ليس من العدالة تجريم تظاهرات الجياع. بقلم: إبراهيم سليمان

للكوكب الذي نعيش عليه، قوانين ونظم، لا يأبق عنها كائن من كان، نواميس غريزية، تتكفل الطبيعة بتعليمها للجميع، دون إن تترك لأحد خيار الهروب من دروسها، منها من فقد والديه، أحدهما أو كليهما، لا يحتاج لمن يحّرضه على البكاء عليهما، شفقةً، ورهبةً من المجهول، كذلك من يجوع، يفكر تلقائياً فيما سيد به رمقه، دون التفكير في الكيفية أو العواقب، لذا أيّدت الشريعة السمحاء، حق المضطر في أكل النبيلة “الفطيس” وتجاوز المحرم شرعاً من أجل الحفاظ على الحياة، وهو أمر مقدم على مراعاة المحرمات شرعياً وإجتماعياً، ولنا في الخليفة الفاروق قدوة حسنة بتعطيله حد السرقة عام الرمادة، فقد أوقف حد السرقة علي من إمتدت أيديهم إلي أموال الغير، إستيعاباً عبقرياً لمقاصد وروح الشرع الحنيف، وقال قولته المشهودة، كيف أقطع يدا إمتدت لرغيف خبز يمنع صاحبها من الهلاك؟ الخليفة الفاروق كحاكم هنا نظر إلي النفس البشرية بضعفها ولا يحسبها ملاك مطهر يحيا في السماء، لذا مع الفارق، نرى أنّ تجريم ثوار الجوع غير منصف.

لم يستغرب ذي الفطرة السليمة، إندلاع المظاهرات الغاضبة في الكثير من مدن السودان الأسابيع الماضة، ولن يندهش أحد من تكرارها في أية لحظة، بسبب التردي المعيشي نتيجة الغلاء والندرة في السلع الأساسية، من طعامٍ ووقود ودواء منقذ للحياة، بل كان متوقعاً، تماهياً مع الطبيعة البشرية، وإمتثالاً للنواميس الكونية، فلا يظنّ إلاّ غافلاً، أن يقبع المواطن الصالح يتضور جوعاً في بيته، وهم يعلم كعلمه بجوع بطنه، أنّ هناك من يحتكر معاشه، ويسمسر في قوت يومه، لخنق الحكومة وقلتها، ثم قتلهم من بعدها.

الفاشلون من الساسة لا غيرهم، والعاجزون من التنفيذيين وحدهم، من يحاولون إيهام السذّج، أنّ الناس بخير، وأنّ فلول النظام البائد هم من يدغدغون رؤوسهم، ويحرضونهم للخرج إلى الشارع، وإقتحام المتاجر، وإضرام النيران فيها، والخائبين وحدهم من يفترضون إن خرج الناس للشوارع، أن تظل الفلول وأنصار النظام البائد قابعين في منازلهم، يراقبون المشهد من نوافذ أبراجهم العاجية! هذه مثالية لا تناسب عالم اليوم، والواقعيون وحدهم، من يرون طبعياً، أنّ تستغل الفلول الفاسدة، أية سانحة مواتية، لتشويه سمعة الشارع الثوري، وأن تلّطخ ثوب الحكومة الإنتقالية، بالكيفية التي تناسب أخلاقياتها السياسية، وتتماهى مع أساليب منظومتهم البراغماتية غير الأخلاقية، وتتسق مع تاريخهم الأسود في هذا الشأن.

والعاقلون وحدهم، يرون، أنّ على الحكومة الإنتقالية لا غيرها، سد ذرائع الثوران على سياساتها، بدلاً عن الإكتفاء بتجريم الفلول، ولعن قياداتهم، وإعتقالهم خبط عشواء، ذلك أنّ العاقل يميّز بين الحق وبالباطل، ويعرف الواجب والمستحيل.

ومن سابع المستحيلات، أن تمتلئ “القِربة المقدودة”، وإن إستمر النفخ في جوفها بأفواه كافة دستوريّ الجهاز التنفيذي أبد الدهر. وهذه “القِربة” هي المنظومة الإقتصادية لحكومة ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة، منظمة مستسلمة للإبقاء على عصب الموارد المالية في أيدي العسكر وبإمرة المؤسسات الأمنية، والتي يعرف القاصي والداني منبتها ومراميها، وما من ناصح أمين، إلاّ أكد إستحالة معافاة الواقع المعيشي والمالي للبلاد قبل، الولاية التامة لوزارة المالية على المال العام، وعودة العسكر إلى ثكناتهم قبل إنقلابهم المشئوم في 30 يونيو 1989م، وأي حديث عن الإصلاح الإقتصادي غير هذا لهو النفخ في “قربةٍ مقدودة”، بل مفتوحة من الطرف الآخر.

بعد عملية التسليم والتسّلم للمؤسسات الإقتصادية من العسكر والأجهزة الأمنية، والكف عن الإقتراب مطلقا من هذا الشأن المالي، حينها قد تفيد القروض الدولية، في إعادة تأهيل البنى التحتية، وتحريك الماكينات للإنتاج الوفير والتصدير المركز، وليس من أجل سد العجز في الميزانية غير الواقعية. أي أن يكون الشعار، “أقرض، أنتج، صدر”. يقيننا أنّ هذه المسألة، لا تحتاج لدوس عَصُر.

صحيفة الحراك السياسي

19 فبراير 2021م

[email protected]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *