مرتب البشير لو لم ينفق منه مليماً لايكفي لشراء المزرعة، ولا العقارات الأخرى.
لا يمكن أن يتحدث المسؤولون عن مقارعة الفساد وهم أول المستفيدين منه
القدس العربي:
في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت العام الماضي، ثارت كما في كل مرة مسألة إجرائية تتعلق بجولات الرئيس الانتخابية. فالرئيس الأمريكي يستقل في جولاته الطائرة الرئاسية، وتصاحبه حراسة رسمية، وهذه كلها متطلبات تتحمل الدولة نفقاتها. ولكن الجولات الانتخابية لا تتعلق بمهام الرئيس بصفته رئيساً، وإنما بصفته الحزبية كمرشح عن الحزب الديمقراطي، فضلاً عن أن تحمل الدولة لنفقات مرشح بعينه تخل بالعدالة في حق الباقين. وبنفس القدر لا يمكن أن يطالب الرئيس بأن ينتقل بالباص أو بطائرة خاصة، لما في ذلك من محاذير أمنية. وعليه تم التوافق على حسات النفقات التي تتحملها الدولة من تكلفة الطائرة الرئاسية وغيرها، وترسل الفاتورة إلى رئاسة حملة أوباما الانتخابية التي تقوم بتسديدها للدولة.
لا نحتاج إلى التذكير بأن مثل هذا الالتزام الدقيق بمتطلبات النزاهة يستحضر سنة استنها السلف الصالح من المسلمين، خاصة الخلفاء الراشدين، وهم في ذلك يقتدون بهدي نبيهم الكريم الذي نهى ولاته عن تقبل الهدايا، وبلغ في حالة بعضهم (عمر بن عبدالعزيز مثلاً) أنهم كانوا يتنزهون عن الاستضاءة بمصباح تموله الدولة لشأن خاص.
خطرت لي هذه الخواطر وأنا أتابع خلال الأسبوعين الماضيين، تصريحات قوية صدرت عن النائب العام السوداني السيد محمد بشارة دوسة توعد فيها المفسدين، خاصة من وصفهم بالمسؤولين الذين رفضوا تقديم إقرارات الذمة، بمساءلة لا هوادة فيها. ولكنه سرعان ما تراجع عن تلك التصريحات، واتهم الصحافة بتحريف ما صدر عنه.
وأول ما استوقفني هو أن تكون محاربة الفساد أولوية تتحدث عنها حكومة تقول أنها تستهدي بهدي الدين الإسلامي الحنيف، ولكن بعد ربع قرن من توليها السلطة. فهناك اتهامات كثيرة يتوقع أن توجه لمن يوصفون بالمتشددين الإسلاميين، ليس الفساد والعدوان على مال الأمة من بينها. فالتشديد في القرآن في مسألة اخذ المال بغير حقه أوضح وأكثر قطعية بكثير من قضايا أخرى ينشغل بها الإسلاميون، مثل لبس المرأة ونحوها. فقد جاء في حق خيانة الأمانة أن من يتورط فيها بأنه: ‘ لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم’. فأي عقوبة أكبر من هذه ياترى عند من يؤمن بالله واليوم الآخر؟
ولكن المصيبة لا تتوقف هنا. فالحديث عن الفساد يوهم بأن مرتكبي هذه الكبيرة من الأفراد، وأنها ظاهرة معزولة ونتيجة مبادرة شخصية. وكثيراً ما تتناول الصحف تقارير المراجع العام وحديثه عن التعدي على المال العام باعتباره المرجعية في التدليل على ظاهرة الفساد. وفي حقيقة الأمر إنه لو اقتصر الأمر على هذا، لأمكن اعتبار المشكلة محلولة. فظواهر الفساد موجودة في كل المجتمعات، وتمكن المراجع العام من تحديد ما وقع من خرق للقانون يعتبر إنجازاً، لانه يمكن النيابة والقضاء من تتبع المذنبين ومعاقبتهم. وبالتالي تنتفي دواعي القلق.
ولكن الفساد الذي يشكو منه الناس هو الفساد البنيوي، أي المقنن والمشرع له، بدءاً من الاستيلاء على السلطة بالقوة، والاحتفاظ بها بكل الوسائل، بما في ذلك تقديم ‘الرشاوي’ للمستقطبين، إما في شكل مناصب ووزارات، أو في أشكال أخرى، إضافة إلى إعطاء الموالين للنظام الأفضلية في المناصب وعقود الدولة. وهذه أمور لا تدخل في صلاحية النائب العام أو القضاء.
ولنضرب أمثلة على ذلك، منها أن رئيس الدولة قد صرح مرة على الملأ أنه يمتلك مزرعة تدر عليه دخلاً يفوق مرتبه كرئيس للجمهورية. ومن المعلوم للقاصي والداني أن مرتب السيد الرئيس منذ توليه الحكم، حتى لو لم يكن ينفق منه مليماً واحداً لإعالة أسرته، ما كان يكفي لشراء هذه المزرعة، ولا العقارات الأخرى التي صرح الرئيس بأنه يمتلكها. وقد تطوع أحد أنصار الرئيس فتبرع بمعلومات عن هذه القضية، قائلاً إن مجموعة من السودانيين المغتربين قد جمعوا فيما بينهم مبالغ مالية لتغطية نفقات بناء منزل الرئيس وشراء المزرعة له.
ولو صح هذا فهو مخالف للشريعة الإسلامية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم اعترض على تلقي عماله الهدايا، قائلاً لمن زعم أنه أهدي له: ‘هلا جلس في بيت أبيه فلينظر هل تأتيه هديته أم لا؟’
والواجب في هذا الأمر أن يبدأ الرئيس بنفسه، فيرد كل عقار أو ملك تحصل عليه بحكم منصبه إلى بيت المال. وقد استثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنزل الذي يسكن فيه الشخص وأسرته.
وينطبق هذا الأمر على كل أفراد أسر المسؤولين من إخوة وأبناء وزوجات، خاصة من تحول منهم إلى ‘رجل أعمال’ يتاجر بنفوذ قريبه. ومن الواجب في أضعف الإيمان كف أيدي هؤلاء، ومراعاة الشفافية عند مشاركتهم في عقود تمنحها الدولة. ويجب إجراء تحقيق علني في ثرواتهم ومصادرها. ومعروف أن استخدام الأقارب كواجهة من قبل المسؤولين للإثراء هو تكتيك تتبعه الأنظمة الدكتاتورية كما شهدنها في مصر وتونس وغيرها. وعليه فإن تقديم إقرارات الذمة لا ينبغي أن يقتصر على المسؤولين، وإنما يجب أن يشمل كل الأقارب من الدرجة الأولى، وربما الثانية أيضاً.
المثال الثاني يتعلق بالحزب الحاكم. ففي إحدى مداخلاته عقب انتخابات عام 2010، افتخر نائب رئيس الحزب د. نافع علي نافع أن الحزب أنفق مليارات الجنيهات في تلك الانتخابات.
وروى في تلك المداخلة أنه جمع أنصار الحزب من رجال الأعمال طالباً منهم التبرع بعشرة مليارات جنيه سوداني، فتعهد أحدهم فوراً بنصف ذلك المبلغ. ونحن بالطبع نحسن الظن برجال الأعمال من أنصار الحزب، وبسخائهم في أمور الخير، ولكن المعروف عن رجال الأعمال كذلك أنهم لا ‘يستثمرون’ أموالهم إلا حيث يكون العائد أكبر. وغني عن القول أن من يتبرع للحزب في جلسة واحدة بكل هذه المليارات لن يجد أي صعوبة في الوصول إلى كبار المسؤولين متى شاء، وطلب ما يراه مناسباً من ‘تسهيلات’. وحتى لو لم يفعل، فإن قيادات الدولة ستفكر فيه حين تكون هناك منافع لتوزيعها على أمثاله. (ولعلنا ننوه هنا بأن الأخ الذي زعم أنه قاد الفئة التي اشترت للرئيس بيته ومزرعته يلمح في مقالاته بأنه يكلم الرئيس وأفراد أسرته متى شاء).
هناك أمثلة أخرى، أبرزها أن الحزب نفسه أنشأ واجهات اقتصادية، وكذلك فإن عدداً من أجهزة الدولة (منها الأمن والجيش) أنشأت بدورها مؤسسات اقتصادية تعمل على قدم المساواة مع مؤسسات القطاع الخاص. وهذه المؤسسات تخلق تشوهات في الاقتصاد على أكثر من مستوى، أولها أن القائمين عليها (وهم في واقع الأمر موظفو دولة) يعاملون، ويتعاملون، بمنطق القطاع الخاص، من ناحية الرواتب والمخصصات والأسهم والأرباح، وبالتالي يعتبر التعيين فيها من المغانم التي تستخدم لمكافأة الموالين واجتذاب الأنصار. ويفهم أيضاً أن من يحتل هذه المواقع لا بد أن يرد الجميل لمن وضعه هناك. من ناحية أخرى فإن هذه المؤسسات تعطى أفضلية على غيرها، مما يؤثر سلباً على منافسيها من المؤسسات، ويضر بأسس المنافسة الشريفة في السوق.
