ويني ماندلا (1936-2018): يترك النضال خرائب في أثره

بقلم عبد الله علي إبراهيم
رحلت عنا إلى دار البقاء في الأسبوعيين الماضيين السيدة ويني ماندلا (81 سنة)، القيادية بالمؤتمر الأفريقي بجنوب افريقيا والعضو البرلماني عنه. ومعروف أن الزعيم نلسون ماندلا، الذي تزوجته في 1958، هو طليقها منذ 1996. وظل هذه الطلاق وحيثياته، التي هي ملومة فيه كما سيرد، سوءة لاحقت ويني وحجبت عن الأجيال اللاحقة وسامتها كمقاتل لم تلن له قناة، وكفاتح لكوى الطرق الخطرة لجيل أفريقي مشبوب بالحرية الوطنية. ولا مزيد في هذا الباب، في اعتقادي، على ما قاله البشوب ديسموند توتو، الحائز على جائزة نوبل لجهادة المستميت ضد نظام الأبرتايد في جنوب أفريقيا في نعيها: “: لم تقبل الخضوع لسجن زوجها، ولا انتهاك قوى الأمن لأسرتها، ولا الاعتقال، ولا الحجر على تحركاتها والنفي. وألهمت بتحديها الشجاع أجيالاً من الناشطين في النضال السياسي.”
لعل أفضل مدخل لفهم تردي العلاقة بين ويني ونلسون هو كلمة سديدة للأخير قال فيها: “يترك النضال خرائب في أثره”. فمن شأن العبارة أن تنقلنا للتعاطي مع طلاقهما المؤسف من حيز بيت الزوجية إلى رحاب النضال ذي التكلفة العالية الذي انشغل به الجيل الأفريقي لما بعد الحرب العالمية الثانية ضد نظام الأبرتايد، (1948-1994). فلقد كان طلاقهما المدوي الحرج من أطلال ذلك النضال.
دام زاوج ويني ونلسون 38 عاماً (1958-1996). وقال قراهام بوبينتون من جريدة التلغراف في 2013 إنهما قضيا معظمها في عالمين متوازيين. ولما التقيا بعد خروج ولسون بعد قضاء سبعة وعشرين عاماً من السجن يداً في يد، رافعين يديهما مقبوضتين رمزاً لحزبهما الوطني الأفريقي، كانا شخصين مختلفين جداً. كان لقاؤهما يومها هو لقاء القديس بالخاطئة كما اتفق لجمهرة كبيرة من شيعة القديس. أفرغ السجن الطويل نلسون من كل ذنب. ولم يكن ذلك لأنه فوق الشبهة بل لأنه لم يكن بوسعه عملياً ارتكابه. ولما خلا من الذنب صاري قديساً ينفث سماحة متطهراً حتى من صبوة الثورة. ونضحت بذلك أقواله السائرة من مثل قوله ” كسبك الأكبر يأتي من التراحم لا من أفعال الثورة” أو مثل نهيه عن الضغينة التي مثّلها كمن يشرب السم أملاً أنه سيهلك بذلك أعداءه. وهكذا أفرغ السجن نلسون من مكابدة النضال اليومي فنزلت عليه سكينة التأمل التي تتزايل بها الخصومة وتورق بركة العفو والغفران.
وكانت ويني، من الجهة الأخرى، في غمرة المقاومة أصالة عن نفسها وباسم زوجها. وكانت بالنتيجة عرضة للخطأ من جهة السياسة وصون ميثاق الزوجية. وكانت في تلك الدوامة ترعرع، وهي بين السجن (1969) والنفي (1977) والملاحقة، حقدها على نظام العنصرية البيضاء كما تربي طفلاً لها. فقالت: “عرفت كيف أكره” بينما عرف نلسون كيف يحب. فقضت 17 شهراً في 1969 في حبس انفرادي في أغلب أوقاته. فعانت من الهلوسة ونوبات الغمران والتعذيب كمثل ابقائها صاحية لخمسة أيام حسوما. ومن آيات هذا الحقد قولها المُتناقل للسود في حي سويتو، قلعتها في جنوب غرب جوهانسبيرج، في 1985، عام ذروة ثورتهم التي جعلوا فيه أحياءهم عصية على الحكم. قالت مغلوبة على أمرها ومصممة: “”لا نملك البنادق ولكن بعلب ثقابنا، وبعقود النار حول عنق الخونة منا، سنحرر هذا البلد”.
عاشت ويني منذ خروج نلسون من السجن الطويل وطلاقه منها في 1996 في سعير لعنة القديس. وبلغت من ذلك عزلة قال بها أحدهم إنها انتهت إلى مصدر إزعاج على هامش سياسية جنوب أفريقيا بعد أن لعبت دوراً مركزياً في محاربة نظام الفصل العنصري من الستينات حتى الثمانينات. واختلطت شؤون البيت وشؤون السياسة في المآخذ التي قذفت بها إلى الطرف من المركز. فقد عابوا عليها رفقة الرجال في غيبة زوجها. وأخذوا عليها الشراسة التي أدت في حالة بعينها إلى قتل الصبي ستومبي سيبي (14 سنة) بتهمة التجسس لصالح الأمن جنوب الأفريقي. وقتله رفاقه في فريق كرة باسم “مندلا المتحد” الذي كان بمثابة حرسها الخاص حين غلت سويتو بالثورة في 1985. كما اتهموها باختلاس أموال في منصبها كوزير دولة في حكومة نلسون الأولى قيل إنها صرفتها على عشيق لها. ووصفها واصف بأنها صارت ذات “سمعة ممرغة في الجريمة والاختلاس”.
وفي مزج عثرات ويني الزوجية والسياسية هكذا ظلم. فمحاكمة عثرات البيت من اختصاص زوجها أما عثرات السياسة فمن اختصاص محاكم العدالة. وانتهت “جرائمها السياسة” أمام محاكم الدولة، بعد الاستئناف، إلى غرامات ربما بتدخل من نلسون من وراء ستار. وود المرء لو أن وني لم تسفر في عاطفياتها كما أسفرت. فحتى نلسون، القديس، لم يمانع أن تفعلها من وراء ظهره ولكن من وراء حجاب. وبلغ من غضبه أن قال أحدهم إنه غفر لأعدائه جميعاً ولكنه لم يغفر لوني. وسقطت ويني من جراء تلك التهم المزيج من أعين الناس في الخارج خاصة ممن افتتنوا بنلسون الراهب. ولكن ظل لها رصيد كبير من الشعبية بين عامة الناس والنساء والدوائر الراديكالية في جنوب أفريقيا حملتها للبرلمان متى أرادت، وإلى قيادة اتحاد نساء المؤتمر الوطني مرات.
قلنا إن أفضل نهج للنظر إلى تهافت زواج نلسون وويني هو أنه من خرائب نضالهما الاستثنائي. ونضيف أن عامل الجندر هو أفضل تحليل لسقوط ويني من نظر الكثيرين. وليس أدل على ذلك من عبارة وردت في نعي اتحاد نساء المؤتمر الوطني الأفريقي لها. جاء فيها: “ستظل ويني مقاتلة إلى الأبد ضد الأبوية وشوفينية الذكور في السياسة وخارجها”. وساق مثل هذا النهج الجندري في الولاء لويني إلى الطعن في قداسة نلسون بالتفتيش عن زلاته العاطفية خارج الزوجية في مثل ما تجده في كتاب ديفيد جيمس سميث “ماندلا الشاب” (2010). ففتش الكتاب عن تلك السقطات خلال زواجه الأول من إيفلن ميسي (1944-1956). وهي سقطات مسرفة وقاسية حتى قالت ميسي في 1994 مستنكرة الترويج له كالمسيح: “كيف لرجل زان هجر زوجه وأولاده أن يكون مسيحاً. يتعبد الناس نلسون في جميع العالم بإسراف. ونلسون رجل خلت من قبله الرجال”. وزعمت امرأتان أنهما بنات له من ثمرة تلك العلاقات خارج حرم الزوجية. وطلبت واحدة منهما شديدة الشبه به أن تراه وهو مسجى على فراش الموت. ورفضت أسرته السماح لها بذلك. وكتبت أمينا كاكهاليا، الناشطة العتيقة في مقاومة الأبرتايد، عن علاقتها العاطفية معه بعد خروجه من السجن في كتابها “حين يواقع التاريخ الأمل”. وقال سميث إن نلسون اعترف بأنه زير نساء في المسودة الأولي لكتابه “المشوار الطويل للحرية” التي توافر على كتابتها في السجن. فقال فيها إنه عاش بعد زواجه الأول في الخطيئة. ولم يفصل. بل قال نلسون نفسه إنه ليس قديساً إلا إذا كان القديس من يذنب ويقيل عثرته.
وخرائب بيت الماندلا حزينة توحي بالتفكر في “ملكوت” السياسة والتضحيات الجمة التي يبذلها الناس في حرمها. وصار معروفاً ب”الذكورية” توظيف واقعة هدم البيت لتوزير المرأة مثل ويني وحدها ضاربين عرض الحائط بالسياق الذي تتداعي فيه الأشياء. وتدفع نساء مثل ويني ثمن هذا الخطيئة من جانب واحد في رابعة النهار والتاريخ. فقد كان زواجهما انفصالاً لا سُكنى واحدهما للآخر. فما تزوجا في 1958، وهي بنت ثلاثة وعشرين عاماً وهو في الأربعين، حتى اضطر للاختفاء من وجه الشرطة إلى عام 1962. ولم يكلمها برحلته في 1961 إلى عدد من الأقطار الأفريقية طلباً للسرية المسرفة. وبعث لها لتلقاه في وكر ما للحزب بعد عودته ليقول لها إن لقاءهم لن يطول. وقال: لقد رأيت عينيها تترقرق بالدموع وهي تودعني. ولم ينعما ببيت معاً إلا لماما قبل سجنه في 1964. وكان البيت عبارة عن مركز للحزب من فرط الداخل والخارج. ومن أحزن ما قرأت قول ويني عنه: “لم أجد وقتاً كافياً لحبه ومع ذلك تجاوز حبي له كل سنين فُرقتنا واحدنا عن الآخر. لربما لو توافر لي الوقت لأعرفه بصورة أفضل لربما وجدت فيه الكثير مما يعيبه. ولكني لم أجد فسحة من الوقت إلا الوقت الشحيح الذي أحببته فيه وانتظرته به كل هذا الوقت.” وقالت في ذكرياتها إنها احتفظت بقطعة من الكيكة المراسمية للزواج حسب طقوس جماعتها الإثنية لأن دورتها التقليدية لم تكتمل. فقد طَعِموا منها في بيتها وتبقى أخذها إلى بيت نلسون ليطعموا منها. ولكن شاغل السياسة أخذ نلسون من دورة تمام الطقوس. وقالت إنها انتظرت عودته من السجن لاستكمال الدورة. ولم يقع هذا لسببين. أولهما طلاقهما وثانيهما اقتحام بعض المحتجين السود بيتها بعد مقتل الصبي كما تقدم وعوسهم فساداً في البيت ضاعت قطعة الكيك بأثره.
قال والد ويني لها وهو يعقد لها على ولسون عالماً بزواجه من السياسة: “إذا كان زوجك سحاراً فكوني شكلوتة (سحارة)”. وكانت هي السحر الذي انقلب على الساحر في الثورية. فلما رأت منه ما رأته إسرافاً في العفو والتعافي استنكرته قائلة: “ذهب ماندلا للسجن كثوري يزبد ناراً. ولكن أنظر إلى حاله وقد خرج من السجن. لقد خذلنا ماندلا. لقد وافق على مساومة خاسرة للسود”. وربما صح بعض قولها متى تعمقنا الأزمة الكأداء التي يمر بها حزبهما الوطني الافريقي الحاكم. وقالت إن أهل العفو والمغفرة من السود ربما ظنوا أنهم ينضحون نبلاً و يجترحون معجزة سياسة. ولكن عليهم أن يتواضعوا ويعترفوا أنهم لم يصيروا قديسين إلا بفضل النضال التي اضطلعت هي به وآخرون لعقود من أجل الحرية. بل قال أحدهم إن نلسون ماندلا ربما كان نسياً منسيا لولا جهادها الذي حفظ ذكره لأنه كان بوسع سلطات جنوب أفريقيا إخراس صوته إلى الابد لولاها.
كان اسم ويني عند ميلادها “نومزامو”. ومعناها في لغتهم المولود للمحاولة لا يني. وطابق اسمها تاريخها. صعدت روح ويني إلى بارئها. ودخل النصل جرابه. ليباركها الرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *