قراءة في أحداث واشنطن ونيويورك طلاق نيويورك (5-5

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءة في أحداث واشنطن ونيويورك

طلاق نيويورك (5-5)

رباح الصادق

في الحلقتين الأوليين من هذه الخماسية رصدنا أحداث الجمعة الأولى 17/9/ 2010م في واشنطن وذكرنا كيف خاطب الشريكان الأمريكان بمصالحهما الحزبية بعيدا عن مصالح الوطن، وفي الحلقة الثالثة بدأنا رصد خطاب أوباما في الجمعة الثانية 24/9 أمام الاجتماع الوزاري للأمم المتحدة بشأن السودان والذي سميناه بالعرس النيويوركي إشارة للهيصة والحشد، بيد أن آخرين أسموه طلاقا إشارة لما دار! وفي في هذه الحلقة نواصل عرض خطاب أوباما وبعض ما دار في نيويورك، معتذرين عن عدم تغطية أحداث هامة هناك، ولكن القضايا الهامة تتالى على رأس الوطن ولا نستطيع المكوث في نيويورك مزيدا.
تحدثنا في الحلقة الثالثة عن أن أوباما في أزمة ويبحث عن شعبية ولذلك فإن خطابه لاجتماع الجمعة 24/9 في نيويورك ركّز على الاستفتاءين لتقرير مصير الجنوب وأبيي، ترضية لعدد من اللوبيات. ورد صفقة الأستاذ علي عثمان. وذلك فيما يتعلق بدارفور ومسألة الرئيس. دارفور ذكرت في خطاب أوباما بشكل مؤثر. حينما كان أوباما يتحدث عن الاستفتاء أشار بأسف لموجة عنف أخيرة في دارفور حصدت حيوات المئات، ولإرث النزاعات التي قتلت مليونين في الجنوب، وشردت ملايين أخرى، وقتلت مئات الآلاف في دارفور مما صدم ضمير العالم. وقال إن هذا الماضي يجب ألا يصبح مستقبل السودان. ذلك ليطمئن الخائفين من أن دارفور قد ضاعت في رجلي الاستفتاء، وهي مخاوف حقيقية، وقائمة، قال: “حتى ونحن نركز على عملية السلام بين الشمال والجنوب، فإننا لن نتخلى عن شعب دارفور”. وبحق، فإن الذي يقرأ خطاب أوباما تفاجئه حرارة العاطفة وقد لا يستطيع إيقاف عيناه أن تدمعا، حينما يتحدث عن دارفور.
صحيح أن أوباما بدأ كلامه بما يشي بدعم إستراتيجية الإنقاذ في دارفور حينما أمن على تعهدات الحكومة السودانية بتحسين الوضع الأمني وظروف المعيشة في دارفور، ووقف العنف وتهيئة الظروف للإغاثة الإنسانية وقوات حفظ السلام للوصول للمحتاجين وتحقيق التنمية وتحسين البنية التحتية والخدمات العامة، ومعلوم أن الإستراتيجية تريد أن تحصر القضية في الملف الخدمي الذي سينجزه قادة دارفور “المنتخبون؟”. وبدا مغنيا على نغمة محبوبة للإنقاذ حينما قال بإمكانية الحل التفاوضي والنهائي للصراع معنفا على الحركات الرافضة لمنبر الدوحة في طلبه من الدول عدم التسامح مع رافضي الانخراط في محادثات السلام.
و بعد كل هذا الاحترام والود، جاء أوباما للكلام الجد؛ الذي يعجب لوبي دارفور والكوكس الأسود مثلما يُعجـَبُ ورِعٌ بالصيام في رجب! صفع أوباما الإستراتيجية: (لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم في دارفور، ولا تطبيع للعلاقات بين السودان والولايات المتحدة، بدون المساءلة عن الجرائم التي ارتكبت. إن المساءلة أمر ضروري ليس فقط بالنسبة لمستقبل السودان، ولكنها ترسل أيضا رسالة قوية حول مسؤوليات جميع الدول بأن هناك سلوك معين هو ببساطة غير مقبول في هذا العالم؛ إن الإبادة الجماعية غير مقبولة. وفي القرن الحادي والعشرين لا بد من التمسك بالقواعد والقيم العالمية). وقال: “إن تحقيق العدالة فيما يتعلق بدارفور هو الشرط الأساسي للتطبيع الكامل بين الولايات المتحدة الأمريكية وحكومة السودان.”
ولم يكتف بتلك الكلمات القويات، بل ذكر تجربة شخصية له في معسكرات اللاجئين الدارفوريين في تشاد، صوّر لقاءه بمعلم يعول تسعة في المعسكر قال إنه لن ينساه وقد ترجّى منه السلام! كرر أوباما رجاء الرجل: نحن بحاجة للسلام، وقال إن الشعب السوداني بحاجة للسلام، قال إنه يريد أن يتحدث مباشرة للشعب السوداني في الشمال والجنوب، مخاطبا إياهم بمعاناتهم الطويلة وممنيا بمستقبل زاهر تحت رايات السلام، مشيرا لتجارب مشابهة في العالم وفي أفريقيا، مؤكدا لقادة السودان إنهم لو سلكوه –السلام- فسيكون “لهم شريك ثابت في الولايات المتحدة الأمريكية”.
أنت تعلم قارئي الكريم وتعلمين قارئتي العزيزة أن أوباما وهو يتحدث عن معاناتنا وعن عذابات الدارفوريين كان ربما يتناغم حينا مع وجهه الإنساني، ولكنه بالأصل كان يخاطب الرأي العام الأمريكي وعينه على انتخابات الكونجرس النصفية في نوفمبر. ومثلما أرضى الكوكس الأسود ولوبي دارفور وأهل النفط فإنه لم ينس أن يرضي لوبي الحريات القوي.
قال أوباما إنه ولتعزيز “كرامة وحقوق الإنسان يجب تمديد ولاية الخبير المستقل للأمم المتحدة في السودان”. هذا خبر غير سعيد للخرطوم.. ولا ننسى أنها ظلت “تحدر” لذلك الخبير المستقل في الظلام، وتسعى للتخلص منه بأي شكل. يقول تقرير أفريكا كونفدنشيال الصادر في 8 أكتوبر الجاري: ” لقد حاول المؤتمر الوطني بمساعدة الكتلتين العربية والأفريقية في الشهر الماضي أن يوقف تجديد ولاية الخبير المستقل في مجال حقوق الإنسان محمد تشاندي عثمان، ولكنه فشل”. نفس التقرير المذكور اعتبر ما دار في نيويرك طلاقا، فبعنوان “السودان: طلاق نيويورك” حكى التقرير كيف اصطدمت الإرادتين المؤتمر أونطجية كما سماها السيد العليم ثروت قاسم، مع إرادة اليانكي (واليانكي هو الأمريكاني! بتعبير أستاذنا الجميل محمد طه القدال).
أوباما الذي قدّم الأستاذ علي عثمان (النائب) على الفريق أول سلفا (النائب الأول) حينما ذكرهما مرتين في خطابه بيوم الجمعة 24/9 وحينما صافحهما، نزولا عن رغبة المؤتمر الوطني و”حَمْدها” في بطن المحكمة الجنائية التي تجعل حضور الرئيس غير ممكن، أمّن على كل مطالب السيد سلفا بأن يـُجرى الاستفتاءان في موعدهما، وأن “الفاولات” غير ممكنة، وزاد عليها مطالب أهل اللوبيات في دارفور والحريات، وكان ذلك “قاسيا” جدا على الأستاذ وتبادله (الرئاسي/ الانفصالي) المعروض: أعطونا رئيسنا سالما من شرور أوكامبو، نعطيكم انفصالكم سالما من مغامرات رامبو!
جاء كذلك في تقرير أفريكا كونفدنشيال أن هناك خلاف دار وراء الكواليس حول أبيي، ففي محادثات الأستاذ علي الخاصة مع مسؤولين أمريكيين، اتضح أن المؤتمر الوطني كأنما يقول”نسينا ما وقعناه حول أبيي! .. وأن العشاء الذي نظمته وزارة الخارجية الأمريكية لعلي عثمان وفريقه في 20 سبتمبر كان ضعيف الحضور وأن الفتور يسري مرة أخرى في العلاقات بين الخرطوم وواشنطن”. (السودان: طلاق نيويورك- أفريكا كونفدنشيال المجلد رقم 51)
لا تنسوا أن أوباما في الجزء الأول الذي استعرضناه في خطابه قد قالها بوضوح إنه سيكون في جميع الأحوال داعما لحكومة الجنوب في كافة ملفات التنمية وداعما للجيش الشعبي، لكن المساعدة لجميع السودانيين –أي للشمال- مربوطة بسماع الكلام!
