نعم الجنوبيون أقرب إلينا من (الجلابة) وفقاً لحقائق التأريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة
محمد عبد الرحمن الناير
[email protected]
21 نوفمبر 2013م
إطلعت على مقال الأستاذ/ محمد الحسن محمد عثمان المنشور فى صحيفة حريات بتاريخ 21 نوفمبر 2013م الذى يوجه فيه إنتقاداً للمقولة التى ذكرها الراحل المقيم فينا أبداً الشهيد البطل/ فضيل محمد رحومة عليه رحمة الله عندما كنّا سوياً فى خريف عام 2009م بولاية غرب كردفان والذى أشاطره الرأى فيها لأنها عين الحقيقة ومنطق الأشياء.
فإن العلاقة بين شعب المسيرية وقبائل دينكا نقوك والجنوبيون عموماً على طول خط التماس بين شطرى الوطن لم تبدأ مع الإنقاذ بل تمتد إلى قرون سابقة حافلة بالسلام والتسامح والعيش المشترك وإن تخللتها بعض الحوادث مثلها مثل أى توترات تقع بين المجموعات السكانية فى مختلف أنحاء السودان وحتى بين افراد العشيرة الواحدة حول المرعى وموارد المياه وغيرها, فلا غرابة فى ذلك ابداً , و غالباً ما يكون المركز (الجلابة) وراء هذه الإحتكاكات تأجيجاً وشرخاً للنسيج الإجتماعى بين المكونات الإجتماعية لأسباب سياسية وحزبية ضيقة, وهى ذات الأساليب التى ورثوها من (المحتل) عبرسياسة فرّق تسد. فكان الراحلين السلطان دينج مجوك والناظر بابو نمر عليهما الرحمة نموذجاً للإدارة الأهلية الحكيمة فى إدارة شئون القبيلتين (نقوك والمسيرية) والعلائق بينهما , وتركا لنا تأريخاً ناصعاً و إرثاً ضخماً وسجلاً حافلاً بالعبر والدروس , فلو نظر إليها أبناء هاتين القبيلتين بعيداً عن أضابير السياسة لوجدوا حلاً شاملاً لكل قضايا الخلافات فى أبيي الآن ولما دعت الحاجة إلى خبراء وتحكيم ولجنة وساطة , ولكن نظام الخرطوم ومن يشاطرونه الرأى من المنتفعين من أبناء المسيرية ونقوك هم العقبة الكؤود أمام الحل السلمى الشامل ولا عقبة خلافهم.
فإذا كنت ترى بأن مفردة جلابة شيئاً فظاً لا يستساغ فإنها لم تكن من بنات أفكارى أو الشهيد/ فضيل إنما هى مفردة موجودة فى الحقل السياسى السودانى منذ عشرات السنين ومع يقينى بأنها تحتاج إلى إعادة ضبط وتعريف واضح المعالم والدلالات حتى لا يختلط حابل الشماليين الذين أكن لهم كل إحترام وتقدير (الشرفاء منهم طبعا) ونابل الجلابة الذين أقصدهم وتقصدهم المفردة , وعندما أقول جلابة لا أعنى بالضرورة كل الشمال النيلى بل أعنى بها السلطة التى ورثت حكم السودان من الإنجليز وكل أساليبه القميئة , وللذين مارسوا تجارة الرق تاريخياً وليس الذين يتبضعون ببضائع السلع الإستهلاكية وخلافها. وعندما نقول بأن الجنوبيين أقرب إلينا من الشمال لا نعنى قطيعة نفسية مع الشمال الإجتماعى إجمالاً بل مصالحنا الرعوية والإقتصادية والحياتية مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالجنوب وليس الشمال وهذا لا يحتاج إلى دليل , وإن (الجلابة) هم الذين نهبوا ثرواتنا ومواردنا وهمشوا دورنا سياسياً وإقتصادياً وثقافياً وليس الجنوبيين. أما عن رابطة الدين التى تحدثت عنها فهى قول يجانبه الصواب فى كثير من نواحيه , خاصة فيما يتعلق بالوضع القائم الآن على المستوى الوطنى والإقليمى والدولى , لأن الدين الذى يربطنا بالشماليين (الجلابة) لم يعصمهم من نهب مقدراتنا ومواردنا وتقتيلنا , بل قد تم إستخدامه كعامل لتغييب الوعى والتجييش ردحاً من الزمان , وحوّل القبائل خاصة البقارة إلى آلات قتالية وزج بهم فى حرب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل , والآن يكتوون بنيران هذا الإستغفال الدينى الذى وضع حاجزاً عميقاً بين قبائل التماس فى دولتى السودان.
وتاريخياً نجد أن هذا الدين لم يمنع السيدة عائشة عن قتال على ولم يعصم الدولة الإسلامية الأولى من الإنشطار على أساس مذهبى وسط بحيرات من الدماء , ولا حتى عصم دماء الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم , وتم إستخدامه من قبل الحكام وفقهائهم لتبرير القتل والإرهاب الفكرى والمعنوى لتخويف المعارضين وتكفيرهم .
فهل شفع لشعوب دارفور حسن إسلامهم وثقافتهم وتحدثهم العربية وكسوتهم للكعبة الشريفة من القتل والإبادة الجماعية والتهجير القسرى والإغتصاب؟!
إن عالم اليوم يخضع للعلاقات والمصالح المشتركة وليس للتماثل الدينى واللغوى والثقافى , إذن ما الذى يربط بين سودان الإنقاذ التى تدعى الاسلام وجمهورية الصين الشعبية (الشيوعية)؟ هل هو الدين واللغة والثقافة أم المصالح؟!.
فى تقدير الشخصى المتواضع إن قضية السودان الجوهرية هى أزمة هوية فى المقام الأول ثم يأتى الإقرار بالتنوع بكافة أشكاله ومن ثم الإعتراف المتبادل بالجرائم التأريخية التى إرتكبت فى حق الشعوب الأصيلة إبتداء من إتفاقية البقط ومروراً بمجزرة الضعين إلى آخر المجازر التى تجرى إرتكابها الآن فى دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق , ثم الإعتذار عنها وتعويض ذوى الضحايا مادياً ومعنوياً وفردياً وجماعياً ومن ثم يأتى الحديث عن شكل الدولة وقوانينها و المشاركة السياسية وتقسيم الثروة.
وهذا الإعتراف لا يقع على عاتق الحكومة المركزية لوحدها بكل يشمل كل مكونات الشعب السودانى ونخبه وتنظيماته السياسية وحركاته المسلحة , فجميعنا قد ساهم فى هذا الصراع التأريخى الممتد عقب الحقب فعلاً أو قولاً أو سكوتاً ولكن بدرجات متفاوتة , فنخاسة الرقيق لم يأتوا من الواقواق إنما نشأوا وترعرعوا داخل هذا الكيان (المركزى) الذى نتحدث عنه , وتشربوا من ثقافته التى تمجد هذا الفعل المشين واللا إنسانى.
أما موضوع نزاع أبيي ومنع المسيرية حق المرعى كما تقول يكذبه الواقع , فكل هذه الأمور مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالقضايا التاريخية سالفة الذكر , ولو تتبعنا التسلسل التأريخى للأزمات السودان بكل صدق لعلمنا مكمن الخلل والبداية الحقيقية للازمات وكيفية حلها , وأوافقك الرأى بأن موضوع ابيي شائك ولكنه ليس عصياً على الحل لو صدقت النوايا وفتح المجال لأصحاب المصلحة الحقيقة وليس تجار الفتن والحروب.
أما مفردة (جانقى) وحسب علمى لا تقال إحتقارا أو تقليلاً من شأن الينكا بل هى مترادفة لكلمة (دينكاوى) التى يصعب نطقها , كما هم أيضاً يطلقون على البقارة كلمة (فقارا/فقّارى) لذات الأسباب اللغوية , فهم جزءاً منّا ونحن جزء منهم ولكن فرقت بنا سياسة المركز المتسلط فى الخرطوم , فلو ذهبت أبيى شمالاً أو جنوباً لا تعنى لى الكثير (فى إطار شخصى) بل الذى يعنينى أن يعيش الطرفين (مسيرية/نقوك) فى أمن وسلام وإستقرار ليبنوا حياة فاضلة للأجيال القادمة .
إن إنفصال جنوب السودان لم يكن نتاج كراهيتهم للشماليين , وإن هكذا قول مجافى للواقع وهروب من مواجهة الحقائق , فكلنا مساهمون فى إنفصال جنوب السودان حكومة وأحزاباً وشعباً وحتى الجنوبيون أنفسهم لا يعفون من هذا الأمر مع تفهمى التام لقرارهم ودوافعه الحقيقة , فمشكلة السودان فى جنوبه بدأت باكراً منذ عام 1955م ,وعبروا حينها عن مطالب متواضعة جدا ومع تواضعها لم تجد من القائمين على الآمر آنذاك سوى الإهمال و التنكر للوعود التى قطعها مؤتمر جوبا للمائدة المستديرة , ولذا تم دفعهم دفعاً لطريق حمل السلاح طالما تم إغلاق كل الطرق السلمية لنيل حقوقهم الطبيعية والمشروعة.
ثم مواجهتم لحرب ضروس لا تبقى ولا تزر , و تمت إبادة وتشريد ملايين الجنوبيين عقب تمزيق السفاح نميرى إتفاقية أديس أبابا وإعلان ميلاد الحركة الشعبية والجيش الشعبى لتحرير السودان 1983م تحت مرأى ومسمع جميع السودانيين!!. إلى أن تم توقيع اتفاقية السلام الشامل فى ضاحية نيفاشا 2005م.
فهل سمعنا للصوت الجنوبى الذى يشدو للوحدة والسلام كما عبّر الفنان الرائع غوردون كونق فى أغنيته التى مطلعها:
ما تقولى لى شمالى
ما تقول لى جنوبى
بس قولى أنا سودانى
نفكر فى قضيتنا
والنيل الجارى يروينا
وسلامنا الجاى بنحميهو
أم ظللنا فى ذات العقلية الآمرة الناهية التى تجبر الآخرين على القول وإن لم يريدونه (منقو قُلْ)؟!.
فهل تطلب منهم بعد كل هذا التاريخ الطويل من الدماء والدموع ونقض العهود والمواثيق أن يستكينوا للجلاد مرة أخرى فى وحدة لا يرون أنفسهم فيها , أم يفلتوا بجلدهم بعد أن لاحت لهم بروق الخلاص؟! فلو كنت جنوبيا هل ستصوت لهذه الوحدة الزائفة وللمواطنة بلا حقوق أم ستطالب بحريتك؟.
إن تقرير المصير حق كفلته كل القوانين والمواثيق الدولية ونصت عليه إتفاقية السلام الشامل , فالجنوبيون لم يمارسوا سوى حقهم الطبيعى و الذى بموجبه قرروا إنشاء كيانهم الخاص حتى يكونوا مواطنين شرفاء فى دولتهم بدلاً أن يكونوا مواطنين من الدرجة (الطيش).
ولعمرى لا أرى أن إنفصال الجنوب هو عداء للشمال بل أراه قرارا موضوعياً وحكيماً , بعد أن ملوا إنتظار الوعود والأمانى الخلّب و التى لم تتحقق ولن تتحقق مساواتهم بالشماليين طالما ذات العقلية التى نتحدث عنها هى السائدة .
إذا لم تتغير النظرة تجاه الآخر وقضاياها وحقوقه كافة وظل وهم النقاء العرقى والتعالى الثقافى و الإجتماعى والدينى , والهروب من مواجهة الحقائق بمزيد من الإنكار والتدليس والتبرير , فبلا شك أن (جنوبيات) أخرى سوف تنفصل لا محالة وستكون حدود دولة السودان من جبل أولياء الحدود المصرية وليس مثلث حمدى (وربنا يكضب الشينة).
إن الذين ذكرتهم بالإسم وكانوا شركاء للإنقاذ فى مرحلة من مراحلها لم يشاركوا فى السلطة ككيانات بل شاركوا كأفراد وفق إنتماءاتهم التنظيمية آنذاك ولم تفوضهم قبائلهم للمشاركة بإسمها.
أما الحركات المسلحة التى شاركت الإنقاذ فى السلطة والثروة فكانت نتاج إتفاقيات مع النظام برعاية إقليمية و دولية وفق قناعاتها وليس قبولا بمشروع الإنقاذ , وبعد أن إكتشفوا زيفها ونقضها للعهود والمواثيق , فضوا الشراكة السياسية معها ومضوا فى سبيلهم يبتغون سبل التغيير الشامل , ومع قناعتى الشخصية بعدم جدوى كل التسويات السياسية مع هذا النظام المجرم لكن ليس من حقى أن أكون وصياً على الآخرين لأحدد لهم ماذا يفعلون أو الطريق الذى يسلكون طالما أنا لست جزءاً من منظوماتهم هذه.
وفى ختام مقالك ذكرت بأن: (اول من تصدى للجبهه الاسلاميه وضحى بالدم كان الشماليون فضباط رمضان جلهم من الشمال ومن قبيلة الشايقيه تحديدا ومذكرة القضاه والكشف الذى اعقبها بالفصل 99% من ابناء الشمال). إن ما ذكرته ينسف كل مقالك وهو دليل وبينة موضوعية وتأكيد لكلام الشهيد فضيل الذى تنقضه حيناً وتثبته بين ثنايا حديثك أحياناً أخرى , فتخيل شكل الحكومة والسودان لو نجح الإنقلاب الذى أشرت إليه؟!!.أدعوك للإطلاع على (الكتاب الأسود الجزء الأول والثانى ) لتعرف أكثر عن الأزمة ومسبباتها وعن حالة التهميش التى وصل لها إنسان الهامش السودانى.
إن الإعتراف بالآخر وحقوقه والتعدد بكافة أشكاله هو الطريق السليم للتعافى من الأزمات والجراحات, فإزالة نظام الإنقاذ هو بداية الطريق للحل وليس الحل بذاته , لأن حل مشاكل الدولة السودانية يكمن فى الإعتراف بالواقع ثم إعادة صياغة الدولة و المجتمع وفق أسس العدالة و المواطنة والحقوق المتساوية وبناء دولة لكل الناس لا لفئات محددة .
ودمتم السودان بخير