لكل هذا فإن أي تقدم باتجاه محاربة الفساد لا يمكن أن ينفصل عن الإصلاح السياسي الشامل. فما دام الحزب الحاكم يرى ضرورة الاعتماد على أساليب تمويل إشكالية، وما دام المسؤولون يخشون المساءلة، فإن التمسك بالوضع الحالي يصبح الخيار الأوحد. فالإشكال السياسي الأكبر حالياً لا يتمثل في ثقة الحزب في هيمنته على السلطة، بل بالعكس، في عدم ثقة الحزب بقدرته على المنافسة الشريفة على الساحة السياسية. ولهذا فهو يستخدم الأساليب الملتوية، بدءاً من استخدام أجهزة الدولة لعرقلة نشاط الأحزاب المنافسة وتكميم أفواه الناقدين، وانتهاءً باستخدام موارد الدولة لدعم نشاطه ومكافأة مناصريه ومعاقبة المعارضين. ومن كان هذا شأنه فلن يقبل بحوار جدي مع المعارضة، ولن يسمح بإرخاء قبضته على السلطة بحيث يتيح للآخرين التنافس معه على قدم المساواة.
وكانت هناك فرص كثيرة أمام الحزب لإصلاح أوضاعه، خاصة بعد اتفاقية السلام التي ضمنت الاعتراف به دولياً ومحلياً باعتباره صاحب السلطة الشرعية في البلاد، والقيم على الفترة الانتقالية. وكانت تلك مناسبة لكي يطوي الحزب صفحة ماضيه المليء بالأخطاء والمخالفات، ويفتح صفحة جديدة مع بقية القوى السياسية، ويبادر بقيادة عملية التحول الديمقراطي بثقة واقتدار. ولكن كلنا يعرف ما حدث وكيف ضيعت تلك الفرصة. وحتى الآن فإن القيادة المهيمنة على الحزب ما تزال تقاوم جهود الإصلاح، مهما كانت متواضعة، مما يجعل أي توقعات يمكن أن تبنى على نجاح العملية الإصلاحية داخل الحزب غير واقعية.
وهذا يعني بالضرورة عدم وجود أي فرص لنجاح جهود مكافحة الفساد أو أي جهود أخرى لإصلاح جهاز الدولة. فما دام الحزب الحاكم غير واثق حتى من مساندة أنصاره الخلص داخل الحركة الإسلامية، بل وداخل مؤسسات الدولة الحساسة مثل الأمن والجيش، فإنه سيكون أقل تفاؤلاً بمساندة بقية قطاعات الشعب له، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية المتردية. وإن كانت بعض قيادات الحزب قد أخذت في الآونة الأخيرة ‘تلعب الورقة الإسلامية’ وتستحضر خطاباً تعبوياً دينياً كانت في السابق وضعته في الخزانة وهي تجتهد في استمالة الحركة الشعبية من جهة وحكومات الغرب وأجهزة مخابراتها من جهة أخرى، فإن مثل هذه الاستراتيجية لن تجلب في الغالب ثمارها المرجوة، لصعوبة تسويق هذه ‘الصحوة’ المفاجئة لمن يعنيهم الأمر. وهو بهذا لن يكون متحمساً لأي حوار أو إصلاح أو انفراج، وسيحارب حتى النهاية، مما سيكون فيه دمار البلاد والعباد، ومصير مظلم للحزب وأنصاره كذلك.
ولكن إذا كنا مخطئين وما أكثر ما نتمنى الخطأ ونحن نتناول الشأن السوداني- فإن الطريق إلى إثبات حسن النية هو أن يبدأ المسؤولون بأنفسهم، فيعيدوا إلى بيت مال الشعب كل ما كسبوه من المنصب هم وأسرهم، ويبرأوا إلى الله ويستغفروه ويعلنوا ذلك على الملأ. فلا يمكن أن يتحدث المسؤولون عن مقارعة الفساد وهم أول المستفيدين منه. ولا شك أن الناس ستنظر إلى من يفعل هذا بصدق نظرة جديدة، وربما يعطى فرصة أخرى. ربما.
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن