبر ، حسب كل المعايير ، مفصّلة لتناسب رؤية نتنياهو التي تمنع قيام دولة فلسطينية. وعلى هذا النحو ستتم الإشارة إلى “صفقة القرن” التي وضعها ترامب على أنها كارثة القرن ، تعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى عقود أخرى من تعميق انعدام الثقة وتكثيف الكراهية وإراقة الدماء ، مما قد يضع حداً لأي احتمال لحلّ الدولتين.
Artwork by Michael Anderson and Sam Ben-Meir