مفاوضات جوبا … والعبر من سابقاتها

د. سعاد الحاج موسي

2 مايو 2020

ما يثلج الصدر عن مفاوضات السلام الجارية الآن بمدينة جوبا والتي بدأت في 14 اكتوبر 2019، هو واقع ثلاثية الزمان والمكان والمفاوضين وطبيعته المفصلية في تاريخ السودان. فالزمان زمن ثورة عارمة للتغيير لأجل إرساء مبادئ العدالة والسلام والحرية ودحر الماضي وتدمير أثقاله من العنصرية والتمييز الاثني والعرقي والجهوي التي جثمت علي صدور الناس فعَضَلت عليهم. زمان هب فيه الناس وصمدوا وأصروا وتوافقوا علي مبدأ اللا عودة لمربع طغت فيه النخبة الاسرية والقبلية والسياسية علي سيادة وطن متعدد الثقافات والأعراق، فأتلفت زروع التآلف والعقد الاجتماعي وأقامت محلها نبتة شريرة تسلقت أعمدة البلاد فأوهنتها وأكتاف الناس فخنقتهم فقضي الكثيرون نحبهم وانتظر آخرون علي أرصفة الموت الي أن جاءت الثورة فانتشلتهم من أُتون الخوف والاكراه علي السكات فتعالت أصواتهم وهتافاتهم بسقوط النظام، ثم نصبوا حكومة شرّعوا لها قيادة ركب الثورة نحو التقدم وتثبيت الحقوق وانتزاع ما استلبه واغتنمه الانقاذ من المواطنين ومن موارد البلاد. 

 

والمكان أرض سودانية رمي بها عرابو الانقاذ والنخبة المركزية الحاكمة بعد أن فشلوا في إبادة مواطنيها واستحال عليهم اخضاع أهلها الشرفاء وشراء كرامتهم واستعبادهم ومصادرة أراضيهم وثرواتهم في باطن الأرض وخارجها.  ومن سخرية القدر أن نستجير بأهل الجنوب، امتدادنا تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً مثلما نحن امتداد لهم في الافريكانية ولو كره الطغاة المستلبين، فشيدوا مظلةً تأوي اليها أفئدة اخوة وطن الأمس ولا يجدوا فيها الا حسن الضيافة والتشجيع والدعم المعنوي والسياسي والسند بلا منٍ ولا أذي، فهم يشاركون اخوتهم في الشمال الحس بوجوب المحافظة علي ما تبقي من وطن تهتك بفعل نزق الإنقاذ ورهطه، وهَمُ الوصول الي وثيقة قادرة علي طي صفحات الحرب، وثيقة ذات مصداقية في اقامة العدالة وإرساء أعمدة السلام وقيم الحرية والديمقراطية.

 

كانت موائد المفاوضات إبّان الإنقاذ تجمع بين مظاليم يطالبون بحقوقهم المنهوبة ويسعون لاسترداد كرامتهم المهدرة وصون انسانيتهم المطعونة، وطرف آخر يمسك بزمام السلطة ويشرِّع ويمارس الظلم ومصادرة الحقوق، ويدعي قادته أنهم يملكون تصاديق الجنة والنار. انعكست تلك الروح المتغطرسة علي سلوكهم التفاوضي، فكانت النتائج عبارة عن عطايا مولوغة في المن والأذى والاستعلاء، يمدونها بيسراهم وفي ظنهم أن المطالبين لا يستحقونها رغم غثاثتها وبخسها ومفارقتها لموازين ومعاني الحقوق والعدالة. أما هذه المرة فالطرف المتظلم جاء يبحث عن العدالة بعرض قضيته لطرف آخر لم يكن هو الظالم ولكنه يمثل السلطة الشرعية الماثلة والتي عهدت الي نفسها مهمة تحقيق العدالة وإقرارها، ليس فقط بحق المتظلم الذي اضطر الي رفع السلاح في وجه الظالم المنحل، ولكن ليعم السلام ويشمل جميع أركان الدولة. فالحكومة هي حكومة الثورة ورغم تصنيفها الي شقين عسكري ومدني الا ان كلاهما أيضا ممثل للثورة تحكمهم مرجعية مشتركة هي شعار الثورة – حرية سلام وعدالة، وليست عقائد دينية يجيز فيها الفقهاء الأفّاكين الكذب والنفاق في سبيل الدعوة، أو سياسية مثقلة بتجارب الفشل في إرساء العدالة وقيم المواطنة المتساوية.  بجانب أن ما يجمع المفاوضين هذه المرة هو سلام السودان وأمنه واستقراره وبناء مستقبله كهدف أسمي وحتمي وجهته واضحة وليس الاجتهاد لممارسة ألاعيب السياسة والسعي لهزيمة المتظلم واضعافه واخضاعه. فلكل من الطرفين نصيب وافر من تجارب المعاناة والتضحيات، وكلاهما مؤمن بأنهم يتداولون ويتباحثون بغية الوصول الي تسوية واتفاق لطي صفحات الماضي الملوث بالدم والظلم والتهميش.

