هل أراد البشير تحدي السعودية أم حج البيت؟
صلاح شعيب
حين طالبنا بضرورة أن يكدح علماء النفس لتفحص نفسية زعماء البلاد لم يفهم كثيرهم المغزى، وطفقوا يهددون، ثم يشتمون، فيسيئون بلا طائل. فالحقيقة أن المناداة بكون أن زعمائنا محتاجون لتحليل نفسي ليس هدفه شتمهم، أو الإساءة إليهم ما دام أن الفحص لم يتم بعد ليثبت أنهم يتصرفون وفق معطيات سخيمة من البيئة، أو أنهم يسلكون في سحابة يومهم كبشر أصحاء. وحتى لو أثبت الفحص أنهم يتصرفون لأسباب معينة تعمقت منذ طفولتهم فإن ليس في ذلك حرج. فالمهم هو ضرورة اخضاعهم لهذا التشخيص، والذي حتما لا يتطلب وجودهم في العيادة إن رفضوا المثول. على أن المهم إذا ثبت أنهم يتعاملون وفقا لما تمليه عليهم “نفسيتهم غير المتعقلنة”، فيجب أن يجدوا العلاج المناسب الذي يجعلهم يولدون مرة أخرى بآلاف أيام هذا الوجود. فعلماء النفس قادرون من خلال متابعة السلوكيات، والتصريحات، والمواقف، على الوصول إلى الترسبات النفسية العميقة التي تجعل من القادة السياسيين فاشيين، وساديين، وطغاة دمويين. ومع ذلك يتشبثون بالسلطة ويذيقون شعوبهم، عبر هذه الترسبات، مر العذاب، وسوء المآل، وكدر الحياة.
فالبشير، مثلا، عرف عنه، غير رعونته وحماقاته، من خلال تسريبات لمقربين منه حماقات طائشة. كما أن زملاء له منذ أيام الكلية كانوا يسمونه “عمر العوير”، ليميزوا بينه وعمر آخر من دفعته. ونحن نقرر هنا، تقريرا، ولا نتهكم. ولكن ذلك السلوك الذي جعل زملاءه في الكلية يسمونه هكذا هجاء ً لا بد أن قد سبقته تصرفات غير سوية بعد مراقبة. وحين نقل الترابي عنه ذلك القول المشين في حق أمهاتنا وأخواتنا في غرب السودان، ومناداته لزميل له من قادة الحزب بكلمات عنصرية يندي لها الجبين، لا بد أنه قد راكم أسبابا توجب الانتباه لسلوكه الذي بحاجة إلى الدرس النفساني. أما ما قالته والدته عن حكاية ضربه لها في صغره فذلك أمر نابع من نفسية حقيرة. وقد تساعد علماء النفس على تتبع جذور هذه الفظاظة. هذا الميل لإيذاء الأخرين جسديا، ومعنويا. ،
أما محاولة رقص الرئيس السفاح فوق جثث ضحاياه بتلك الإيقاعات الحارة فهو إنما يعبر عن سلوك تحدي لإرادة معارضيه والمجتمع الدولي. وكان يمكن تصديق البشير، ونظامه، في هذا التحدي لو أنه ــ ومعه نظامه ــ لم ينبطح للرياح الهوج للولايات المتحدة إبان حادثة الحادي عشر من سبتمبر. إذ سلمها وثائق لا تحصى ولا تعد. بل وسلم عددا من الإسلاميين للدول المجاورة للتخلص منهم، وقد كان. ولكن يبدو أن التحدي الدولي الراقص الذي يبرزه البشير أمامنا في وقت يتعاون مع الدول الغربية ليس سوى تناقض في الذهن مرجعه ترسبات نفسية غائرة. خذ في بالك أن البشير حين يتحدى المجتمع الدولي فإنه مثل الفرذدق الذي زعم أن سيقتل مربعا. فالجبن هو الذي جعله يحافظ على نظامه. وهل الجبن سلوك يولد به الإنسان، أم هو مكتسب عبر التاريخ الشخصاني؟ ربما نجد الإجابة في ماكينة قوقل يوما.
لقد غادر البشير إلى السعودية لحج البيت فجأة، ملبيا نفسيته الحمقاء والرعناء عقب منع طائرته من عبور الأجواء السعودية. ولا ندري إلى أي مدى سحيق ينافق الإنسان نفسه. فهو يذهب إلى البلاد المقدسة ونظامه قد أزهق أرواح أكثر من مئتي شاب، وجثثهم لم تتحلل بعد. وإذا كان قد قتل بأمره المسلمين في الشهر الحرام ـ حادثة ضباط رمضان ـ وطلاب العيلفون، فما الذي يحوجه لعون الله، أهو قد ذهب هناك للمزيد من الدعوة ليستجيب له الله ليقص رأس هذا الكاتب. لا..لا. فنحن نريد الحياة لنكتب لشعبنا ما نحسه أحرارا طلقاء، ولا كبير أمامنا من الطغاة والمستبدين.
