تتصاعد الهتافات و المظاهرات فى بعض مدن السودان ضد الارتفاع المبالغ فى الأسعار للسلع الضرورية و الادوية العلاجية, ولكنها لم ترتقى الى ثورة داوية تهدد وجود النظام, و لم تنادى بعد بالموت للبشير أو الحركة الاسلامية عموما. و في حين تتواصل هذه العمليات تشتد الدعوة لقوى المعارضة السياسية و العسكرية للتصدى و قيادة الحراك الجماهيرى.
و الملاحظ هنا أن المظاهرات الان و التى فى أغلبها طلابية جرت في البدء فى مناطق الهامش، و فى دارفور بالذات ولكنها لم تمتد الي مناطق الإثنيات التى توالت السلطة عبرالحقب منذ الاستقلال, مما يكشف عن تباعد حقيقى فى الاثر الاقتصادى و تباين فى الولاء السياسىى رغم ان الزيادة فى الاسعار شملت كل قوى المجتمع, مما يثير تساؤلا ما أن هذه الاحتجاجات عفوية أم أن لها أيد تحركها ؟
و لما لم يتصدى لقيادتها أى تيار سياسي أو جهة داعمة أصبح العامل الاقتصادى هو الدافع مثلما تم فى انتفاضة
سبتمبر 2013 التي شهدتها العاصمة. و لكنها لم تتخذ المركز نقطة انطلاق لها بل جائت من الاقاليم لتؤكد أن الثقل الثوري قد انتقل الى المدن الأخرى فى الهامش مهما كانت الأسباب.
و رغم ان انتفاضة 2013 لم تقم على دعوة من قوى سياسية واضحة, لكنها ضمنيا أعتبرت حراكا يساريا و بعثيا كانت شعاراتها تدور حول ارتفاع الاسعار بعد رفع الدعم عن بعض السلع الضرورية, ثم تخللتها اصوات دعت الى اسقاط النظام.
هذه الهبة الاحتجاجية الشعبية التي نشهدها الان لم تتقدمها قيادات سياسية متناحرة مذهبيا و ايدولوجيا, تتصارع من أجل السلطة وشعاراتها تجاوزت مواقفها منذ ان بدأت تنادي بزوال سلطة الحركة الاسلامية لما يقارب الثلاثة عقود. وأقل ما توصف به أنها بداية لثورة وطنية لم تلعب فيها الاحزاب السياسية أو كتل المعارضة أو حتى شخصيات سياسية معروفة أي دور يُذكر حتى الان.
و لما كان العامل الاقتصادي لتحريك الشعب ضد الانظمة العامل الأهم والأساسى في إنجاح الثورات وإسقاط الأنظمة, فالبشير يعلم إن ما يميز الاحتجاجات الحالية هذه أنها ليست مسيّسة و لا تتبع لأي تيار أو حزب سياسي من بدئها أو تقودها معارضة و سوف تنتشر وتتوسع لتعم كل انحاء البلاد، عكس انتفاضة سبتمبر 2013 التي فشلت في الانتقال من العاصمة إلى الأطراف و استطاعت أجهزة الامن فى قمعها بالقوة و الحديد و النار.
الملاحظ أيضا أن المشاركين الذين قادوا الانتفاضة فى سبتمبر 2013 أغلبهم من الطبقات الوسطى و المثقفين ومن طلبة الجامعات و المدارس العليا. ولم تشارك فيها الفئات المسحوقة بالفقر و العوز بالقدر المطلوب.
اما اليوم، فإن هذه الطبقات الفقيرة ستنضم لقيادة المظاهرات والاحتجاجات في البلاد غاضبين من زيادة الاسعار حتى و ان لم يرفعوا شعارات سياسية مناهضة للنظام. و حتما سوف يمتد غضبهم أكثر ليكون نواة الثورة و يوجهون الشعارات ضد الحركة الاسلامية وضد البشير و أجهزة الامن و المليشيات من الدفاع الشعبى و الدعم السريع وسوف يمزقون صورهم و يطالبون بمحاكمتهم و محاكمة النظام السياسي الذي يقودونه.