 

فإذا نظرنا الي المفاوضات السابقة بقيادة الإنقاذ نتذكر كيف انهم كانوا يسيرون الي موائد التفاوض بقلوب وعقول هجرها الإحساس بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية نحو المواطن وأمنه وسلامته. فهم يذهبون ويعودون كل مرة وعلى وجوهم ابتسامة الثعلب ومكره فنتفاجأ بعد وقت وجيز بأخبار هجوم قواتهم على قري من وقّعوا معهم الاتفاق وحرقها واغتصاب حرائرهم! من حسنات أجواء التفاوض الآن هو أنه بالرغم من الخلافات والتوترات التي شابت بعض الجلسات والمواضيع، ولا تزال تلقي بظلالها علي مسيرة التفاوض من حين الي آخر لأسباب كثيرة نعلمها، بالرغم من ذلك نحسب أن المفاوضين قادرين علي تجاوز المنعرجات والمنعطفات الحرجة والوصول الي تقاربات وتفاهمات لحلحلة إشكالات الوطن فهم يدركون جيداً أن الجميع مترقب ومتلهف لمخرجات جلساتهم، خاصة ضحايا الحرب، والحكومة تنتظر بصبر لتكملة منظومة المدنية، بينما المجتمع الدولي يراقب ما يجري وينتظر ليبني مواقفه وعلاقاته مع الدولة السودانية بناءً علي ما يتمخض حول ممارسة الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة والمساواة كشرط لمساعدة السودان والخروج به من نفق المعاناة. 

 

ما تحتاجه الدولة من المواطن الآن هو التركيز علي دعم مجهودات السلام والانتقال من مربع الحرب الي السلام الشامل الكامل كاستحقاق جوهري لبناء دولة المواطنة والعدالة. فالناس في أمس الحاجة الي دولة لا وجود فيها لتقسيمات العنصرية السياسية والاجتماعية الثنائية التوصيف لما يسمي بالمركز والهامش، دولة لا مكان فيها لتفضيل الناس والتمييز بينهم علي أساس القبيلة والاقليم واللهجة والغني والتعليم وعقد اللون ومواصفات الشكل، خاصة للنساء. تصبو النفوس الي دولة كلنا سوا كما تغني بها اخوتنا الجنوبيين الي أن اقتنعوا بأن مغني الحي ليس فقط لا يطرب، وانما وجوده غير مرحب به فاستخدمت ابداعاته الأدبية لممارسة المزيد من الاستعلاء عليه والهزؤ به كما الحال بعربي جوبا. ولكن السودان مقدم لا محالة لتشكيل دولة كلنا سوا سوا، يستند التفضيل فيها بين الناس علي مقدار ما يسهمون به في تنمية الوطن ورفعته وحفظ أمن مجتمعه وسلامته فقط، وليس علي نوع ما يقدمون. فالمدرس والمهندس والباحث والوزير والطبيب والعامل وست الشاي جميعهم خدام للوطن يؤدون وظائف متكاملة لا غني عن أي منها وليس بينهم رفيع ووضيع، تُقِّدر الدولة عطاءهم وتقيِّمه وتدعمهم وترعاهم وتحميهم مثلما تفعل الدول المتحضرة.

 

لنا عبر وعبرات فيما سبق من مفاوضات وما نتجت من اتفاقيات ابان العهد البائد ابتداءً باتفاق سلام دارفور بأبوجا في مايو 2006 وأثنائه أصدرت محكمة الجنايات الدولية في 4 مارس 2009 مذكرة توقيف بحق البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. أغتاظ البشير ورهطه فقامت حكومتهم بطرد 13 منظمة طوعية دولية وأغلاق ثلاثة سودانية ليس انتقاماً من الجنائية فحسب، وانما نكايةً في مواطني دارفور فكان لهم ما قصدوا بأن تفاقمت الأزمة الإنسانية للملايين من النازحين ومواطني الريف الذين كان يعتمدون في عيشهم حصرياً علي منظمات العون الإنساني.  ثم تحول منبر التفاوض الي ليبيا الي أن حطت في2009 في فنادق الدوحة لتخرج بوثيقة الدوحة للسلام في دارفور في 14يوليو 2011 وسط زخم سياسي وحضور كثيف لمن سموهم بأهل المصلحة من الإدارات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني وغيرها، ووثقت الوثيقة بعد عام أي في يوليو 2012 الحكومة مع حركة التحرير والعدالة للالتزام بها.  ولكن بعد أربعة أشهر أي في 30 أكتوبر 2012هجمت القوات المسلحة علي قرية تابت شمال الفاشر وأعملت حرقاً وتقتيلا في المدنيين، وقام أفرادها باغتصاب أكثر من اربعمائة فتاة وطفلة، ثم توالت هجمات الإنقاذ علي قري المواطنين العزل في عرض الهامش بأكمله دون ضمير ولا وازع رادع.  

 

في ابريل 2014 اختلق البشير ما عرف بمؤتمر الحوار الوطني فبدأ وختم جلساته في أكتوبر 2016 بمشاركة 79 حزبًا سياسيًا وتنظيمات سياسية وشخصيات وطنية، ومع نهاية جلساته تحركت قواته في عمق دارفور داخل منطقة جبل مرة لتهجم علي القري الآمنة فتعرضت للاغتصاب بكثافة وشراسة آلاف من النساء والفتيات والأطفال بعمر الخامسة وأقل. وذلك على مرأي ومسمع اتفاقية الدوحة ومزاعم الحوار الوطني وادعائه بأنه يهدف الي صياغة دستور وتشريعات قانونية تكفل الحرية والحقوق والعدالة الاجتماعية وحمايتها. المؤسف انه لم يجرؤ أي من القوي السياسية والتنظيمية المعارضة وقتها علي نقد سلوك الإنقاذ وما اقترفته من جرائم الي أن قامت الثورة.

 

فعقب كل اتفاقية وقعتها الإنقاذ تزداد الأوضاع الإنسانية والأمنية سوءاً في دارفور وتتمادي السلطة في انتهاكات حقوق الانسان وفي السعي المحموم للنيل من أهل دارفور العزل وحاملي السلاح معاً، ولا يهمها ما وقعته والتزمت به من اتفاقات ومواثيق. وهكذا فشلت كل المفاوضات والمنابر التي اعتلاها الإنقاذ واسلاميوه بفعل خرقهم للاتفاقيات ونقضهم للعهود وأبانوا بأنهم لا يستطيعون أن يكونوا طلاب سلام وإصلاح بسبب افتقارهم للإرادة والأمانة وما يُعَلْي قيمة المواطن والوطن ويدعو الي حمايتهما، ففاضت نفوسهم بما عمرت من كره وبغض للآخرين وتمرغوا في وحله الي أن لفظتهم الثورة.

 

فعلي الاخوة المفاوضين والأخوات ان وجدن، استصحاب الدروس والعبر من التجارب السابقة والحرص على ألاّ تتكرر، وأن يلتزموا ويؤكدوا مقدرتهم على الخروج باتفاقية ثورية للسلام الشامل المستدام تستوعب هموم وآمال جميع المواطنين فيحترموها ويقبلوها ويتفاعلوا معها ويحموها حمايتهم للثورة. وبديهي أن تُضَمِّن الاتفاقية آلية لتقييم ومراجعة عمليات وبرامج تطبيقاتها، تحوي مؤشرات لقياس النجاحات والاخفاقات وتحديد مكامن القوة والضعف لصيانتها من المهددات والانتكاسة، أي يجب أن تكون اتفاقية ديناميكية تأخذ معها تطورات الأحداث والأوضاع في كل المجالات وفي كل حين، وأن تشرف عليها لجنة من الحكومة بشقيها وتمثيل من المفاوضين والعلماء المختصين ولمدة أقلها عشرة سنوات. نرجو لهم التوفيق والسداد.

 

سعاد مصطفي الحاج موسي

[email protected]



 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *