إن إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي اعتبرت زوراً إنتخابات حرًة ونزيهة وممثلة لإرادة غالبية الشعب التركي لها تداعيات وخيمة على الصعيدين المحلي والأجنبي. ويدّعي مؤيدو أردوغان بأن الإنتخابات تعزز فقط الطبيعة الديمقراطية للبلاد وأن على منتقدي أردوغان الآن قبول القرار الشعبي. لكن الحقيقة هي أن أردوغان لم يتوقف عن فعل أي شيء لخلق جو اجتماعي وسياسي داخلي لقمع معارضته، الأمر الذي مكنه من الفوز بأغلبية صريحة من الناخبين. وهذا يثير أسئلة جدية حول شرعية فوزه الذي منحه سلطات كاسحة وجعل من تركيا دولة يحكمها في الواقع رجل ٌ واحد. لا شيء يمنعه الآن من السعي وراء طموحه المسيء والأعمى ، لأنه يستطيع الآن ممارسة السلطة المطلقة.
ولإضفاء الصفة الهندسية على انتصاره ، لجأ أردوغان إلى أساليب مختلفة للتلاعب ، بدءاً بعمليات إجراء الإنتخابات بموجب قوانين الطوارئ (التي أُقرت في يوليو 2017 بعد محاولة الإنقلاب العسكري الفلشلة). وقد منحته هذه القوانين إجراءات صارمة تسمح له بالحدّ من حرية التعبير وحق التجمع ، وبالتالي تقييد حرية منافسيه في شن حملة ضده على قدم المساواة.
دعا أردوغان عن عمد إلى إجراء انتخابات مبكرة لأنه كان خائفا ، لأن التوقعات السياسية والإقتصادية الطويلة الأجل ليست في صالحه. لقد أظهرت الأحزاب المعارضة جاذبية أكبر بكثير بينما كان الإقتصاد على حافة الأزمة.
ومنذ أن بدأ هيجانه ضد الصحافة قبل بضع سنوات ، أغلق أردوغان حوالي 180 مركزاً إعلاميّا ً وسجن ما يزيد على 150 صحفياً. وحاليا يتم التحكم بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل أصدقائه في كلّ الصحافة المطبوعة تقريبا ًوالصحافة على الانترنت جنبا إلى جنب مع الإذاعة والتلفزيون. وهو بذلك نجح في حرمان منافسيه من التغطية الصحفية خلال الحملة ، الأمر الذي أدى إلى تشتيت شديد في قدرتهم على مشاركة برامجهم السياسية مع الجمهور.
كان عازما على تقويض منافسيه. وكمثال على ذلك ، قام بسجن المرشح الرئاسي وزعيم الحزب الكردي صلاح الدين ديميرتاس الذي سجنه بتهم ذات دوافع سياسية، وهذه تلقي بمزيد من ظلالها على شرعية الإنتخابات.
لقد تم تحذير أكثر من 3 ملايين موظف حكومي وغيرهم من المؤسسات التي تعتمد جزئياً أو كلياً على الدعم الحكومي بأنه يجب عليهم ألا يصوتوا لأردوغان فحسب ، بل يجب أيضاً أن يضمنوا أن أقاربهم وأصدقائهم يقدمون له الدعم السياسي بشكل كامل أيضاً. وزاد من تقويض نزاهة الإنتخابات السماح للمسؤولين الحكوميين بإدارة مراكز الإقتراع وإحصاء الأصوات التي لا يوجد لها ختم رسمي.
وعلاوة على ذلك ، فإن عناصر من آلة إعادة انتخابه التي قادها موالون له كانت في الأساس المجموعة الوحيدة التي تملك الوسائل المادية والمالية للحملة خارج تركيا – ولو مع بعض القيود – لحصد أصوات ما يقرب من ثلاثة ملايين تركي يعيشون في أوروبا.
اتحد جميع أعضاء حزب العدالة والتنمية في تصميمهم على القيام بالحملة نيابة عنه حيث أنهم كانوا على مرّ السنين من المستفيدين الرئيسيين من 15 عاما في السلطة متمتعين بالسخاء والراحة التي قدمها أردوغان إلى الموالين له. إن أغلبية حزب العدالة والتنمية الذين وقفوا لإعادة انتخابه كانوا ملتزمين تماماً بضمان إعادة انتخابه حيث كانوا يتطلّعون إلى مستقبلهم السياسي المرتبط مباشرة به.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية لم يفز بأغلبية في البرلمان ، إلا أن تحالفه مع حزب الحركة الوطنية اليميني المتطرف قد ضمن له الأغلبية التي يحتاجها ، مما جعل البرلمان القادم ليس أكثر من مجرد ختم مطاطي لدفع أجندته مع غياب المعارضة فعليّا ً.
وبعد أن وصل إلى قمة السلطة دون أي عوائق يترك الأمر لأردوغان لمواصلة موضوعاته القومية وأجندته الإسلامية بقوة أكبر. وسيواصل مساعيه بقوة أيضا ً للعب دور اقتصادي واجتماعي وسياسي كبير في العديد من البلدان في الشرق الأوسط والبلقان.
وبالفعل ، فإن أردوغان مصمم على استعادة الكثير من النفوذ الذي كانت تمارسه في الماضي الإمبراطورية العثمانية. إن حلمه ، كما عبّر عنه هو والعديد من كبار مساعديه مرارا ، هو أن يرأس إحتفال الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية في عام 2023 ويتم الإعتراف به كأتاتورك (الأب) الجديد لعصر تركيا الحديث.
إن حصول أردوغان على السلطة المطلقة يجب أن يرسل الرعشة في قلب كل فرد ومؤسسة وضعها على القائمة السوداء ، لأنه سيواصل ثورانه بقوة أكبر ضد معارضيه. لا يوجد أي شيء يمكن أن يمنعه الآن من إخضاع المجتمع الكردي وحرمانه من حقوقه الإنسانية الأساسية.
سوف تخضع جميع المؤسسات الحاكمة لأهوائه، وسيكون لديه الكلمة الأولى والأخيرة في كل قضية من قضايا الدولة دون أي تحد على الإطلاق. كما ويُتوقع منه إصدار مراسيم على النحو الذي يراه مناسبًا وإخضاع السلطة القضائية بالكامل واستخدام الجيش لترهيب أي من جيرانه وتهديد الآخرين. ولا يخشى من القيام بعمليات توغل كبرى على أرض أجنبية كما يفعل حاليًا في سوريا والعراق في قتاله ضد الأكراد الذين يتهمهم بالإرتباط بحزب العمال الكردستاني.
يجب على القوى الغربية الآن إعادة تقييم علاقاتها مع أنقرة لأن أردوغان سوف يعرض بلا شك عضلاته في الداخل وفي علاقاته الخارجية ليطلع الدول على أجندته العثمانية الجديدة. ومن المؤكد أن هذا التطور سيزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط ويطرح تحديات خطيرة للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على وجه الخصوص ، لأن تركيا في ظل الدكتاتورية المطلقة لم تعد مؤهلة لأن تكون عضوًا في أهم منظمة دفاعية في الغرب.
يجب أن يُنظر إلى هذا أيضًا على ضوء حقيقة أن أردوغان قد طور علاقات وثيقة وودية مع أعداء الغرب الأقوياء – روسيا وإيران. لقد اشترى نظام الدفاع الجوي “إس 400” S-400 من روسيا ، وهو أمر لا يتفق سياسياً واستراتيجياً مع علاقات الغرب مع موسكو ويتعارض من الناحية التكنولوجية مع الدفاعات الجوية لمنظمة حلف شمال الأطلسي.
أردوغان يعمل بالترادف مع روسيا وإيران لإيجاد حل للحرب الأهلية السورية وتعمّد إبعاد الولايات المتحدة عن القيام بأي دور في تحديد النتيجة النهائية. ما من شكّ في أن أردوغان سوف يستمر في متابعة مشاعره الشعبية المناهضة للغرب وفي السياسات التي من شأنها أن تقوض مصالح الغرب ومصالح حلفائهم في الشرق الأوسط.
وفي حين احتضنت تركيا منذ فترة ٍ زمنية وجيزة قيمًا ديمقراطية ، انتهكت تركيا اليوم في عهد أردوغان كل مدونة لحقوق الإنسان وكل مبدأ من أشكال الحكم الديمقراطي. أي انتخابات ، مهما كانت حرة ونزيهة ، هي عنصر واحد فقط ولا تشكل في حد ذاتها الديمقراطية الحرة ؛ والانتخابات في تركيا لا تختلف عن ذلك. قد يعلن أردوغان أنه فاز في الإنتخابات بشكل ٍ نزيه وواضح ، ولكنه في الواقع استغل الإنتخابات لتعزيز سلطته تحت ستار الديمقراطية.
وعلى الرغم من أن التحول العالمي الحالي نحو قبول الحكم الفردي ، كما رأينا في روسيا بوتين ، والفلبين تحت قيادة دوترتي و كسي بينغ في الصين، لا يبرر تصرفات أردوغان ، فإنه من المحزن يخدم تفسير فوزه.
لقد خدع أردوغان شعبه قبل الإنتخابات ، والآن تم منحه يد أكثر حرية لمواصلة السعي بقوة لأي سياسة داخلية وخارجية حسب نزواته. ولذا يجب على الغرب الآن تطبيق سياسة عدم التسامح نهائيّا ً تجاه تركيا وعدم السماح لزعيم فاسد لا يرحم بتقويض المصالح الغربية في أوروبا والشرق الأوسط دون عواقب.