الخرطوم ” أفريقيا اليوم” صباح موسى
مع بدء العد التنازلي لإستفتاء جنوب السودان في التاسع من يناير الجاري حزم عشرات الآلاف من الجنوبيين الموجوديين بشمال السودان حقائبهم للعودة إلى الجنوب, خوفا من مستقبل رسمت ملامحه تصريحات السياسين القائمين علي مقاليد الأمور في كلا الجانبين ، وبات واضحا أن التصريحات المتبادلة بين شريكي الحكم في السودان( المؤتمر الوطني- الحركة الشعبية) والتي استهدفت مجرد الضغوط والمناورات السياسية قد أصابت الناس هنا بالهلع.
وفي الوقت الذي تعلن فيه الحركة الشعبية دعمها للإنفصال في خطوة يعتبرها المؤتمر الوطني خرقا لروح إتفاق السلام نفسه, وفي الوقت أيضا الذي تطلب فيه الشعبية بالجنسية المزدوجة للجنوبين في الشمال بعد الإنفصال, يرد المؤتمر الوطني بعنف على لسان ” د. كمال عبيد” وزير الإعلام والناطق الرسمي للحكومة بأن الجنوبيين لن يحصلوا حتى علي حقنة واحدة في مستشفيات الشمال … هذا التصريح جاء صادما لمواطني الجنوب البسطاء, وبرر الوطني بعد ذلك تصريح عبيد بأنه كان لمجرد التخويف حتى لا يصوت الناس للإنفصال, وتعجب أحد قادة المؤتمر الوطني من أن الحركة الشعبية تريد إنفصالا ودولة مستقلة وبعد ذلك تريد جنسية مزدوجة, وقال لـ ” أفريقيا اليوم” أن الحركة تريد دولة بلا مسئوليات, فهي تعي تماما أن الجنوبيين سيختارون الحياة في الشمال, ويصبح الحال دولة بلا مواطنيين, ومع ذلك سوف يعامل الجنوبيون في الشمال معاملة خاصة بعد الإنفصال.
تصريح الرئيس البشير أيضا بأنه بعد انفصال الجنوب لن يعترف بتعدد عرقي في السودان, وأنه سوف يطبق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا نزل هو الآخر كالصاعقة على البقية المتبقية التي كانت تريد البقاء في الشمال, كما أصاب حتى الشماليين أنفسهم, و الكل أصبح يتساءل هل سنعود إلى سنوات الإنقاذ الأولى؟ الشباب والفتيات على وجه الخصوص أصابهم خوف من شكل الدولة الجديدة, وهل سيستطعون العيش بها, يتحدثون هكذا وهم يتخيلون صورة جلد الفتاة السودانية التي تناقلتها الفضائيات ووسائل الإعلام مؤخرا ، وفي المقابل فإن حديث البشير شجع الجماعات السلفية والمتشددة بالسودان بالخروج للحديث بصوت عال ومؤازرة الرئيس فيما ذهب إليه, وذهبوا أيضا إلى تحريم الإستفتاء.
هذا الشكل الجديد للدولة السودانية سوف يكون مصدر قلق وريبة للأمريكان والغرب, فهم متخوفون أصلا من أن تكون المنطقة مرتعا للقاعدة بعد الإنفصال, والخرطوم بهذا الشكل الجديد ستكون بيئة مناسبة لتحرك القاعدة, وهنا يأتي السؤال :كيف يتعامل المجتمع الدولي مع هذا السيناريو؟ هل سيكون بالعصا الغليظة الأمر الذي سيتسبب في إنفجار المنطقة؟! أم سيتعامل بطريقة الجزرة مع الخرطوم حتى ينتهى الأمر بسلام؟.
المعارضة السودانية بدورها اجتمعت وإنتهزت الفرصة لتعلن أن النظام في الخرطوم زاد في طغيانه وإستبداده, وأنهم بعد الإنفصال سيتوحدون على خلعه, ولعبوا على وتر مخاوف المواطنين والشارع من مصير مابعد الإنفصال, بالإضافة إلى غلاء الأسعار الملحوظ بالبلاد دون مبرر سوى تأثر الأسواق والإقتصاد كله من هذه المرحلة التي يمر بها السودان والقلق من نشوب حرب بعد الإنفصال, هذا الأمر أصاب الناس بحالة من التذمر تريد أن تستغلها المعارضة في عصيان مدني كبير و إحداث إنفجار في الشارع, إلا أن النظام السوداني يعي ذلك تماما ويرد بعنف على لسان الرئيس بأنه من يريد أن (يخلع الإنقاذ يلحس كوعه) على حد التعبير السوداني, وإذا أرادت الأحزاب تنظيم أي مسيرات لن تجد إلا الرد بعنف وقسوة حتى لا يتكرر هذا الأمر.
الشيخ ” حسن الترابي” زعيم حزب المؤتمر الشعبي السوداني يؤكد أن الإنفصال في السودان صار أمرا واقعا ، وقال لـ ” أفريقيا اليوم” أن المريض الذى لا أمل منه لابد أن يقول للطبيب أنه سيمضي بعد ساعات الى رحمة ربه، والحقائق لابد وأن تقال وتبنى عليها المواقف والأماني من بعد ذلك لاتحتاج الى قولنا.”, مؤكدا أن السودان لو بقي موحدا سيبقى الشمال والجنوب فيه متوازيان, مضيفا قبل سنة ونصف تنبأت بأن التيار يندفع نحو الإنفصال, داعيا إلي أن يكون هذا الإنفصال في بقية مودة, وقال أن الجوار مع الجنوب سيكون جوارا حيا, وسيكون أوسع جوار, على عكس الجوار مع مصر, والذي به صحراء واسعة ، مبينا أن تداعيات الإنفصال ستكون مستمرة على كل أجزاء السودان, وقال إذا حسن الجوار واستدركت الأوضاع في دارفور لربما إتعظ الناس, ولكن الحكومة مستمرة في طغيانها, ومعروف أن الوحدة للترابط, والمواطنة عقد, ولا خير في زواج لا عقد فيه. لافتا أن الحكومة الموجودة في السودان الآن غير إسلامية.
ويقول ” فاروق أبو عيسى” الناطق الرسمي لتجمع المعارضة السودانية لـ ” أفريقيا اليوم” إن المؤتمر الوطني فقد الرؤية, وأن اجتماع المعارضة استهدف محاولة إنقاذ المركب نتيجة لطغيان الوطني, مضيفا : تحملناهم في المرحلة السابقة لكن ماعاد من الممكن تحملهم في وقت بدأ فيه تفتيت البلاد, مشيرا أنهم فشلوا في الحفاظ على الجنوب, ولن نصمت حتى يضيع باقي أجزاء الوطن.
ويذهب ” مكي بلايل” إلي التأكيد علي أن الحكومة الموجودة ليست إسلامية, ويقول لـ ” أفريقيا اليوم” أتوقع أن يكون هناك تصعيد في مرحلة مابعد الإنفصال في التضييق علي الحريات ونشاط التيارات الأصولية لأنه ما تزال هناك أمور عالقة لم تحسم بعد, مشددا علي ضرورة وجود وقفة قوية في مواجهة هذا الوضع.
ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة الشعبية أعلن أنه سيعلن عن تكوين حزب في الشمال بعد أن حلت الحركة قطاع الشمال الذي كان يتولى أمره, وقال لـ ” أفريقيا اليوم” لن يتغير شئ بعد أن حلت الحركة قطاع الشمال, فمبادئي هي هي لم تتغير, ومازلت في مرحلة تحقيقها, بإزالة هذا النظام سواء كنت في الحركة الشعبية أو في أي حزب آخر.
في المقابل يرى عدد من قادة المؤتمر الوطني أن تصريحات أن الرئيس السوداني ” عمر البشير” الغاضبة كلها عبارة عن ردود أفعال, وقال بعضهم لـ ” أفريقيا اليوم” إ أن تصريح الرئيس بتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة بعد الإستفتاء ماهو إلا ردة فعل لتدوير وسائل الإعلام لكليب الفتاة التي جلدت بالخرطوم, مؤكدين أن الحديث عن حكم متشدد بعد الإنفصال غير واقعي, وأن السودان أصلا محكوم بالشريعة الإسلامية وبه مساحات كبيرة للديانات الأخرى.
ويرى المراقبون أن المعارضة السودانية كعادتها تتصيد الفرص للنظام فعند أي أخطاء تجد ضالتها فلم تجتمع عندما قررت الحركة الشعبية الإنفصال إلا في مجرد تصريحات فردية الغرض منها ليس المصلحة الوطنية بل تحميل المؤتمر الوطني ماوصلت إليه البلاد, ولكنها اجتمعت وقت أن أعلن البشير تطبيق الشريعة, وعزمت على خلع الحكومة, وأشارت المصادر أن هذا الأمر يذكر بتحالف المعارضة وتجمعها مع الحركة الشعبية بجوبا قبيل الإنتخابات السودانية في أبريل الماضي, ووقتها عزمت المعارضة على نفس الشئ, ولكنها لم تنجح, فالإنتخابات انتهت والوطني فاز وشكل حكومته, ولم ينجح سوى الحركة الشعبية التي استفادت من هذا التجمع لصالحها وهذا بشهادة المعارضة نفسها.
المشهد الكلي بالسودان قبل أيام معدودة من الإنفصال يؤكد أنها مرحلة نزاع سياسي للنخبة في البلاد, وأن المواطن في الشمال والجنوب في حالة ترقب لما سينتج عنه هذا النزاع, وفي حالة حذر لما هيسفر عنه الإنفصال فهل نحن بصدد حرب أم لا؟
المتابع يرى أن مواطني جنوب السودان هم الذين سيدفعون هذه الفاتورة القاسية لهذا التحول الذي يشهده السودان, فالجنوبيين منساقون نحو مصير مجهول … من السبب فيه؟ سؤال يسأل علنه المسئولون من الطرفين.
وفي جولة ميدانية لـ ” أفريقيا اليوم” بحي (مايو) بالخرطوم والذي يعيشه الجنوبيون وجدنا حالة من الترقب والخوف وعدم الفهم لما سوف يحدث لهم في مقتبل الأيام, الكل في حالة إنتظار لأن يأتي دوره وفق التسجيل للعودة الطوعية للجنوب, الحقائب حزمت والإنتظار موجود للرحيل النهائي إلى الجنوب من الخرطوم التي عاشو فيها سنين طويلة وعلموا أولادهم بها وأصبحت هي بلدهم الأساسي.
تقول “ريجينا بوني” لـ ” أفريقيا اليوم” عشت بالخرطوم 24 عاما, وزوجي توفى, ولم أنجب والوضع بالخرطوم سيكون صعبا بعد الإنفصال, “لأنهم قالوا مافي حقنة تاني “, أنتظر السلاطين يرجعونا لأن أختي ذهبت وليس لي أحد الآن هنا, وزادت أن السلاطين قالوا أنهم سيأخذوا قروش في الجنوب, وسيكون لهم سكن وهيوفروا لهم كل الخدمات, ولذلك من الأفضل أن نذهب. ولم تحدد ” ريجينا” هل هي مع الإنفصال أم الوحدة, وقالت مثلما تقول لنا الحكومة هنعمل.
وترفض ” ميري” الإنفصال وتقول ” لـ ” أفريقيا اليوم” أنا عشت معظم عمري بالخرطوم, قديما قالوا (جدودنا وصونا على الوطن), والإنفصال الذي يحدث الآن سببه القادة وليس الناس, وأضافت أن السياسيين وضعوا السكين على رقبتنا, مؤكدة أن الإنفصال أصلا كان في بنود الإتفاقية, وأن الناس لاتفهم ماسبب هذا الإنفصال, وقالت أنهم قالوا للناس ارجعوا الجنوب, كيف يرجعون والجنوب غير مهيأ لهذه الأعداد الضخمة؟, وهناك مئات الأسر ذهبت ورجعت مرة ثانية لأنهم لم يجدوا المأوى والسكن فعادوا بعد رحلة عذاب في السفر, مشيرة إلي أن قبائل بحر الغزال وأعالي النيل يسافرون بالبر, أما المسافرين إلى جوبا فيرحل النساء والأطفال بالطائرات ولكنهم يفاجئوا بأن لهم فقط 20 كيلو حمولة, فكيف ذلك مع هذه الأمتعة, أما الرجال يسافرون بالبر عن طريق كوستي, مضيفة وفي كوستي هناك مئات من الأسر متكدسة تنتظر البواخر, حتى أن هناك طفل سقط من أمه في المياه, موضحة أن المشكلة الحقيقية هاتكون في شهر مارس لأن الناس ستتعرض لأمراض, متسائلة كيف يذهب هؤلاء الناس إلى أماكن ليس بها أي إمكانات, حتى المدارس سوف يبدأون من جديد لأنها بالإنجليزية, والمدارس في الشمال بالعربية.
أما “جويت” تقول لـ ” أفريقيا اليوم” أعيش في الخرطوم منذ 27 عاما, وبلدي بالجنوب هي ياي, ولدي بنات متزوجين من شماليين, مضيفة أريد الإنفصال وسأذهب لأهلي بالجنوب وإذا وجدت الوضع سئ سأعود لبناتي.
الشاب “جون” بدا متأثرا من الوضع, وقال لـ ” أفريقيا اليوم” أريد أن أعود إلى الجنوب فبلدي حتى لو تعبت فيها أفضل لي من أكون مواطن درجة تانية, مع تطبيق الشريعة الإسلامية, مضيفا كنت طالبا بالجامعة في الجنوب ولكني رجعت للخرطوم منذ 3 سنوات لأني درست بالعربي, ولكني سأعود وأتعلم الإنجليزية وسأدرس من جديد, وسأعمل حتى أستطيع أن أكمل دراستي.
ووفق التقارير والمعلومات للأمم المتحدة فالجنوب غير مهيأ لإستعاب كل هذه الأعداد الضخمة من الجنوبيين, وهناك شح في المياه بجوبا, وأحوال المواطنين في طريقة الترحيل للجنوب قاسية وصعبة.
ويبقى :من المسئول عن هذا الوضع, ومن الذي سيدفع الفاتورة القاسية, ومن السبب في الوصول إلى هذه المرحلة, ومامصير شباب جنوبى ولد وعاش وتعلم بالخرطوم, هل هناك مستشفيات وأدوية كافية للأطفال؟؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها, ويدفع فاتورتها المواطنون الأبرياء.