إن إلغاء خطة العمل المشتركة الشاملة (المعروفة بصفقة إيران) من قبل ترامب هو أمر مؤسف للغاية. يبدو أن ترامب لم يميل لا لما قاله الرئيس الفرنسي ماكرون ولا المستشارة الألمانية ميركل للإبقاء على الصفقة. ويبدو أنه قد أخذ بنصيحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للإلغاء الصفقة ، على الرغم من أنّ إيران تواصل الإلتزام التام بجميع أحكامها. وشيء خطير أن نرى بأن لا ترامب ولا نتنياهو يدرك بشكل كامل الآثار الإقليمية والدولية المترتبة على إلغاء الولايات المتحدة للصفقة من جانب واحد.
في كانون الثاني (يناير) منح ترامب بريطانيا وفرنسا وألمانيا مهلة غير واقعية – حتى يوم 12 مايو – لإصلاح ما يعتبره عيوب الصفقة ، بما في ذلك بنود الغروب التي تنتهي بموجبها بعض الشروط ، وبرنامج الصواريخ البالستية الإيرانية (الذي لم يكن جزءًا من الصفقة ) ورصد المواقع النووية الإيرانية المشتبه بها. هذه كانت مهمّة مستحيلة دون دعم من روسيا والصين ، ما بالك الحديث عن الفترة القصيرة من الزمن.
وما قام به نتنياهو من عرض الآلاف من الوثائق لتقديم دليل إضافي على أن إيران كانت تجري برنامجاً سرياً للأسلحة النووية ، ليس جديدا ً. وزعمه بأن الصفقة الإيرانية كانت تستند إلى معلومات لم تكن معروفة من قبل لا يبرر إبطال الصفقة ، خصوصًا لأن إيران كانت ملتزمة تمامًا بجميع أحكام الصفقة.
والحقيقة بأن إيران كانت تسعى وراء برنامج للأسلحة النووية هو السبب الرئيسي وراء جهود الرئيس أوباما للتوصل إلى اتفاق. وكما قالت رئيسة السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي ، فيديريكا موغيريني ، في بروكسل: “تم إبرام الصفقة بالضبط لعدم وجود ثقة بين الطرفين …” وردد وزير الدفاع ماتيس نفس المشاعر بالضبط ، مضيفًا أن “التحقق [الإجراء] … هو في الواقع قوي إلى حد قدرتنا على التدخل. “
الصفقة بالتأكيد بعيدة عن الكمال ، لكن الإنسحاب منها والبدء من الصفر قد يكون مستحيلاً ، خاصة في ضوء رفض إيران الشديد لتعديل الصفقة كما عبر عن ذلك وزير الخارجية ظريف بقوله: “لن نستجدي من أجل أمننا ولن نعود للتفاوض مرّة أخرى أو نضيف شيئا ً على صفقة قمنا بتنفيذها بالفعل بحسن نية “.
إن إلغاء هذه الصفقة سيجبر إيران على اختيار أحد الخيارين. الأول هو استغلال الإنقسام بين الولايات المتحدة والبلدان الأخرى الموقعة على الصفقة. وفي هذه الحالة يمكن لطهران أن تستمر في الإلتزام بأحكام الصفقة على الرغم من أن إيران ستستمرّ في المعاناة من عقوبات أمريكية من جانب واحد (ولكن ليس بهذه الحدة). وبموجب القانون الأمريكي يجب أن ينتظر ترامب 180 يومًا على الأقل قبل فرض عواقبها الشديدة والتي تشمل استهداف بنوك الدول التي تفشل في خفض مشترياتها النفطية من إيران بشكل ملحوظ.
الخيار الثاني لإيران هو الإنسحاب من الصفقة تماما واستئناف برنامجها للأسلحة النووية ، بل وربما الإنسحاب من معاهدة حظر الإنتشار النووي لمنع رصد برنامجها النووي من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهو أسوأ ما تتوقعه إسرائيل وحلفاء آخرون لأمريكا في المنطقة.
المساوىء الشديدة من إلغاء الصفقة:
أولاً ، يتفق معظم المراقبين على أن إيران ستستأنف برنامجها للأسلحة النووية، الأمر الذي قد يؤدي سريعا ً إلى انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. وهذا من شأنه أيضًا أن يزيد التوتر الإقليمي وإحساسًا متزايدًا بعدم الأمان من جانب دول أخرى في المنطقة ، وهذه وصفة لإشعال المزيد من الصراعات العنيفة.
ثانياً ، في ضوء العداوة الشديدة بين إسرائيل وإيران ، قد تقرر الحكومة الإسرائيلية بشكل استباقي مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية قبل أن تصل طهران إلى نقطة الإختراق. وهذا سيؤدي على الأرجح إلى حرب إيرانية إسرائيلية وجرّ دول ٍ أخرى ، بما فيها الولايات المتحدة ، لهذا الصراع ، الأمر الذي سيكون له عواقب مرعبة في جميع أرجاء منطقة الشرق الأوسط.
ثالثاً ، من شأن هذا التطور أيضاً أن يعمق عزم إيران على ترسيخ نفسها في سوريا ، وهذا بالضبط ما تريد إسرائيل تجنبه. هذا أيضا سيدفع إسرائيل ، كما فعلت في الماضي ، إلى مهاجمة المنشآت العسكرية الإيرانية في سوريا ، والتي يمكن أن تتصاعد أيضا إلى حرب ٍ إقليمية.
رابعاً ، سيكون لدى إيران كل الأسباب لتسريع برنامجها للصواريخ البالستية ، الأمر الذي يشكل خطراً أكبر ليس على إسرائيل فحسب، ولكن على حلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة. بالإضافة إلى ذلك ، سيكون لدى إيران حافز إضافي لزيادة دعمها المالي للجماعات المتطرفة لزعزعة استقرار المنطقة التي تشغلها وتلك التي ستستمر في استغلالها.
خامساً ، إن الإنسحاب أحادي الجانب من الصفقة من قبل الولايات المتحدة سيخلق بلا شك انشقاق بين حلفاء الولايات المتحدة ، وكذلك روسيا والصين ، ويمكن أن يمنع أي إنفتاح لتعديل الصفقة وهو أمر فشل ترامب في أخذه بعين الإعتبار.
وأخيراً ، ستتشوه مصداقية الولايات المتحدة بشكل خطير بين الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء ، خاصة في هذا الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق حول نزع السلاح النووي مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون ، الذي سيعطى سبباً مشروعاً للشك في أي التزام أمريكي بالتقيّد بالاتفاقيات المستقبلية.
الفوائد في حالة الإبقاء على الصفقة:
إن إدراك إيران بالتهديد ينبع من إحساسها بالتطويق ويجبرها على انتهاج سياسة دفاعية. وهكذا ، أعتقد أن إيران كانت راغبة في إعادة التفاوض بشأن بنود مختلفة من الإتفاقية لمنعها من الحصول على أسلحة نووية الآن أو في أي وقت في المستقبل ، ولكن فقط إذا تم التأكيد على أن الصفقة الجديدة ستحافظ أولاً وقبل كل شيء على النظام ، وأن الولايات المتحدة ملتزمة بعدم السعي لتغيير النظام الآن أو في أي وقت في المستقبل.
وبالنظر إلى أنّ هناك ستّ جهات أخرى(غير إيران) موقعة على الصفقة وأنّ هناك مدة 7 سنوات قبل انتهاء صلاحية أول شرط من شروط الغروب، يمكن لترامب مع حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين أن يبذلوا كل جهد لتجنيد روسيا والصين للتعاون الكامل. سيكون بإمكان كلتا القوتين العظمتين أن تدعما صفقة منقحة، حيث لا تريد أي منهما أن تنسحب الولايات المتحدة من الصفقة ، ولا أن تحصل إيران على أسلحة نووية.
كان من شأن ذلك أن يجبر إيران على أن تأخذ المطلب الجماعي على محمل الجد خوفًا من أن يتم إعادة فرض عقوبات كاسحة أخرى عليها والتي تريد طهران منعها بأي ثمن. ويمكن للدول الموقعة بشكل جماعي أن تمارس تأثيرا ً أكبر بكثير على إيران لتعديل الصفقة وتخفيف مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
قد لا تقتصر المفاوضات على إصلاح الصفقة الحالية ، بل على عرض مسار لإيران لتطبيع علاقاتها مع الغرب. إيران موجودة وستستمر إلى أجل غير مسمى. إن لدى الولايات المتحدة وبقية المجتمع الدولي كل الحق في مطالبة إيران بإنهاء جميع أنشطتها المؤذية في المنطقة. وبالمثل ، فإن لإيران الحق أيضًا في حكم نفسها كما تراه مناسبًا ، دون خوف وترهيب.
كان من شأن إعادة النظر في الصفقة الإيرانية أن يوفر فرصة ذهبية لتغيير الديناميكية الإقليمية طالما أن إيران مستعدة وراغبة في لعب دور بناء لتحقيق الإستقرار في المنطقة. كان ينبغي أن يكون هذا هو الهدف الأكبر وراء البحث عن صفقة جديدة، شامل ودائمة..
ولهذه الغاية ، كان يمكن مطالبة طهران ببدء محادثات حول برنامجها للصواريخ البالستية كصفقة منفصلة أو بالإقتران مع المحادثات الجديدة لتعديل الصفقة الحالية. كان من الممكن الضغط على إيران لتلطيف خطابها العدواني ، ووقف دعم الجماعات المتطرفة العنيفة وحملات القرصنة الإلكترونية وإنهاء بناء شبكة من الشركاء والوكلاء بمفهوم “محور المقاومة” – الأمر الذي يثير التوترات الإقليمية ويمكن أن يؤدي إلى مواجهات عسكريّة.
علاوة على ذلك ، قد تكون إيران مضطرة لتخفيف حدة التوتر الإقليمي في البلدان المتورطة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال اتخاذ المبادرة لإنهاء الحروب المروعة في اليمن وسوريا وإبقاء حزب الله وجماعات متطرفة أخرى في حدودها. وكان من الممكن أيضا حث إيران على التوقف عن تهديد وجود إسرائيل للحد من التوتر ومنع المواجهة المباشرة بين البلدين ، الأمر الذي يريد الطرفان في الواقع تجنبه.
وعلى الرغم من الخطأ الفظيع المترتب على إلغاء الصفقة، بإمكان ترامب الحفاظ على بقاء الصفقة على قيد الحياة إذا لم يقم بإعادة فرض العقوبات فوراً ومنح القوى الخمس الأخرى الوقت اللازم للعمل بشكل جماعي مع إيران والتوصل إلى اتفاقية جديدة – اتفاقية سوف تحدد مسارًا جديدًا في الشرق الأوسط واحتمال التخفيف من الصراعات المتعددة التي تلعب فيها إيران دورًا محوريًا.
وخلاف ذلك ، ينبغي علينا جميعًا أن نعد أنفسنا للإضطرابات الشديدة التي ستحدث في الشرق الأوسط وذلك بفضل تهور ترامب ونتنياهو المطلق اللذان فشلا فشلاً ذريعا في إدراك كم ستكون العواقب وخيمة.