و أهم ما يمكن ان تقدمه القوى السياسية فى المعارضة لهذه الثورة القادمة من الاقاليم الا تسرق جهودها و تسترزق باسمها ما لم تشارك فعليا و تربط حراكها بالحراك الشعبي و تتقدم الجماهير الغاضبة لتغيير النظام كليا وليس الحكومة فقط.
لا أحد يستطيع أن يتكهن اليوم بما سيحدث غداً، لكن كل المؤشرات تقود الى مواجهات بين الشعب و السلطة التى سوف تحتمى بمليشيات الدعم السريع و أجهزة الامن التى وضعت فى حالة تأهب و استعداد تام لقمعها بالقوة المفرطة. و الذيىن يعلمون بخطورة الوضع يريدون استباقه بامور انصرافية قبل البطش والقتل. و ما نشر قوات الدعم السريع و المليشيات و اعلان حالة الطوارئ فى الشرق و كردفان الا جزء منها.
الاهم في هذه الاحتجاجات أن الجماهير تتحرك عفويا يقودها الشعور بالجوع و الضياع، و ليس لها ما تخسره عندما تصعّد مواقفها أو تدخل في مواجهات دامية مع الدعم السريع والشرطة والأمن من أجل تحقيق مطالبها لتتحول الثورة الى ربيع دامى فى السودان.
ما يقلق النظام ويسبب له اشكالية كبرى هو أنعدام قيادة سياسية مركزية تحرك الشارع حتى تستطيع اجهزة الامن اعتقالها و التنكيل بها. و بما انه استطاع تفتيت المعارضة السياسية و تقليل العمل العسكرى الى حين فانه سيفقد البوصلة تماما فى احتواء الغضبة الجماهيرية لعدم وجود جسم او تكتل او قوى منظمة يتواصل معها للتفاوض حين تستدعى الظروف احتواء الموقف سلميا.
إضافة إلى ما تقدم، فإن الاحتجاجات الدائرة الان أن لم تؤد الى اسقاط النظام فانها توفر المناخ و الفرصة لقوى المعارضة لتدارك أمرها و لملمة أطرافها و السعى الجاد للوحدة تحت برنامج و قيادة سياسية و عسكرية متفق عليها لتحقيق تغيير استراتيجي كبير في سياسة المواجهة, و الا فسيبقى الوضع كما هو ما دامت غير قادرة على أظهار نفسها كقيادة راشدة فى الظروف السياسية و الاقتصادية الراهنة لتبدد قلق الجماهير الذين تحطمت احلامهم لانهم لم يجدوا الإ الهزيمة والخذلان بطول الانتظار.
و لهذا فان الدعوة التى تقدمت بها الجبهة الثورية لتوحيد المعارضة تمثل المخرج الجاد لاستلام زمام المعارضة و قيادة الثورة للوصول بها الى غاياتها
البشير يواجه اليوم وضعاً صعباً جداً يقرر مستقبله و مستقبل إلسودان ايضا. و الخوف يتملكه و يشتد مع انتشار رقعة الثورة. و بمرور الوقت تصبح خارج السيطرة. لكنه ربما يستدرك فى نهاية الامر ويقدم تنازلات ليمتص الغضب أو يلجأ الى العنف او يربط المظاهرات و الاحتجاجات الحالية بالمعارضة السياسية الضعيفة التى تعيش التفتت و التشرذم و الشكك و سوء الظن و الانانية. فالبشير يود فى قرارة نفسه ان تدعى المعارضة قيادة المظاهرات و الاحتجاجات الجماهيرية لعلمه أنها و بالتجربة لن تهدد سلطته. و انه لن يسقط ما لم تسقط المعارضة أو يدركها الرشد و تتوحد.