صلاح شعيب
بلة الغائب أحد تجليات سودان الصوفية الغنوصية. إذ يربط سدنتها علم الظاهر بأسرار الباطن، ويناجون الأرواح السفلى. ومع ذلك، فما تزال شياخة الغائب الحاضر في الإعلام محل جدل..ودجل، أيضا، عند كثير من مشيخات تنشط في كركوج، والزريبة، وكدباس، وأبو حراز. فالرجل برغم أنه يبرع في إظهار كراماته، وشغفه بالعلم اللدني، سوى أن تاريخه لم يكشف عن جوقة أتباع كثر. فهو يجيد صنع البهار للحوارات الصحفية، والتلفزيونية، أكثر من إجادة رعاية الزوايا، والحوزات المسيدية، وملمات الحواريين. من خلال الإعلام لا يتوانى من ضرب رمل التوقعات الضخمة. وفِي هذا يأخذ بلة ألباب الناس بتنبوءاته، ثم يجندلهم صرعى في انتظار الزمن. أما كراماته المدعاة بخصوص اصطياد سمكة ثم إرجاعها للبحر فنزوله مرة ثانية لقبضها هي ذاتها، فذاك أمر يسأل عنه مرافقوه الوهابيون.
لم نر حواريا لبلة. ربما ليس مهما. فهو ليس مثل عيسى في هذا الشأن، إذ إن حوارييه قلة. ولكنهم باذخون بالصيت، والتأثير، ومضاء السيف. هم من لدن نميري، والبشير، وما دونهما.
وثمة غموض يرافق تاريخ طفولته، إذا اعتمدنا على قول فرويد عن تأثير هذه المرحلة الباكرة في النفس بيد أن في شباب بلة، وكهولته، لا بد أنك تلحظ غرما متناهيا بأشغال الميتافيزيقيا الدينية، أو طرائف الباراسيكولوجي. وبلة ببساطة لسانه لا يبدو كعالم ارواح متفلسف مثل ثابت اللوسي.
إنه يعتمد على آيات قرآنية شائعة ليقيم حجته. ومن خلال لفظه لهذه الآيات تحس أيضا أنه ليس ضليعا في التلاوة ما يعني أنه غير متبحر في القرآن الكريم، ولغته ذات الجرس البديع. مثله مثل شيخ الأمين. فهما بالظاهر لا يمتلكان الدربة، والمران الكثيف، في التلاوة بما فيها من حرص على التشكيل النحوي، والإدغام المجود، وإظهار مخارج الحروف. ومن هنا يبدأ التشكيك في علم بلة، وقراءاته، وتبحره في كتاب المسلمين. ولكن لا تدعنا نظلم بلة كثيرا. فهو بالحق لم يقدم نفسه حتى الآن كعالم طريقة صوفية لها فلسفتها المحددة كشأن صوفيات العركيين، والتجانيين، والقادريين، والبرهانيين، الخ. بل إنه لم يسع ليصدر من موقع عالم الأرواحيات الذي يخلق أدبا تأويليا. فبله بالكاد يُزعم أنه صاحب تنبؤات، وكرامات، وصديق للجن ليس إلا.
تنبؤات بلة المتنوعة كثيرة. فقائمة تنبؤاته تشمل ادعاءه لنميري أن سفريته تلك ستكون الأخيرة، وأن الجن الأحمر سيسترد حلايب. وادعى كذلك بسقوط عرش رؤساء عبر ثورات الربيع العربي، وهناك نبوته عن لغز الطائرة الماليزية التي زعم جادا أنها موجودة ببلاد الجن الأحمر. وخلاف ذلك فقد منح البشير 31 عاما لا تنقص، ولا تزيد، بيد أنه أردف باستدراكه ليقول: إلا بأمر ربه. إذن هناك خطوط رجعى أحيانا لدى الغنوصي المجيد في ادعاء الاتصال بالعالم السفلي. والحقيقة أن الرياضة كذبت نبوءات بلة. ولكنه عاد فقال إن حديثه عن هزيمة ألمانيا من البرازيل في كأس العالم قد قلبته الصحافية غير الأمينة راْسا على عقب..! وأيا كان الأمر فأمامنا بعض زمن قصير للحكم على تكهنه حيال سنوات حكم البشير.
-2-
إن العلم الحديث ما يزال ينأى بنفسه من أشغال الباراسيكولوجي التي يجيدها بلة، والتي يعاني علماؤها من حجب الاعتراف الأكاديمي بهم. وأمثال شيخ الأرواحيين السودانيين في العالم الغربي كثر موجودون، ويمارسون ما هو أخطر مما يمارسه. فإذا ضاعت منك آلة ناي في القطار فما عليك إلا التوجه نحوهم. سيرسمون لك خريطة توصلك لمنزل ذلك الشاب الذي وجدها ثم دسها في دولابه الفضي. وإن قرأت كتبهم فإنهم يحدثونك كيف أنهم يحرقون الشياطين التي تقيم لسنوات في البيوت المسكونة، ويعالجون المقعدين، وحالا يطلقون ساقيهم للريح فرحين. وإذا دخلت مغارة اليوتيوب فإن زملاء بلة الغائب الغربيين سيدهشونكم بأعمالهم الخوارق. إنهم يمشون في الماء، ويبلعون الأمواس، ويعالجون الأعمى، ويكسرون العصي الخشبية طق أمامك لنصفين، ثم يعيدون وصلها حالا بلا ثقب.
إذا كانت موهبة بلة الجوهرية هي التعامل مع الجن، مسلما، أم نصرانيا، وتشريف جلسات أعراسهم كضيف ثمين، فإن جنه لم يحقق لنا لا تنمية، ولا تقدما، بالشكل الذي نشده د. عمر أحمد فضل الله في مؤتمر الحوار الوطني عند بدء الإنقاذ. وغالب الظن أن للباراسيكولوجي بعض مقيدات برغم أن هناك علماء في المجال أكدوا أن التكنولوجيا، ومن ضمنها أعمال الإنترنت، من اقتراحات، وتنفيذ، بشر يقطنون هناك في ثبج الفضاء.
وهناك مزاعم عديدة هنا أن وزارة الدفاع الامريكية، ووكالة ناسا الفضائية، يتعاملان مع كائنات أشبه بالبشر، وكذا يفعل الروس، والألمان، وحتى إسرائيل. وقبل فترة طالب علماء امريكيون المؤسستين الأمريكيتين بإزاحة السر عن هذا التعاون القائم بينهما وتلك الكائنات لعقود طويلة. ولاحقا نشرت ناسا أنها على وشك أن تنشر للبشر ملفات تعاونها مع الجن بالتفصيل بينما يحذر بعض العلماء من أن ذلك البوح سيلقي بتأثيرات هائلة على القناعات الدينية، والثقافية، والفكرية للبشر أجمعين.
-3-
مهما انشغل السودانيون ببلاهم، وكذا الأميركيون، فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها أننا ما نزال بعيدون عن العقلنة العلمية لعلاقة البشر بالجن. فعلى مستوى الأديان يظل الايمان ب”الكائنات الغريبة” والممارسات مثل الملائكة، والشياطين، والجذب، والاختفاء عن أعين الناظرين، ومحاربة القرود بجانب المجاهدين، وطيران الشيوخ، وتحويل العرقي الى لبن، جزء لازما داخل تناصيص العقيدة، أو المذهبية، أو الطريقة.
ولكن أمام العلم الحديث – بتأطيره المادي – كثير عقود، أو ربما قرون، لتشكيل بعض الاعترافات الأولية بظاهرات العالم اللدني، شخوصا، وأحداثا. فالداتا التي شكلها علماء غربيون في مجال الباراسيكولوجي ما تزال تحاول ملاحقة علماء آخرين لتأسيس وعي في مجال الأكاديميا الغربية للاعتراف بهم، إن لم يكن هناك اعتراف بشواهد الداتا التي جمعوها لسنوات طويلة، وتحوي الدراسات، والكثير من المواد المسجلة، عن تأثير هذه الكائنات على مستوى بناء الأمم، وهدمها كذلك. ولعله في حال كشف ناسا لقائمة تعاملاتها مع الجن، أو الكائنات الفضائية الذكية، كما نشر مؤخرا، فقد يتخلى علماء صقور عن صرامتهم الأكاديمية في الفصل بين علم الظاهر وعلم الباطن. وعندئذ يمكننا فهم كرامات بله الغائب، وبقية كرامات الصوفيين السودانيين، وموضعتها في إطار مفهوم من إطارات الباراسيكولوجي المتعددة.
الطريف أن كثيرين يستنكفون ظاهرة تنبؤات بله الغائب وكراماته رغم أنهم ينتمون لبيوتات صوفية عماد شهرتها هو كرامات مشايخها. ففي إرثنا هناك المهدي، والخليفة عبدالله، وبقية رموز صوفية جهادية لا يتحرجون من القول بمصادقتهم للنبي خضر، وحضورهم الذاتي يقظة في جلسات نبي الإسلام. وربما خلال ادعاءاتهم هذه تكونت ثورة خلقت هذا السودان الموحد. بل هناك شيوخ صوفيون يؤكدون أداء صلواتهم الخمسة في مكة بينما هو يجاورون الْحَوَارِيينَ في الجلوس على أرض الخلوة.
أيا كان تساوق، أو مسايرة، ادعاءات بله الغائب لإرث الصوفية السودانية المنصوص بعضها في “الطبقات”، فإن محاولة عقلنة الدين ما تزال بحاجة إلى جهد جهيد. فالإيمان لكونه مرتبطا بحدس الإنسان، وتذوقه الشخصي، فمن الصعب تصنيفه وفق العلم الحديث الذي نشأ وفق المعارف التجريبية، وليس الميتافيزيقية. باختصار: بله الغائب عند إفصاحه عن كراماته، ونبوءاته، وعلاقته بالجن، ينهل من تراث الإنسان الغيبي السوداني الذي استثقل عليه عالم الظاهر