ما علينا لو أن “تفرذدق”. ولكن البشير يذهب إلى الحج كل مرة بحجة قناعته أن الله يغفر الذنوب كلها. ولكنه لا يتذكر أنه يحج بمال المسلمين. فطائرته الرئاسية ليست من بيت أبيه حتى يمتطيها إلى هناك. وحاشيته الذين يرافقون، ويحجون، إنما بمال المسلمين، وليس مالهم، أو ماله. وإذا لم يحجوا فعليهم إعادة تكلفة المناسك إذا أراد الله النظر في شكل حجتهم قبل مضامين أعمالهم. يا جماعة الدين ده ما سنبلة!
إن البشير بعد أن فشل بشكل ذريع في الوصول إلى نيويورك ليظهر هناك تحديه للمحكمة الجنائية وأقطاب من المجتمع الدولي أوعزت له نفسيته الخربة أن يتحدى المحيط الاقليمي المتمثل في السعودية التي منعت طائرته من عبور أجوائها قبلا. إنه يكاد أن يستجيب إلى ندائه الداخلي بتحديها من خلال حجه هذا العام أكثر من الاستجابة إلى نداء روحي للتقرب إلى إلهه. ولسان حاله:
حاولت تحديهم دوليا،
ولكن الجبناء منعوني من الحصول على تأشيرة،
هأنذا إن فشلت في أخذ حقي الأممي
بأن أكون وسط الرؤساء،
فإنني لن أفشل في الحصول على حقي الإقليمي في الدخول إلى الأرض المقدسة،
إن منعوني المرور سياسيا نحو إيران
فتالله لن يمنعوني روحيا
من حج بيت.
إذن، ذات النفسية التي خولت له محاولة ركوب المحيط البعيد خولت له الآن ركوب البحر القريب. إنها أهداف متهورة لإشباع هوايات الذات المغرورة على حساب شعب أعمل فيه سيفه الذي أطاح برقاب الآلاف، وشرد الملايين، وأورد مواطنيه في اصطدامات عرقية، وتصدعات جهوية، ومطامع عشائرية. أما إذا أردنا معالجة هذه الكوارث عقب ذهاب نظامه فنحتاج إلى سنين من العمل، وجهد عظيم من حكماء مجتمع لمعالجة الآثار.
إن الرئيس الأكثر فشلا في العالم يريد بهذه التحديات الدولية والإقليمية أن يبقى في السلطة، ولو أدى ذلك إلى انقراض ثلثي شعبه. فهو لا هم له أن تنقطع المساعدات الاقتصادية، والصحية، والعلمية، بسبب تحالفات ايدلوجية رعناء. ولا يهمه كذلك مصلحة الملايين من أبناء السودان الذين شردهم برا، وجوا، وبحرا، وسرا، بينما استوعبهم الخليج الذي يتآمر البشير ضده. يحدث هذا برغم ما ظلت تقدمه الدول الخليجية لأبناء السودان من فرص عمل، وتعليم، وفرص استثمارية من جانبهم. ولا محالة أن البشير يدرك كل هذه العائدات التي يحسها المواطنون في استقرارهم المهجري، ويحسها أهلهم الملايين في ربوع البلاد. ولكن الرئيس الذي يتعامل بنهج الفحولة لا بالكياسة، يريد فقط أن يثبت “رجولته” في مقابل ما يعتقد أنها تنازلات يقدمها قادة العالم الثالث من أجل شعوبهم.
ولكن على الجانب الآخر فالبشير نفسه يهدر رجولته عبر التشبث بقصره الذي من خلال نافذته يستمتع بضرب رجال الامن للفتيات المتظاهرات ضده. وهناك في البوادي تغتصب رعيته من النساء. ولكنه يبارك ذلك ويعد الاغتصاب شرفا لهن. وفي المركز تنتهك كرامة المعتقلات من خلال التعذيب، والتهديد بالاغتصاب. وإذا كان للبشير ذرة من رجولة لفكر آلاف المرات دون أن يصل ببلاده إلى هذا المستوى الاقتصادي الذي ينتهك كرامة الرجال، ويفت عضد الأسر، ويزرع افتراق الزيجات، وغيرها من مؤثرات الفقر التي لا يحسها هو في نفسه، وأهل بيته المقربين.
عودا إلى بدء لا بد من تفعيل دور علم النفس في كشف خبايا نفسيات قادتنا الذين حكموا الشعب الرهينة بالنبوت. ينطبق الأمر على بعض قادة المعارضة كذلك. وعموما ننتظر لنرى ما إذا كانت طياشة ورعونة البشير ستكسبه المزيد من الزمن للحكم فوق جثث مواطنيه. بيد أن المؤكد أن لكل طاغية ثمة أجل.
[email protected]