إن أوباما لم يكن وحده في الدعم غير المحدود لموقف الحركة الشعبية لتحرير السودان. بل انضمت له اللوبيات وقد رأينا كيف جعل الكوكس الأسود متحدثه الرئيسي في مؤتمره السنوي السيد سلفا. كذلك “في مراكز الدراسات والبحث في نيويورك مثل مجلس العلاقات الخارجية والمعهد الدولي للسلام وجد الفريق أول سلفا ترحيبا برسالته أن تاريخ استفتاء 9 يناير غير قابل للتغيير”. (طلاق نيويورك، 8/10).
ذهب الوفدان يبحثان عن تجديد عقد قران بينهما هناك في نيويورك، فكانت النتيجة تشاكس مع (المأذون) أدت لطلاق بين واشنطن والخرطوم! صحيح الخرطوم عليها أن تقرر الآن: هل ستقبل بصفقة الاعتراف بالاستفتاء كما اعترف المجتمع الدولي بالانتخابات؟ أم أنها لا زالت تريد ثمنا جديدا بعد أن قبضت الثمن بالأصل؟ أنت لا تستطيع أن تبيع ما تملك أكثر من مرة، فما بالك تريد أن تبيع ما لا تملك (بلاد السودان) مثنى وثلاث ورباع؟
قال الأستاذ صبري الشفيع، وهو كاتب مجتهد ذو حس إستراتيجي، يكد من أجل أن يكتب وهذه خصلة لا تتوفر لدى أصحاب ذهنيات الاستسهال وما أكثرهم في بلادنا. قال في مقاله بصحيفة الأهرام اليوم (مؤتمر نيويورك، ماراثون الساعات الحرجة.. والوقوف عند بوابة الأسئلة) في 29/9/2010م: (تريد أمريكا استقراراً في الجنوب وفوضى في الشمال من أفلام كلزيوم كما قال عرمان: فيلم عنيف) قال صبري إننا الآن نقف عند (بوابة الأسئلة وعلاقاتها.. ونقف عند بوابة الجحيم.. الأسئلة التي ربما انتهت إجاباتها بالشمال في قاع الهاوية إلا إذا.. نكرر ما قلناه عن البشر وعالم الإرادات الحرة، فهل تنقذنا نخبتنا الحاكمة والمعارضة باستجابتها لإرادة الخير فيها.. ضد إرادة أمريكا الشريرة والمُنذرة في خطاب أوباما فيلتقون). شعرنا ببعض حسرة مع تثميننا العالي لكتابات سابقة للأستاذ صبري أنه، وهو ينقم من وقوف أمريكا مع الجنوب وضد الشمال صوّر الأمر كما لو كان دينيا، كما لو كان أوباما يقف هنا ضد الإسلام، وقال معلقا على أوباما وهو يذكر دارفور (العب غيرها) فأهل دارفور من (سروا بحلقات تلاوة القرآن الكريم إلى قلب الخرطوم، وهم من أسباب شفاعتنا عند الله يوم القيامة، وهم فرسان الإسلام الجهادي.. الإسلام الذي تخشاه أمريكا، وما أمريكا والحركة الشعبية عنهم بغافلين).
نحن طبعا لا ننكر أن اللوبي المسيحي ولوبي الحريات الدينية ممن تنفس الصعداء لخطاب أوباما، ولكننا نعتقد أن كراهة أوباما للشمال لا علاقة لها بالإسلام إلا كعلاقة محبة اليانكي لآل سعود كونهم يعلنون الاحتكام للإسلام! (هي أشياء تـُشترى) بعكس أشياء أمل دنقل!
أترى، حين أفقأ عينيك،
وأثبّت جوهرتين مكانهما،
هل ترى؟
هي أشياءٌ لا تـُشترى!
ونقصد أن حسابات أوباما في الموضوع سواء أكانت النفط أو حتى حصاد الاقتراع الكونجرسي لا علاقة لها بالإسلام.. لقد دعمت أمريكا النميري حتى وهو يخطرف بقوانين سبتمبر الإسلاموية ويقول إنه سيحكمنا بالشريعة (البطالة) ولن يحكمنا بالشريعة (السمحة) فلو كانت أمريكا ضد الشريعة السمحة، فهي بالقطع ضد الشريعة البطالة التي يأتي بها دكتاتور ولكنها دعمته حتى النخاع واستلمت الثمن قواعد عسكرية لها في البحر الأحمر، وتبعية مفرطة من ذلك العهد المشئوم.
صحيح إن أمريكا تفضل الآن التعامل مع حكام جنوبنا الحبيب وتدخل معهم في حالة عشق مفتوح، وتحب أن تكره حكام الشمال وتغني لهم (لو طلعت القمرة وجيت ولو حلفت برب البيت ما بريدك ما بريدك مهما بقيت) والإسلام في هذه المعادلة ليس إلا حيلة الشمال بعد أن عدم التيلة! وأهلنا يقولون: الما عندها تيلة تسوي الحد حيلة! ألم ترحب أمريكا بالقوم حينما أتوا وظلت ترحب بهم حتى بعد أن رفعوا شعاراتهم (الإسلاموية) في يناير 1991م؟ ذلك لأنها كانت ضد الحكومة الديمقراطية لاستقلال رأيها ورفضها التبعية المايوية، وأمريكا المستعلية لا زالت تفضل التعامل مع أحباب الظاهر والباطن أمثال حكام الجنوب، وبعدهم تفضل أحباب الظاهر الذين يظهرون خلاف ما يبطنون (أمثال حكام الإنقاذ)، ولا تفضّل الحكام الديمقراطيين الذين لا يعرضون محبة ولا كرها ولكن فقط التعاون الدولي حسن النية والمصلحة المشتركة.. أمريكا تعودت على قول نعم! لم يسمع فرعون لموسى وإن قال له كلاما هينا ولم يتذكر أو يخشى..
ثم أن أمريكا والغرب كله ليس كومة صماء، فيه من يسمع ويعي، ظاهرة أوباما نفسها دليل على إمكانية اختراق الفرعون! ومن أسوأ ما يمكن أن نقدمه لقضيتنا الوطنية والدينية كذلك هي أن نحول الأمر إلى مبارزة دينية غير حقيقية، فننصرف عن معرفة أصل الداء في حكم الشمال، ثم نحمّل ديننا أوزار تجربة فتكت بالعدل وبالكرامة الإنسانية وبالعقل وبالتسامح والتعايش الديني باسمه.. لماذا نفعل ذلك أيها الشفيع وأنت، يا حفيد ود أم مريوم، سيد العارفين؟
ها أنت تنادي أن نتراص لمجابهة أمريكا التي تقف ضدنا (الشماليين) مع أعدائنا (الجنوبيين) ولكن كيف نتراص وتحت أية راية؟ لقد مُزّقت كل رايات الالتقاء ولأجل ذلك ذهب الأحباب في الجنوب مغاضبين، وظللنا نقول إنهم أحباب ولكن الحائط مكتوب عليه: عبيد ملعونون! استغفر الله إن راوي الكفر ليس بكافر ولا مردد كلمات الجاهليين بجاهلي..قال كرت الإنقاذ المحروق في لقاء معه بصحيفة الشرق الأوسط حينما واجهه محاوره بمرارات الأحباب الجنوبيين:”الحديث عن وصفهم بكلمة «عبيد» حديث تافه وغير مسؤول. نحن نتفاوض على موضوع تاريخي وحاسم، وعن وطن يواجه التقسيم والضغوط الخارجية، وهم يتحدثون عن شتم الناس لهم. الناس يشتمون بعضهم بعضا في كل دول العالم، وعبر التاريخ. واهتمامهم بهذا الموضوع يوضح قصر نظرهم وعدم ثقتهم بأنفسهم. حزب المؤتمر، والحمد لله، واثق من نفسه”. وفي اليوم التالي كتب الأستاذ طارق الحميد بنفس الشرق الأوسط معلقا: “ومن هنا نقول إنه لا أمل في حلول تحافظ على وحدة السودان، فالشق أكبر من الرقع، كما يقال!” (الشرق الأوسط – 28/9/2010م) وعلقت أفريكا كونفدنشيال بأن الحقيقة هي أن الجنوب يبدو بثقة متزايدة كأمة في انتظار، وفي الشمال أمة تنتظر في فزع! والحقيقة أن الفزع يحيط بالجميع، يحيط ببلادنا شمالا وجنوبا، مستقبل داكن السواد –لا قدر الله- وأبناء من عقوقهم لا ينظرون للبلاد وهي تسير نحو الهاوية، يتلمسون حفرة نفط هنا، وقطعة ذهب هناك.. هذه الجيوب ما يشبعها؟ ومتى، ليعيش هذا الشعب المسكين! لقد حدث طلاق في نيويورك بين واشنطن والخرطوم، وسعى بيننا طلاق لشعبين يسقيان من ماء واحد، ويتنفسان هواء واحدا، وكانت بينهما آمال.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وليبق ما بيننا

نشرت بالأحداث في 17 أكتوبر مع تعديل المحرر وشطبه لكلمة عبيد في كلام وزير الخارجية. هذه هي النسخة الأصلية من الكاتبة بدون سنسرة الرسالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *