د. عائشة البصري
في مقال نشرته صحيفة الراكوبة يوم 7 مايو، صرح السيد ياسر عرمان بأن “القوات المسلحة والدعم السريع ساهموا في تغيير النظام القديم واعتقلوا رأس النظام واتباعه وبذا أصبحوا جزء من قوى التغيير.” وفي موقع آخر جزم بأن عبد الفتاح البرهان وحميدتي “هم الذين وفروا الآلية الفاعلة ليطيح الشعب بعصابة الإنقاذ.” تصريحات شكلت تحولا بنسبة 360 درجة تجاه من كان بالأمس القريب يصفهم بـ “مليشيات الجنجويد”، “مجرمي الحرب” و”المرتزقة” الذين اتهمهم بـ “تدمير نسيج المجتمع السوداني” .
شرعنة صورة المجلس العسكري وتطبيع مليشيات حميدتي لم يقتصر على عرمان. فلقد كان الصادق المهدي أكثر مَلَكِية من الملك عندما صرح لوكالة فرانس برس يوم فاتح مايو بأنه: “يجب أن لا نستفز المجلس العسكري بمحاولة حرمانه من شرعيته، أو حرمانه من دوره الإيجابي في الثورة.” وفي مؤتمر صحفي أجراه يوم 27 أبريل، أثنى بشأن خاص على حميدتي و “الدور الإيجابي” الذي قام به في المصالحة القبلية وانحيازه للثورة. موقف يضرب عرض الحائط ما جاء في بيان حزب الأمة لـ 22 أبريل: “لقد ظهرت لنا جلياً نوايا وأجندةُ بعضِ أعضاء المجلس العسكري، وسعيُهم إلي إعادة إنتاج النظام السابق، ورعاية الثورة المضادة.”
وإن اختلف أعضاء تحالف قوى الحرية والتغيير على عدد من القضايا فإنهم أجمعوا على فكرة انحياز الجيش للثورة التي وظفوها لتبرير التفاوض مع مجلس غير شرعي يضم كبار رموز النظام. إذ برر المحامي ساطع الحاج، خلال المؤتمر الصحفي ليوم 2 مايو، برر تغيير موقف هذه القوى تجاه المجلس بـ “انحياز الجيش للثورة” الذي كان وراء تغيير نظرتهم لتشكيلة مجلس السيادة من مدنية صرفة لمدنية-عسكرية.
فهل فعلا انحاز الجيش ومليشيات الدعم السريع للثورة وحموا الشعب؟ وهل يمكن لمليشيات متهمة بجرائم الابادة أن تكون جزءاً من التغيير نحو الأفضل؟ وهل يرجى خير من بقاء جنرالات البشير في السلطة الانتقالية؟
لم يحم الجيش الثورة، بل ثار ضدها
حقيقة مواقف المنظومة الأمنية بمختلف أذرعها (الشرطة و القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات ومليشيات الدعم السريع) من الثورة لم تتسم بالبساطة. فعلى عكس موقف جهاز الأمن الذي قتل وقمع الثوار في صمت وبوضوح تام، أصدرت قوات الشرطة توجيهاتها لحماية المواطنين والتجمعات السلمية. التزمت الى حد كبير بتأدية واجبها في كبرى المدن قبل الثورة، لكن اعتداءها الأخير على المتظاهرين في الخرطوم بحري يبطل أكذوبة الانحياز. أما في الأقاليم البعيدة عن الأنظار والتي فرض عليها النظام حربا لا نهاية لها، فلقد شاركت في قمع وقتل المدنيين الثوار كعادتها.
كذلك الأمر بالنسبة للجيش، فلقد انقسم بين قيادة ملتحمة مع النظام وجزء من القاعدة خالف أوامر المؤسسة ليحمى المواطنين، فقاوم حتى الموت كبقية أبناء الشعب. وبرز هذا الانقسام خلال هجوم قوات جهاز الأمن ضد المعتصمين أمام القيادة العامة بالخرطوم يوم 8 أبريل. بعد أن تصدى أفراد من الجيش ببسالة لهجوم أسفر عن قتلى من بينهم جنديين، لم يُبد اللواء أحمد خليفة الشامي، الناطق الرسمي باسم الجيش، أي اعتراض او إدانة للجناة في حديثه تلفوني أجراه الغد مع قناة “الحدث”. بل أقر بأن عملية فض الاعتصام الذي وصفه بـ “تجمعات غير مشروعة وضد القانون”، قد نٌفذت من طرف أجهزة أمنية وفق خطة متفق عليها.
موقف مريب لمؤسسة يقبل كبار جنرالاتها أن يُنتهك فضاؤها ومبانيها ويُقتل على عتبات ثكناتها وأمام أعينها المواطنون الذين تقع مسؤولية حمايتهم على عاتقها. كانت مؤسسة الجيش على وشك أن تنهار وتفقد ما تبقى لها من مصداقية لو لم يهب لإنقاذ شرفها “صغار” الضباط الذين اشتبكوا مع قتلة جهاز الأمن في كل من بورتسودان والخرطوم وحتى في دارفور.
مؤسسة الجيش التي يمثلها اليوم الجنرال البرهان لم تنحاز للشعب وظلت ملتزمة بقرارات البشير ونظامه إلى أن أخفته عن الأنظار هو وكبار أعوانه. فلم تنتشر بجنودها ودباباتها في كل أنحاء البلاد لحماية الشعب من بطش جهاز الأمن والدعم السريع وكتائب الظل، بل إن الشعب هو الذي ذهب إليها مخاطرا بحياته وهو يهتف “سلمية سلمية” و”شعب واحد جيش واحد.”
ما حرك مؤسسة الجيش ليس الخوف على الشعب وإنما الخوف على نفسها منه ومن انقلاب الضباط الذين بدأ التحاقهم بالشعب يشكل تهديدا حقيقيا بالنسبة للنظام. هذا ما اعترف به اللواء الشامي في نفس التصريح لقناة الحدث: “لقد تابعتم منذ السادس من أبريل 2019 ما جرى ويجري بالقرب وحول القيادة العامة للقوات المسلحة وما ظهر من بوادر حدوث شروخ في مؤسسة عريقة نبهت به اللجنة الامنية العليا رئاسة الدولة.” الشروخ والخوف من انقلاب القاعدة على القمة هو ما دفع قيادة الجيش والأجهزة “الأمنية” الأخرى للإسراع في ثورة مضادة عبر مسرحية الانقلاب على النظام.
“جاء دور ناس الخرطوم يعرفوا الدعم السريع على حقيقته”
أما عن انحياز مليشيات الدعم السريع للثورة، فلا يخفى على تحالف قوى الحرية والتغيير أن هذه المليشيات شاركت جهازي الأمن والشرطة في قمع الثوار بالرصاص الحي في كل من نيالا وزالينجي والجنينة والأبيّض مما خلف عددا من القتلى والجرحى. وفي الخرطوم، كانت توجيهات حميدتي تحث على الاعتداء على الثوار أكثر من حمايتهم. ففي الخطاب الذي ألقاه يوم 9 أبريل في ضواحي العاصمة أوصى حميدتي مليشياته بعدم التدخل في “التظاهرات السلمية الحضارية المحمية بالقانون”، لكن سمح لهم في نفس الوقت بتوجيه بندقياتهم نحو”المجرمين”، “المرتزقة”، “المتفلتين” الذين يتسببون في “الفوضى” بإحراقهم اللساتك، ويقصد بهم الثوار بكل تأكيد.
وهنا تكمن الإشكالية العظمى: أليس من العبث أن يتحدث عن القانون والفوضى والتفلت والارتزاق مجرم جند وسلح وقاد حملات إبادة جماعية موثقة دوليا ويجني المليارات من تهريب ذهب جبل عامر ومن بيع الأطفال لأمراء الخليج كي يقتلوا ويُقتلوا في حرب اليمن؟ و لنفترض أنه فعلا انحاز للثورة، هل كان ليشكل ذلك مفخرة لها وعربونا لنجاحها؟
بالطبع لم ولن يحمي حميدتي إلا مصالح نظام حوله من قاطع طريق إلى رجل دولة، و مصالح أبناء عمومته في التشاد وأمرائه في الخليج وأسياده في أوروبا والولايات المتحدة مثلما فعل البشير من قبله. ففي نفس الخطاب الحربائي أثنى حميدتي على نجاح مليشياته في القضاء على “التمرد” و”التفلت” وجمع السلاح واختتم قائلا: “جاء دور ناس الخرطوم يعرفوا الدعم السريع على حقيقته”. جملة تقشعر لها الأبدان لأن حقيقة هذه المليشيات أبشع مما يتصوره سكان العاصمة ولا تعرفها إلا ضحاياهم في دارفور وجبال النوبة.
منذ انتشار الجنجويد بالآلاف في العاصمة على نحو يبث الرعب في النفوس، سُجلت عدة حوادث اعتدوا فيها على الثوار بالضرب بالعصي والسياط وأعقاب البنادق وحاولوا أكثر من مرة فض اعتصام الخرطوم بالقوة. خرج الجنجويد مع الشرطة ليعتدوا في واضحة النهار على مجموعة ثوار في الخرطوم بحري ساعات قبل حدوث مجزرة 13 مايو التي استبيح فيها دم خيرة الشباب على عتبة القيادة العامة دون أن يحرك الجيش ساكنا هذه المرة، بل خرج لينسب الجريمة الى “مندسين” يحملون السلاح بين المعتصمين. وهو بذلك يضع على الأقل حدًّا لأسطورة حمايته للثورة.
الجيش: أنا أكعب من حميدتي
هذه بعض الحقائق عن مجلس يتشكل من ممثلي أجهزة منظومة قمعية أكثر منها “أمنية”، شاركت كلها وبدون استثناء في حملات الإبادة التي شنها النظام على المدنيين في غرب البلاد حسب توزيع أدوار محكم. فكانت طيارات وحوَّامات النظام تمهد أجواء الرعب عبر قصف جوي يستهدف المدنيين والمتمردين على حد سواء ثم تدخل مسرح الجريمة قوات الحكومة بجيشها وشرطتها وأمنها وجنجويدها فيقتلون ويغتصبون وينهبون جنبا الى جنب، ثم يحرقون القرى والأسواق والمزارع والمساجد و ينسحبون جماعات في سياراتهم وشاحناتهم وجيادهم وجمالهم لينسبوا بعدها جرائمهم لجهات “مجهولة” أو عناصر “متفلتة.”
هذا ما قصد به الجنرال صلاح الدين عبد الخالق سعيد حين همس في المكروفون خلال مؤتمر صحفي بالخرطوم بأنه “أكعب من حميدتي”، هو الذي وصف التنسيق الحكومي لحروبه على هذا النحو: “منذ أمد طويل وعندما بدأت العمليات العسكرية لمجابهة التمرد ظلت تمثل القوى الجوية عنصراً مهماً (…) وهي التي تمهد الأرض لبقية القوات المسلحة للاستيلاء على الأرض.”
السياسة التي مازال ينهجها النظام منذ ثلاثين سنة مبنية على شعار “فرق تسد” و” إذهب إلى القصر رئيسا وسأذهب إلى السجن حبيسا”. ولقد طبق النظام سياسة التفرقة والخداع على المنظومة “الأمنية” بأكملها عبر الإفراط في تغيير أسماء وحداتها وزيها العسكري وتباين وتداخل مهامها وتضارب مواقفها وهجوم بعضها على البعض. ضاع الشعب وهو يحاول أن يتعرف كل مرة على هوية جناة يتهمون بعضهم البعض أو يلقون باللوم على “جهات مجهولة” في حين أنهم يتعاونون وينسقون حروب النظام ضد المواطنين.
كبار أعضاء هذه المنظومة هم اليوم شركاء الثوار في مشروع “التحول الديمقراطي” وأقل ما يمكن أن يقال في هذا التحول أنه مجازفة كبيرة نظرا لماضي العسكر الحافل بالإجرام والخداع. حتى الجنرال ياسر عبد الرحمن العطا الذي يبدو الأكثر تسامحا وتصالحا من بين أعضاء المجلس ما هو إلا القائد السابق لمقاتلي الجنجويد (قوات حرس الحدود) الذي شارك في فظائع الجيش في “جميع المناطق العسكرية الشرقية والجنوبية والغربية” كما توضح ذلك سيرته الذاتية. رقاه البشير في فبراير الماضي من رتبة لواء ركن إلى الفريق لولائه وتميز خدماته القتالية في دارفور وجبال النوبة على الخصوص.
بناءاً على هذه الحقائق، من السابق لأوانه الاحتفال باتفاق يجمع قوى الحرية والتغيير برجال البشير كخطوة أولى نحو “الخلاص من نظام الإنقاذ الشمولي” الذي قامت من أجله الثورة. وإن كان لابد من الاحتفال، فلنقل بأن هذه الشراكة قد تجنب البلاد مواجهة مع عساكر ومليشيات بلا رحمة ربما لم تحسب لها قوى الحرية والتغيير حسابا وهي تطالب بتنحي البشير؛ مواجهة من شأنها أن تدخل البلاد في دائرة حروب أهلية جهنمية لاشك أن شعب السودان في غنى عنها.
إعلامية من المغرب، ناطقة رسمية سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) وحائزة على جائزة رايدنهاور الأميركية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015 *